الهداية رحمة من الله


بسم الله الرحمن الرحيم  

بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه قد جاءه سبيٌ من سبي المشركين إذ بامرأة من السبي تطوف عَجلَى بالقوم، تبدو على مُحَيّاها علامات الذٌّعر والخوف، وترتسم في خطاها معاني الشوق واللهفة، تلفظ أنفاسها سِراعًا، تجسّد لوحة الحنان والرأفة، كلما رأت صبيًا ضمته إلى صدرها عسى أن يكون وليدها، تحدّق النظر فيه، فإذا به ليس هو، تفارقه، لتعاود البحث بين أفواج البشر، وفجأة ألقت بيديها على صبي، نظرت في وجهه فإذا هو قرة العين وريحانة القلب، ضمته إلى صدرها، ليغرق في أعماق الحنان والحب، وراحت تغوص في بحار عطف الأمومة ورحمتها، كل هذا والنبي وأصحابه يرقبون هذا المشهد العجيب لحظة بلحظة، عندها قال النبي - عليه الصلاة والسلام - لأصحابه: ((أترون هذه طارحة ولدها في النار؟!)) قالوا: لا، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) متفق عليه. إن هذه الصورة والمثال الحيّ الذي عاشه الصحابة وقلوبهم ملئت بالعجب من رحمة هذه المرأة بولدها حتى تناست معه الرِقّ الذي رمى بأغلاله عليها، وبعد كل هذا الإعجاب والإكبار قال النبي قولتهº ليحقق في نفوس الصحابة أنه مهما بلغت رحمة الرحماء في الدنيا فهي لا تعدل شيئًا أمام رحمة أرحم الراحمين. ؟! إنها الرحمة التي جَبَل الله الخلقَ عليها، ولكنها لا تساوي قيد أنملة في رحمة الله، قال - تعالى -\" قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَن أَشَاءُ وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ, [الأعراف: 156]. لقد جعل الله هذه الدنيا دارَ عمل وابتلاء، وأنزل فيها من الرحمات والبركات على قلوب من شاء واصطفى من عباده، وكانت هذه الرحمات مؤشرات لبلوغ رحمته وعفوه يوم يقوم الأشهاد. ولكن مع سعة هذه الرحمة وعمومها بقي الموفّق من عباد الله من يتحسّس الخصال التي تُستمطَر بها رحمات الله وبركاته، وعلم الموفقون أن الغاية عندهم وأعلى مقاصدهم الفوز والنجاة يوم يقوم الناس لرب العالمين، فأدرَكوا أن أعظم نسائم الرحمة التي تهبّ على الخلق في هذه الحياة الدنيا أن يوفّقهم الله لسلوك طريق الخير والصلاح والهداية ونهج سبيل أهل الإيمان وحزب الرحمن ليحقق المرء بإحسانه في نفسه قول الله - تعالى -\" إِنَّ رَحمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِن المُحسِنِينَ [الأعراف: 56]، فكلما أحسن العبد كان أقرب من رحمة الله، قال - تعالى -\" إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرجُونَ رَحمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم [البقرة: 218] وكل فردٍ, من الناس يغدو، يسعى منهمكاً في أعماله وشؤونه، يحمل أملاً، وينشد هدفاً، فتصرف الأموال وتنفق الأوقات، ويشغل التفكير في سبيل تحقيق ذلك الهدف، والوصول لتلكم الغاية. لكن أعظم هدف ينشده الإنسان رحمة الله تبارك وتعالى،.معاشر الفضلاء، وإنّ مما تُستمطَر به الرحمات في الدنيا والآخرة سؤال الله - تعالى -هداية الصراط المستقيم الموصل لرحمات رب العالمين، ذلكم الهدف هو الذي تردده في يومك وليلتك عشرات المرات، عندما يلهج لسانك بقول ربك ومولاك \" ٱهدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلمُستَقِيمَ [الفاتحة: 6].

إنها الهداية، أعظم هدف ينشده المؤمن، لينال رحمة الله - تعالى -روى مسلم في صحيحه عن علي - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قل اللهم اهدني وسددني واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم)) وعن سعد - رضي الله عنه - قال: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: علمني كلاماً أقوله إلى أن قال: ((قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني)) رواه مسلم، ونحن نسمع من كثير من الناس دعوات مباركات تسأل الله الهداية والصلاح، ولكن لا تجد لتلك الدعوات واقعاً وأثراً في الأعمال والأقوال.إن الدعاء الذي ندعو به هو الدعاء نفسه الذي كان يدعو به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتابعوهم، ولكنه عند أولئك خرج من قلوب صادقة مخلصة تستشعر ما تدعو وتقول، خرج من قلوب منكسرة تسأل الله بصدق وإلحاح. والسؤال الكبير هل صدق في دعائه بالهداية من أضاع أمر ربه وتهاون في صلاته، وضيع أهله ومن يعول؟ وهل صدق في دعائه بالهداية من لم يزل جسده ينمو وينمو على الحرام والسحت، وهل غاص في معاني ٱهدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلمُستَقِيمَ من جاهر بالمعصية أياً كانت صغيرة أم كبيرة وتبجح بها في داره أو سيارته، في حديثه ومظهره؟ روى أحمد والحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل أهل النار يرى مقعده من الجنة، فيقول: لو أن الله هداني فيكون عليهم حسرة)) قال: ((وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول: لولا أن الله هداني قال: فيكون له شكراً)) وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((لا يكن أحدكم إمَّعة، قالوا: وما الإمعة؟ قال: يقول: أنا مع الناس، إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضَلَلَتُ، ألا لِيُوَطِّنَنَّ أحدكم نفسه على أنه إن كفر الناس لا يكفر)) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: \"والعبد مضطر دائماً إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم، فهو مضطر إلى مقصود هذا الدعاء، فإنه لا نجاة من العذاب ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الآية، وهذا الهدي لا يحصل إلا بهدي الله\" اهـ. فأنت مضطر إليها محتاج مفتقر لها أشد من حاجتك إلى الطعام والشراب والهواء، فبفقدان الغذاء والهواء يموت الجسد، وبفقدان الهدى والنور تموت الروح ويخرب القلب، وشتان بينهما. وكلما ازدادت الطاعة ازدادت الهداية في القلب وظهرت على الجوارح قال - تعالى -\" وَٱلَّذِينَ ٱهتَدَوا زَادَهُم هُدًى وَءاتَـٰهُم تَقُوَاهُم [محمد: 17]. وقال ابن القيم - رحمه الله -: \"الهداية تجر الهداية، والضلال يجر الضلال، فأعمال البر تثمر الهدى، وكلما ازددت منها ازداد الهدى، وأعمال الفجور بالضد، وذلك أن الله يحب أعمال البر فيجازي عليها بالهدى والفلاح، ويبغض أعمال الفجور ويجازي عليها بالضلال والشقاء عباد الله: إن الزلل والخطأ والتقصير سجية بني آدم، فهو ينسى ويسهو، والذي لابد أن يستقر في النفوس أن الخطأ والمعصية لا تنافي السعي في طلب الهداية، والواجب أن لا تكون حاجزاً يمنع العبد من الطاعة أو غشيان مجالس أهلها. والإنسان في صراع منذ خلق مع الهوى والشيطان، والحرب بينهما سجال، فتارة يتغلب على نفسه ويقهرها، وأخرى تغلبه وتغويه، والمؤمن الحق الذي يسعى لتزكية نفسه، سرعان ما يعود ويقلع ويتبع السيئة الحسنة. وعلى هذا يعلم أن الهداية يسيرة سهلة، ولكنها مع هذا عزيزة غالية، تحتاج منك إلى مجاهدة ومرابطة ووعد الله لا يتخلف قال - تعالى -\" وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا \" [العنكبوت: 69]. والأصل فيها ليس الوصول إليها فحسب، بل المهم الثبات عليها وإدامة السعي في طلبها، وقديماً قيل: الصعود إلى القمة يسير، ولكن الصعب الثبات عليها. ولذا كان هم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والموعود بروح وريحان ورب راض غير غضبان، أن يكثر من الدعاء بالهداية، فكثيراً ما كان يدعو ((اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك)) قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: \"إن العبد إذا آمن بالكتاب واهتدى به مجملاً وقبل أوامره وصدق بأخباره، كان ذلك سبباً لهداية أخرى تحصل له على التفصيل، فإن الهداية لا نهاية لها ولو بلغ العبد فيها ما بلغ قال - تعالى -\" وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهتَدَوا هُدًى\".

عن سعد - رضي الله عنه - قال: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: علمني كلاماً أقوله إلى أن قال: ((قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني)) رواه مسلم 1384

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply