العلم المفقود


بسم الله الرحمن الرحيم

• إن الله ـ تبارك الله ـ لما خلق الخلق، وأوجب عليهم طاعتهº جعل لحكمته ـ جل جلاله ـ للعبادات والطاعات والقربات أصنافاً وألواناً شتى، كلها تتمايز فيما بينهاº فبين نفعٍ, قاصر ونفعٍ, متعدي، وبين إصلاح للقلب وتربية للروح، وتضعيفه لمعدن الإيمان في الفوائد..

فمن العبادات ما يقود العبد إلى إصلاح قلبه عن طريق معرفته بالله، ولا أسبق ولا أولى في هذا الميدان من (طلب العلم) فالعلم ـ كما يقول الإمام أحمد: ـ لا يعدله شيء لمن صحت نيته، وهو عبادة العمر (كما ذكره: ابن مفلح ـ الآداب الشرعية) وهو صلاة السر ـ أعتذر لأنني لم أقصد الحديث عن العلم وأعني العلم الموجود، فهناك علمٌ مفقود (إلا عند من وفقه الله)..

• أقول.. فمن القربات: ما يزيد الإنسان تعلقاً بالرب الكريم، ـ جل جلاله ـ هذه العبادات لها آثارٌ فلعلّ من آثارها: أنها أول ما تبدأ بالقلب تنفض عنه غبار الغفلة الذي راكمته الذنوب والمعاصي، نسأل الله أن يعفو عنا..

- ومن آثارها كذلك: أنها تورث القلب راحة وطمأنينة، وسكون ورضا، ويقينٌ بموعود الله - تعالى -لعباده.. فلا يبالي صاحبها بالدنيا، ولا يأبه لأهلها، ولا يفكر في توافهها وملذاتها، كيف.. والقلب قد تعلق بالله.. ووجد الأنس بذكره، واللذة بالقرب منه، والحلاوة في الإيمان به، والعزة بالذل له، والشرف بالخضوع إليه، والنصرة بالتوكل عليه، والرفعة بالركون إليه.

وثقت بربي وفوضت أمري إليه *** وحسبي به من معيني

فلا تبتئس لصروف الزمان *** ودعني فإن يقيني يقيني

• عندها يعيش القلبº أروع اللحظات، حتى إنه ليرى أن النعيم كل النعيم هو الذي يعيشه، والسعادة هي عينها التي يتذوقها، من فتحت له الأسرار علم حقيقة ما عاشه سلفنا الأخيار، فلا تعجب من شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ عندما يقول: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة)، ويقول ـ - رحمه الله - ـ عندما سجن في قلعة دمشق: (ما يفعل أعدائي بيº أنا جنتي وبستاني في صدري، فحبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة).

ولا تعجب لذاك الذي يغمس كسرة الخبز في النهر ثم يأكلها ويقول: (والله لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليها بالسيوف).

بل جاوز أحدهم ـ ولا تستغرب، فالقوم قد حلقت قلوبهم، واعتلت، فهي تتجول حول العرش ـ حتى قال: (والله لو أن أهل الجنة في مثل ما نحن فيه من النعيم لقلت: إنهم في نعيم مقيم).. الله أكبر..

• قلت: فوالله لم يرتفع القوم، إلا بسرائر قد أسرٌّوها وعاجلهم المولى ـ جل جلاله ـ عليها بالنعيم واللذة والسعادة والأنس، في الدنيا، وهي لهم ـ على هذا ـ سجن، فكيف بالنعيم إذاً؟! فاللهم لا تحرمناº اللذة والنعيم بطاعتك، والقرب منك.. آمين..

• أقول ـ أيها الأفاضل ـ فإن ثمن هذه التجارةº هو تعليق القلب بالله، وتخليصه من سفساف الدنيا وحطامها الزائل، فلا بد أن يفرغ القلب لله، والتخلية قبل التحلية، وتأمل هذا الكلام البديع لطبيب القلوب الإمام ابن القيم - رحمه الله - حيث يقول في كتابه الماتع الرائع (الداء والدواء): [لو صحت العقول لعلمت أن طريق تحصيل اللذة والسرور والفرحة وطيب العيشº إنما هو في رضا من النعيم كله في رضاه]..

وصدق والله، كيف لا تقّر العين، ولا تهدأ النفس، ولا يطمئن القلب، بإلهه وخالقه ومولاه جل جلاله، فمن كل شيء يفوت العبد يجد فيه العوض، ولكن أنى له أن يجد العوض من فاته الله - تعالى -؟!

ما ضاق بالمرء أمرٌ واستعدّ له *** عبادةَ الله إلا جاءه الفرجُ

ولا أناخ بباب الله ذو ألمٍ, *** إلا تزحزح عنه الهم والفرجُ

• فالجأ أيها الغالي إلى مولاكº وفرّ إليه ألا يحرمك النعيم والحبور، واللذة والسرور، اقطع حبال الخلائق أجمعين، وصل حبالك بالخالق الجليل، فمن قرّت عينه بالله قرت به كل عين..

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply