علوم الدنيا لا تورث الخشية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الدتور عبد الكريم الخضير: العلم الذي لا يورث صاحبه الخشية ليس بعلم .

 ل العلوم الأخرى لا تورث الخشية التي يورثها العلم الشرعي .

العلم يورث الإيمان والطمأنينة وراحة البال .

لين موقفنا من علمائنا موقف الاعتزاز .

الفتيا بغير علم ذب.

 

فضل العلم والعلماء كبير، وهذه الأمة تعرف لعلمائها فضلهم ومكانتهم، ومن توفيق الله على بلاد الحرمين ومهبط الوحي أن هيأ لها العلم وخصها بعلماء راسخين ربانيين يقومون بواجب البيان كما أمرهم ربهم، وكما علمهم قدوتهم ومورثهم العلم، رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

ومع ذلك، فإن الأمة تعاني وخاصة في الأزمان المتأخرة من ظهور بعض أدعياء العلم والمفتين بجهل، وقد تسنموا وسائل الإعلام المختلفة، ركبوا مطية الفضائيات فأفتوا بضلالاتهم ونشروا جهلهم وتبعهم من تبعهم من حداثي الأسنان وضعاف الإيمان والقلوب.

 

فضيلة الدكتور عبدالكريم بن عبدالله الخضير عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض يتناول في محاضرة قيمة له فضل العلم ومكانة العلماء وآثار وسلبيات قبض العلماء، وصفة العلماء العدول والموقف من علوم الدنيا والعلم الذي يورث الخشية من الله وغيرها من القضايا المهمة التي نتابعها في هذه المحاضرة.

 

فضل العلم ومكانة العلماء

 بدأ فضيلة الدكتور الخضير محاضرته ببيان فضل العلم ومكانة العلماء في الإسلام فقال: إن فضل العلم كبير ومكانة العلماء عظيمة وتؤكد ذلك النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة التي منها قول الله - عز وجل - {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم}، فالله أشهد نفسه وثنى بملائكته وأشهدهم وثلث بأولي العلم على أعظم مشهود به وهو الوحدانية له جل وعل..فالشهادة على العظيم إنما يطلب لها العظماء.

 

وقد قال ابن القيم - رحمه الله -: إن هذه الآية من أعظم الأدلة على فضل العلماء وشرفهم.. وسبق ابن القيم إلى ذلك ابن عبد البر الذي يرى أن كل من يحمل العلم فهو عدل في تفسيره للحديث (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله).. ومن أعظم وسائل تحصيل العلم التقوى وحقيقة التقوى الالتزام بالمأمورات واجتناب المحظورات {واتقوا الله ويعلمكم الله} وبهذا فإن ما يحمله الفساق ليس بعلم وحديث (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله).

وإن صيغته صيغة الخبر إلا أن معناه ومقتضاه الأمر ويدل على ذلك ما جاء في بعض الروايات للحديث من اقتران الفعل المضارع بلام الأمر (ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) وفي هذا حث للتقاة بأن يحملوا العلم ولا يتركوا المجال للفساق بأن يتصدوا لأخذ العلم أو تعليمه لأن الفاسق إذا حمل شيئا من العلم ووثق الناس بعمله وأفتاهم، لا شك أنهم يقتدون به في أقواله وفي أفعاله وهو قد فعل المحرم، فطالب العلم عليه أن يكون قدوة بأفعاله قبل أن يكون قدوة بأقواله..

 

فالناس ينظرون إلى العالم وطالب العلم على أنه يحمل الشرع، والشرع إنما جاء عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الأسوة والقدوة، فالمقرر عند أهل العلم أن العاصي ليس من أهل العلم حتى لو كان يحمل هذا العلم شاء أم أبى، فالشرط أن يكون مع العلم التقوى والدين والورع.. فليس في فتواه مفتي متبع ما لم يضف للعلم والدين الورع.. فالذي لا يتصف بالورع حمله ذلك إلى أن يفتي بهواه خوفا أو طمعا فيكون بذلك ممن يضل الناس بسببه نسأل الله السلامة والعافية.

 

الاستزادة من العلم

ويؤكد الدكتور الخضير أن الله - جل وعلا -، لم يطلب من نبيه الاستزادة من شيء إلا من العلم دليلا على أهمية العلم الذي يحمله العلماء وجاء ذلك في قوله - تعالى -: {وقل رب زدني علما}، مضيفا فضيلته أن الله - جل وعلا - نوه بمنازل العلماء{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}. وقال - جل وعلا -: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، فالعلم الذي جاء الحث عليه هو العلم المورث للخشية لله جل وعلا.. فالعلم الذي لا يورث صاحبه الخشية ليس بعلم.. ومن أعظم ما يعنى به طالب العلم القرآن الكريم بقراءته على الوجه المأمور به وتدبره، وهذا يورث من الإيمان والطمأنينة وراحة البال ما لا يدركه إلا من جربه، ومراجعة كلام أهل العلم، يستعان بذلك على فهم القرآن وتدبره والعمل به.. وقبل ذلك ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما ثبت عنه من أعظم ما يعين على فهم القرآن، لأن السنة تبين وتفسر القرآن.

ونحن مقيدون بفهم سلف هذه الأمة وعلم السلف كما قرر الإمام الحافظ ابن رجب لا يستغنى عنه طالب علم، ومع الأسف أن نجد طالب العلم يعني بكتب المتأخرين ويهمل كتب المتقدمين. يقولون لأن المتأخرين بسطوا المسائل، وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إذا دعت الحاجة إلى ذلك فلا بد من سلوك هذا المسلك، أما أن تشقق المسائل ويؤتى بالأساليب والإنشاءات ويستطرد في ذكر المسائل بكلام مكرور ممجوج كما يفعل كثير من المتأخرين فمثل هذا يصدر عن تحصيل العلم الشرعي.

وماذا عن علوم الدنيا؟ نعود إلى حقيقة العلم المأمور به في النصوص كما قال الله - جل وعلا -: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} وهو العلم المورث للخشية، إذن هو علم الكتاب والسنة وما يخدم الكتاب والسنة ويعين على فهمهم.

وماذا عن العلوم التي يخصونها باسم العلم؟ فيقولون التخصصات العلمية أو الأقسام العلمية وما إلى ذلك ويريدون بذلك علوم الدنيا من رياضيات وطب وهندسة وغيرها، وهذه ليست مثل العلم الشرعي ولا تورث الخشية بذاتها، وليست داخلة في النصوص التي تحث على العلم، بل هي كغيرها مما يكتسب به المال كالزراعة والصناعة والنجارة وغيرها ولا يؤجر صاحبها إلا بقدر ما ينوي به نفع المسلمين وعدم احتياجهم إلى غيرهم.

وقد يقول قائل: رأينا من بعض الأطباء من توصل إلى الخوف والخشية من الله - جل وعلا - بواسطة الطب أكثر مما توصل إليه كثير ممن درس الطب الشرعي وهذا موجود وكلام صحيح، ولكن ليس علم الدنيا الذي أورثه الخشية. إنما يدخل ذلك في باب الاعتبار والتفكر فتشمله الآية من أواخر سورة آل عمران: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض} الآيات. وهكذا تفكر الأعرابي الذي يعيش بين غنمه ومع المرعى وليس عنده لا علم شرعي ولا علم دنيوي ولكنه نظر في السموات والأرض وفي النجوم وأورثه هذا النظر خشية من الله، وخشيته هذه الناتجة عن التفكر هي في حد ذاته عبادة. لكن العلم الشرعي يورث الخشية في ذاته فمن يقرأ القرآن على الوجه المأمور به ويتدبره لا شك أنه يكون أخشى لله - جل وعلا - من غيره، وكلما يكون المرء بالله أعرف يكون منه أخوف وله أتقى، ولذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (إن أعلمكم بالله وأخشاكم واتقاكم لأنا).

ولا علم يمكن أن يصل إليه شخص من هذه الأمة إلا عن طريقه - عليه الصلاة والسلام -، ومن زعم أن بإمكانه أن يصل إلى علم شرعي بنفسه وبوسائل أخرى من غير طريقه - عليه الصلاة والسلام - فهذا على خطر عظيم، ومن اعتقد أنه يسعه الخروج من ملته وشريعته - عليه الصلاة والسلام - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى، فهذا ناقض من نواقض الإسلام، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى الثقلين، الجن والإنس.

العلم ميراث النبوة

وبين الدكتور الخضير أن هذا العلم الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن وفقه الله - جل وعلا - واهتدى بهديه وحمل ما جاء به من علم فقد حمل ميراث النبوة والذي هو العلم لأن العلماء هم ورثة الأنبياء والأنبياء لم يوروثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم، وهذا حديث لا بآس به مخرج من عند أبي داود والترمذي والحاكم وذكره البخادي في الترجمة.. هؤلاء العلماء الذي ورثوا العلم قاموا بدورهم فعلموا ووجهوا وما زال العلم يتوارث يرثه الآخر من الأول عبر الأزمان.. ولو تصورنا أن شخصا أو أفرادا يعيشون في بلد ليس فيه عالم وليس فيه علم شرعي، كيف يعرفون الله - جل وعلا -؟ وكيف يعبدونه؟ قد يقعون في الشرك الأكبر المخرج عن الملة وهم لا يشعرون، قد يذبحون لغير الله وهذا حاصل، ويقترفون الآثام والمنكرات فلا يجدون من يعلمهم ويبين لهم الحلال والحرام، يقعون فيما يخالف الدين مخالفة كبيرة، كما هو حادث في كثير من البلدان ولا يجدون من يبين لهم الحق، نعم في هذه الأزمان تيسرت وسائل الاتصال ولكن هذا لا يغني عن وجود العلماء وقد أفتى جمع من أهل العلم بتحريم البقاء في بلد ليس فيه عالم لماذا؟ لأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فكيف يعبد أناس ربهم على بصيرة وليس عندهم عالم يأخذون عنه العلم ويعرفون العلم، فأين أهل العلم فالله - جل وعلا - يقول: {اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}.. فأهمية العلم والعلماء تظهر في أنهم يوجهون العبادة إلى عبادة ربهم عبادة صحيحة ويبينون لهم الحلال والحرام ويعلمونهم التوحيد ويحذرونهم من الشرك أصغره وأكبره.. فالهدف الحقيقي من وجود الجن والإنس و عبادة الله {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، والعبادة لا تتحقق إلا بوجود العلماء، وإذا كان أمكن أن يعيش الناس في حياتهم في الأكل والشرب بدون علماء فإنهم لا يمكن أن يعيشوا فيما يقيم الدين إلا بالعلماء.. والحاجة إلى ما يقيم الدين أعظم، لأن الدين إذا لم يقم في حياة الفرد خسر الدنيا والآخرة، أما إذا لم يجد ما يقيم بدنه خسر الدنيا فقط، وخسارة الدنيا أهون لأنها الفانية والآخرة خير وأبقى، فالناس في حاجة إلى ما يقيم أديانهم أكثر من حاجتهم إلى ما يقيم أبدانهم: وكل كسر فإن الدين يجبره وما لكسر في قناة الدين جبران موت العلماء ثلمة، ولأن مكانة العلماء كبيرة في الأمة، فإن قبض العلماء ثلمة والثلمة في الحائط وغيره أي الخلل والنقص، وفقد العلماء وقبضهم ثلمة إذا كان هناك من يقوم مقامهم بعدهم فكيف إذا كان الأمر لا يوجد من يقوم مقامهم، ولقد أدركنا شيء من هذا من قبضه العلماء وإن كانت الأمة لا زال فيها خير وخاصة هذا البلاد التي فيها من العلماء الربانيين الراسخين النصيب الأوفر ولله الحمد ولا زالت محط أنظار العالم. وفي الحديث الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال وإنما يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).. ومع أننا نعيش بين علماء عاملين ربانيين ولله الحمد ومع ذلك وجد بقبض بعض العلماء من تنفس وصار يفتي برأيه وله جمهور، ويفتي من خلال وسائل وقنوات وغيرها بغير علم مع أن أهل العلم موجودون، وبذا لا يجوز لمن عنده شيء من العلم أن يكتمه، فالله - جل وعلا - أخذ العهد والميثاق على أهل العلم أن يعلموا ويبينوا وإلا فإن كتمان العلم أمر عظيم يقول - تعالى -: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}، وفي الحديث: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)، وهذا حث وحفز للأكفاء أن يعلموا ويبينوا ويفتوا الناس، لكن ليس هذا بمبرر لغيرهم أن يجرأوا على الفتيا، فالجرأة على الفتيا من غير علم من عظائم الأمور لأنها كذب على الله{ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام}، ويدخل الذي يفتي بغير علم دخولا أوليا في قول الله - جل وعلا -: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة}، فالفتيا بغير علم كذب.. فليتقي الله - جل وعلا - من عنده علم أن يبينه للناس ومن لا علم عنده أن يكف عن مثل هذا.. النيل منهم والمغالاة فيهم إن موقف الأمة من علمائها موقف وسط ومعتدل، فهذه الأمة توقر علمائها وتنزلهم مكانتهم، وتعظم ما عظم الله، يقول الدكتور الخضير تأكيدا لذلك: إنه لا يجوز النيل من العلماء، بل نوقرهم ونجلهم ونأخذ عنهم العلم ونعظم ما عظم الله، ولكن في الوقت ذاته لا نغالي في العلماء ولا نصرف لهم شيء مما يصرف لله جل وعل.. فإمام العلماء وسيد الأتقياء محمد - عليه الصلاة والسلام - جاء عنه: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم)، كما أنه لا يجوز النيل من العلماء والتنقيص منهم وصرف الناس عنهم، فالمسألة مفترضة في شخص نحسبه على خير ائتمر بما أمر الله به، وتعب في تحصيل العلم ابتغاء وجه الله - جل وعلا -، وسعى في نشره، ويرى في نفسه شخصا غير معصوم، فإذا أخطأ مثل هذا العالم المشهود له الذي استطال ذكره في العالمين إن كان من أهل الاجتهاد فهو مأجور على كل حال (إن أصاب فله أجران وان أخطأ فله أجر واحد)، ولكن أخطأ على كل حال، فما العمل وما موقف الناس من هذا العالم؟ القاعدة عندنا (الدين النصيحة) يذهب من سمع من الشيخ الفلاني فتوى ويقول له: سمعنا كذا أو بعض الناس يقول كذا ويرى في المسألة الفلانية، كذا في رأيك أريد أن استفيد من علمك من غير تطاول أو تجريح أو تقليل من شأنه أو حتى إظهار تخطيئه.. فإن كان قد قال، فسوف يقول: قد قلت. أو يجيب على قدر سؤالك وما يلزم أنه يصرح بأنه قال، إنما يحصل المقصود بهذا فإن كان على حق فيما قال وعنده من الأدلة ما يقنعك به وإلا فقد يتراجع عما أفتى وقال بعدما تبين له خطأه.. وهكذا ينبغي التعامل مع العلماء باحترام وإجلال، وتعلم على يديهم وإعذارهم إن أخطأوا، ومناصحتهم والتوسط في التعامل معهم بين التوقير والاحترام، وبين المغالاة والجفاء والأمة التي لا توقر علمائها وتسمح بالنيل منهم هي أمة يكثر فيها الجهل ويتصدر للعلم والفتوى فيهاه من لا علم عندهم وهذا ما ينبغي للأمة ألا تقع فيه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply