رهبان بالليل ... فرسان بالنهار


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في سكون الليل وهدوئه تحلو المناجاة، ويكون التذكر والعودة إلى الله، وإنها لمدرسة حقًّا فيها وحدها يزكو الإيمان، وينشر النور، ويعيش المسلم ملتزمًا بقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بقيام الليلº فإنه دأب الصالحين قبلكم، فإنَّ قيام الليل قربةٌ إلى الله- عز وجل - وتكفيرٌ للذنوب، ومطردةٌ للداء عن الجسد، ومنهاةٌ عن الإثم» (أخرجه الترمذي ورواه الطبراني بسند حسن).

 

فضل قيام الليل:

جاء جبريل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال: \"يا محمد، عِش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزيُّ به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أنَّ شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس\"، وأخرج الطبراني في معجمه الكبير بإسناد حسن عن أبي الدرداء- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم، الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءهـا بنفسه فإما أن يقتل وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول الله: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه، والذي له امرأة حسناء وفراش ليـن حسن فيقوم من الليل، فيقول: يذر شهوته ويذكرني ولو شاء لرقـد، والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا فقـام في السحر في ضراء وسراء».

لقد أشار القرآن إلى حال هؤلاء الأبرار مع ربهم، الحال التي استحقوا عليها هذا الحب والرضوان فقال: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالقَانِتِينَ وَالمُنفِقِينَ وَالمُستَغفِرِينَ بِالأَسحَارِ} (آل عمران: 16- 17) في هذا التوجه الخالص ما ينمٌّ عن حقيقة قلوبهم وتقواهم وإخلاصهم وتجردهم استحضارهم للآخرة والإنابة إليها، والتجافي عن دار الغرور والعزوف عنها.

يقول صاحب الظلال: \"في كل صفةٍ, من صفاتهم تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإنسانية، ففي الصبر ترفعٌ على الألم، واستعلاءٌ على الشكوى، وثباتٌ على تكاليف الدعوة، وأداءٌ لتكاليف الحق، وتسليمٌ لله، واستسلامٌ لما يريد بهم من الأمر، وقبولٌ لحكمه ورضاه، وفي الصدق اعتزازٌ بالحق الذي هو قوام الوجود، وترفعٌ عن الضعف، فما الكذب إلا ضعفٌ عن كلمة الحق، اتقاءً لضرر أو اجتلابًا لمنفعة، وفي القنوت لله أداء لحق الإلوهية وواجب العبودية، وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت لله الواحد الذي لا قنوت لسواه، وفي الإنفاق تحرر من استذلال المال، وانفلات من ربقة الشح، وإعلاء لحقيقة الأخوة الإنسانية على شهوة اللذة الشخصية، وتكافل بين الناس يليق بعالم يسكنه الناس، والاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقي ظلالاً رفافةً نديةً عميقةً، ولفظة الأسحار بذاتها ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر، الفترة التي يصفو فيها الجو ويرقى ويسكن، وتترقرق فيها خواطر النفس وخوالجها الحبيبة، فإذا انضمت إليها صورة الاستغفار ألفت تلك الظلال المناسبة في عالم النفس وفي ضمير الوجود سواء، وتلاقت روح الإنسانية وروح الكون في الاتجاه لبارئ الكون وبارئ الإنسان.

أين نحن من هؤلاء الأبرار؟ وهل لواحدٍ, منا العذر عند الله في تخلفه عن هذا الركب؟ وأخذه لهذا الزاد؟ إنه في مقدورنا وفي إمكاننا فلا نحرم أنفسنا منه، ونضيع أعمارنا ونحن نلهث وراء السراب، بل يجب أن يكون واقع المسلم تطبيقًا لما يدعو إليه، وأن يكون كل مواقفه شهادة له لا عليه\".

 

رجال في المحراب:

ولقد حفظت لنا سيرة أسلافنا صورًا كريمة توضح مدى حرصهم على قيام الليل، وعلى إحياء هذه الشعيرة في أشق الظروف وأشدها ونشير إلى جانب من هذه السيرة العطرة لتكون نبراسا لشبابنا المسلم المتبع والملتزم.

(فبعد أن انتهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غزوة ذات الرقاع) نزل المسلمون في مكان يستريحون فيه، واختار الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفرًا من الصحابة للحراسة، وكان من بينهم عمار بن ياسر، وعباد بن بشر- رضوان الله عليهم جميعًا-، وطلب عباد من عمار أن ينام ويستريح في أول الليل على أن يقوم هو بالحراسة.

وفي ظلام الليل وبين الصخور والصمت وقف عباد يصلي، وانساب القرآن من فمه، وامتلأت جوانحه بالرحيق المختوم، وإذا بشيطان غادر يرميه في الظلام بسهمٍ, في عضده فنزعه ومضى في صلاته، ثم رماه بسهم غادر آخر نزعه أيضًا واستمر في صلاته، ثم ركع وسجد، ومد يده إلى صاحبه يوقظه، وصحا عمار، ونظر إلى الدماء تنزف من أخيه، ويقول له: هلا أيقظتني أول ما رميت، فرد عليه عباد- رضي الله عنه- كنت أقرأ في صلاتي آيات من القرآن فلم أحب أن أقطعها، ولولا حرصي على الثغر الذي أُمرتُ بحفظه لآثرت الموت على قطع الآيات التي كنت أتلوها.

هذه بعض نفحات قيام الليل:صفاء القلب، وارتفاع فوق الدنيا وهمومها، وسعادة للروح، وزاد للمؤمن، وراحة للنفس، وفي الحديث: «إنَّ من الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله - تعالى -خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه» (أخرجه الإمام مسلم).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply