الروض العاطر من كلام ابن الجوزي في صيد الخاطر


بسم الله الرحمن الرحيم

أحمدُ الله إليكم الذي منَّ علينا بالإسلام، واتباع هدي نبيه محمد وصحابته الكرام، وبعد: لا تزال نفسي ونفس كل طالب عالم بحاجة إلى من يبصرها طريق الحق، ويزيل عنها كدر الدنيا، ويوضّح لها منهج عباد الله الصالحين، الذين فازوا بالحسنيين، واعتلوا عتبات المجد بحسن الفهم، وسلامة المنهج. ولأن القلوب تتأثر بمن حولها، وتكتسب من حميد الفعل وقبيحه، وتغتر النفوس بظواهر الأعمال، ويغيب عنها مكنونات الهداية، وأسرار الحِكَم في أصناف الناس وطرائقهم، كان الوقوف على كلام السلف الصالحين من الطرق التي تفتح الأبواب المغلقة أمام بعض الفهوم، وتجلي الغموض في ذلك، وأحسب أن كلام أبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي ت597هـ في صيد الخاطر جزء من ذلك. لذلك أردت تذكير نفسي وأحبتي بشيء من هذه العبارات، والمعاني النبيهة، والجوامع المفيدة، والكلمات السيّارة، ما يحيي الهمم، ويبني الأفهام بناءًا سليمًا. وأنا أعتمد على طبعة (يظهر أنها متوسطة الجودة في التحقيق) لـ محمد بن عبدالرحمن عوض نشر دار الكتاب العربي، وقد كُتب على الغلاف تحت اسم المؤلف (510هـ-597هـ) وفي الترجمة داخل الكتاب أنه ولد 514هـ!. نسبة ابن الجوزي اشتهر نسبة ابن الجوزي إلى شرعة الجوز وهي مرفأ على النهر، وقيل نسبةً إلى جوزة كانت في دار أحد أجداده بواسط. وإليك هذه الفائدة من الأخ المسيطير - نفع الله به- عن ابن ابن الجوزي: {- ابن القيم - رحمه الله تعالى -: نسبة إلى المدرسة التي أنشأها محي الدين أبو المحاسن يوسف بن عبدالرحمن بن علي بن الجوزي المتوفي سنة 656هـ لأن أباه كان قيمّا عليها (مقدمة زاد المعاد).

قلتُ: لذلك يخطئ البعض حينما يقول: ابن القيم الجوزية، والصحيح أن يقال: أبن قيم الجوزية، فالقيم في العرف الحاضر هو المدير، فلا يصح أن تقول: ابن المدير المدرسة، وإنما الصحيح يقال: ابن مدير المدرسة. } مقدمة ابن الجوزي.

الحمد لله حمداً يبلغ رضاه وصلى الله على أشرف من اجتباه وعلى من صاحبه ووالاه وسلم تسليماً لا يدرك منتهاه. لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها ثم تعرض عنها فتذهب كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر لكيلا ينسى. وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: قيدوا العلم بالكتابة. وكم قد خطر لي شيء فأتشاغل عن إثباته فيذهب فأتأسف عليه. ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر سنح له من عجائب الغيب ما لم يكن في حساب فأنثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه فجعلت هذا الكتاب قيداً - لصيد الخاطر - والله ولي النفع إنه قريب مجيب.

فصل بين اليقظة والغفلة قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة، فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت القساوة و الغفلة! فتدبرة السبب في ذلك فعرفته. ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفته من اليقظه عند سماع الموعظة و بعدها، لسببين: أحدهما: أن المواعظ كالسياط ، و السياط لا تؤلم بعد انقضائها إيلامها وقت و قوعها. و الثاني: أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلة، قد تخلى بجسمه و فكره عن أسباب الدنيا ، و أنصت بحضور قلبه، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها، وكيف يصح أن يكون كما كان؟ . و هذه حالة تعم الخلق إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر: فمنهم من يعزم بلا تردد، و يمضي من غير التفات، فلو توقف بهم ركب الطبع لضجوا، كما قال حنظلة عن نفسه: نافق حنظلة! و منهم أقوام يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحياناً، و يدعوهم ما تقدم من المواعظ إلى العمل أحياناً، فهم كالسنبلة تميلها الرياح! و أقوام لا يؤثر فيهم إلا بمقدار سماعه، كماء دحرجته على صفوان. وقال في جواذب النفس: فأما الطبع فجواذبه كثيرة، و ليس العجب أن يَغلِب! إنما العجب أن يُغلَب وقال - رحمه الله -: لقد أراك مصرع غيرك مصرعك، و أبدى مضجع سواك ـ قبل الممات ـ مضجعك. و قد شغلك نيل لذاتك ، عن ذكر خراب ذاتك:

كأنك لم تسمع بأخبار من مضى **و لم تر في الباقين ما يصنع الدهر

فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم ** محاها مجال الريح بعدك و القبر

وقال: من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة، و من ادّعى الصبر، وُكِلَ إلى نفسهِ. و رُبَّ نظرة لم تناظِر! و أحق الأشياء بالضبط و القهر: اللسان و العين. فإياك إياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى، مع مقاربة الفتنة، فإن الهوى مكايد. وقال في جواذب النفس: و إني تدبرت أحوال أكثر العلماء و المتزهدين فرأيتهم في عقوبات لا يُحسِّون بها و معظمها من قبل طلبهم للرياسة. فالعالم منهم يغضب إن رُدَّ عليه خطؤه، والواعظ متصنع بوعظه، و المتزهِّد منافق أو مراء. فأول عقوباتهم، إعراضهم عن الحق شغلا بالخلق. و من خفي عقوباتهم سلب حلاوة المناجاة، و لذة التعبد إلا رجال مؤمنون، و نساء مؤمنات،يحفظ الله بهم الأرض، بواطنهم كظواهرهم، بل أجلى، و سرائرهم كعلانيتهم، بل أحلى ، و هممهم عند الثريا، بل أعلى. إن عرفوا تنكَّروا، و إن رئيت لهم كرامة، أنكروا. فالناس في غفلاتهم، و هم في قطع فلاتهم، تحبهم بقاع الأرض، و تفرح بهم أملاك السماء. نسأل الله - عز وجل - التوفيق لاتباعهم، و أن يجعلنا من أتباعهم. وقال في الذنب وعقوبته: خطرت لي فكرة فيما يجري على كثير من العالم من المصائب الشديدة، و البلايا العظيمة، التي تتناهى إلى نهاية الصعوبة فقلت: سبحان الله! إن الله أكرم الأكرمين، و الكرم يوجب المسامحة. فما وجه هذه المعاقبة؟ فتكفرت، فرأيت كثيراً من الناس في وجودهم كالعدم، لا يتصفحون أدلة الوحدانية، و لا ينظرون في أوامر الله تعالى و نواهيه، بل يجرون ـ على عاداتهم ـ كالبهائم. فإن وافق الشرع مرادهم و إلا فمعولهم على أغراضهم. و بعد حصول الدينار، لا يبالون، أمن حلال كان أم من حرام. و إن سهلت عليهم الصلاة فعلوها، و إن لم تسهل تركوها.

وقال - رحمه الله -: تأملت التحاسد بين العلماء، فرأيت منشأه من حب الدنيا، فإن علماء الآخرة يتوادون و لا يتحاسدون، كما قال - عز وجل -:و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا. و قال الله تعالى:\"والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا\". و الأمر الفارق بين الفئتين: أن علماء الدنيا ينظرون إلى الرياسة فيها، و يحبون كثرة الجمع و الثناء. و علماء الآخرة، بمعزل من إيثار ذلك، و قد كانوا يتخوفونه، و يرحمون من بلي به. و كان النخعي، لا يستند إلى سارية. و قال علقمة: أكره أن يوطأ عقبي. و يقال علقمة. و كان بعضهم، إذا جلس إليه أكثر من أربعة، قام عنهم. و كانوا يتدافعون الفتوى، و يحبون الخمول.

وقال - رحمه الله -: من أحب تصفية الأحوال فليجتهد في تصفية الأعمال، قال الله - تعالى -(وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءًا غدقًا). وقال أبو سليمان الداراني: من صفَّى صُفِّيَ له ومن كدَّرَ كُدِّرَ عليه. وكان الفضيل بن عياض يقول: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي. واعلم وفقك الله: أنه لا يُحَسٌّ بضربة مبنَّج، وإنما يعرف الزيادة من النقصان المحاسب لنفسه. ومتى رأيت تكديرًا في حال فاذكر نعمةً ما شُكرت، أو زلة قد فُعلت، واحذر من نفار النعم، ومفاجأة النقم، ولا تغتبط بسعة بساط الحلم، فربما عجل انقباضه. ما يطيقه البشر وما لا يطيقونه من التكليف.

وقال - رحمه الله -: تفكرتُ يومًا في التكليف فرأيته ينقسم إلى سهل وصعب. فأما السهل فهو أعمال الجوارح، إلا أن منه ما هو أصعب من بعض. فالوضوء و الصلاة أسهل من الصوم، و الصوم ربما كان عند قوم أسهل من الزكاة. وأما الصعب فيتفاوت، فبعضها أصعب من بعض. فمن المستصعب، النظر و الاستدلال الموصلان إلى معرفة الخالق. فهذا صعب عند من غلبت عليه أمور الحس، سهل عند أهل العقل. و من المستصعب غلبة الهوى، و قهر النفوس، و كفِّ أكف الطباع عن التصرف فيما يؤثره. و كل هذا يسهل على العاقل النظر في ثوابه و رجاء عاقبته و إن شق عاجلاً. و إنما أصعب التكاليف و أعجبها: أنه قد ثبتت حكمة الخالق عند العقل، ثم نراه يفقر المتشاغل بالعلم المقبل على العبادة حتى يعضه الفقر بناجذيه فيذل للجاهل في طلب القوت. و يغنى الفاسق مع الجهل، حتى تفيض الدنيا عليه... و في مثل هذه الأشياء تحير خلق، حتى خرجوا إلى الكفر و التكذيب. و لو فتشوا على سر هذه الأشياء، لعلموا أن تسليم هذه الأمور، تكليف العقل ليذعن! و هذا أصل إذا فهم حصل منه السلامة و التسليم. نسأل الله - عز وجل - أن يكشف لنا الغوامض، التي حيرت من ضل، أنه قريب مجيب. أهمية الزمن.

وقال - رحمه الله -: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، و قدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة. و يقدم الأفضل فالأفضل من القول و العمل. و لتكن نيته في الخير قائمة، من غير فتور ربما لا يعجز عنه البدن من العمل، كما جاء في الحديث: نية المؤمن خير من عمله.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply