الاستغفار من مكفرات الذنوب


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

سيكون الكلام في هذه الحلقة عن أحد مكفرات الذنوب، وهو الاستغفار الذي يعد من أجل الطاعات ومن أعظم القربات، يكفر الله به الذنوب والخطايا ويدفع به النقم والرزايا، تارة يأمر الله به كقوله: {واستغفروا الله إن الله غفورِ رحيمِ} [البقرة: 199] وتارة يمدح أهله كقوله - تعالى -: {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17] وتارة يذكر أنه يغفر لمن استغفره كقوله - تعالى -: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} [النساء: 110] وكثيرا ما يقرن الاستغفار بذكر التوبة فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، وحكم الاستغفار كحكم الدعاء فإن شاء الله أجابه وغفر لصاحبه، ولا سيما إذا خرج عن قلب منكسر بالذنوب أو صادف ساعة من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصلوات وثلث الليل الأخير، ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له).

 

قال الحسن - رحمه الله تعالى -: (أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم، وأينما كنتم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة)، ويشرع الاستغفار لمن تعار من الليل أي استيقظ من نومه، ثبت في البخاري من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، و- سبحانه - الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعاء، استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته).

 

ومن رحمة الله - تعالى - بعباده أنه يغفر الذنوب للمستغفرين منهم يقول - سبحانه - في صف المتقين: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135)} [آل عمران: 135]، جاء عند أحمد والترمذي وغيرهما بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة، نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن هو نزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه، وهو الران الذي ذكر الله - تعالى -: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14].

 

من ذا الذي لا يفرط في أوامر الله، من ذا الذي لا يقصر في جنب الله، بل من ذا الذي لا يخطئ في هذه الحياة يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) ولا شك أن الناس يتفاوتون في حجم أخطائهم على قدر إيمانهم ويقينهم بخالقهم، وعلى قدر خوفهم من العذاب، أو صبرهم على الطاعات، ومع ذلك فإن ربنا الغفور الودود يفتح باب الرجاء لمن زلت به قدمه، أو عثر به لسانه أو لم تطاوعه جوارحه فسبقته إلى المعاصي: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر: 53]. بل إن الله يريد من عباده أن يبقوا دائما وأبدا على صلة به، ثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم).

 

ما أعظم فضل الله، فالمرء يمكنه بتوفيق منه أن يخرج من ذنوبه، وأن يتخفف من سيئاته، بل أن يزيد في حسناته بعمل يسير وهو ملازمة الاستغفار، صح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا) وطوبى اسم من أسماء الجنة، إن هذا العضو الذي يسمى اللسان لا يكل ولا يمل من الحركة، فنعم العبد الذي يسخره لذكر الله ويعوده استغفر الله، إنها كلمة يسيره لمن يسرها الله عليه.

 

قال الشعبي: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فأمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر ثم قرأ: {استغفروا ربكم إنه كان غفارا (10) يرسل السماء عليكم مدرارا (11)} [نوح: 10 - 11]، وشكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدا فقال له استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك فقال: ما قلت من عندي شيئا إن الله - تعالى -يقول في سورة نوح: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا (10) يرسل السماء عليكم مدرارا (11) ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا} [نوح: 10 - 12].

 

وقال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -: (كان لنا أمانان ذهب أحدهما وهو كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - فينا وبقي الاستغفار معنا، فإن ذهب هلكنا، أخذ ذلك من قول الله - تعالى -: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33].

 

إن للاستغفار فوائد جليلة، وآثارا حسنة كثيرة منها قوة التعلق بالله، فإن الغافلين اللاهين أبعد الخلق عن الله، وكلما كثر استغفار العبد لخالقه كان دليلا على قربه منه، وحضوره في قلبه، وللاستغفار أثر في تفريج الهموم وإزالة الكروب، روى الإمام أحمد وغيره بإسناد صححه الشيخ أحمد شاكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب)، والعبد الذي يلازم الاستغفار لا يعد من المصرين على الذنوب يقول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة) ومن آثار الاستغفار أنه سبب في الرحمة قال - تعالى -: {ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون (45) قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون} [النمل: 45 - 46].

 

يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كما صح عند أبي داود والترمذي: (من قال استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه جاء في بعض الروايات ثلاثا، غفرت ذنوبه، وإن كان قد فر من الزحف)، ومن صيغ الاستغفار التي ينبغي للعبد معرفتها والعمل بها سيد الاستغفار فافقهوه واحفظوه وتأملوا ما فيه من الأجر والغنيمة، يقول - عليه الصلاة والسلام -: (سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدكم ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة) والاستغفار سعادة للعبد في آخرته، روى البيهقي بإسناد لا بأس به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من سره أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار)، قال قتادة - رحمه الله -: (القرآن يدلكم عن دائكم ودوائكم، أما داؤكم فالذنوب وأما دواؤكم فالاستغفار، وقال علي - رضي الله عنه -: العجب ممن يهلك ومعه النجاة قيل وما هي؟ قال: الاستغفار.

 

وكان يقول: ما ألهم الله - سبحانه - عبدا الاستغفار وهو يريد أن يعذبه، وقال بعض العلماء: العبد بين ذنب ونعمة لا يصلحها إلا الحمد والاستغفار، وقال ابن الجوزي إن إبليس قال: أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار وبـ(لا إله إلا الله)، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون، لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)، وعن بعض الأعراب أنه تعلق بأستار الكعبة وهو يقول: (اللهم إن استغفاري مع إصراري لؤم، وإن تركي الاستغفار مع علمي بسعة عفوك لعجز، فكم تتحبب إلي بالنعم مع غناك عني، وأتبعض إليك بالمعاصي مع فقري إليك، يا من إذا وعد وفى، وإذا توعد تجاوز وعفا، أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك يا أرحم الراحمين).

 

ومن بركات الاستغفار أنه يصل إلى الوالدين المسلمين وهو بر بهما وأداء لبعض حقوقهما ورفعة في درجاتهما في الآخرة، صح عند أحمد وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن العبد لترفع درجته في الجنة فيقول يا رب أن لي هذه فيقول باستغفار ولدك لك) والسنة لمن كثر لغطه في المجالس أن يكثر من الاستغفار تكفيرا لما بدر منه في ذلك المجلس، جاء عند الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من جلس فكثر لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك) بل إن العجيب أنه ينبغي للمسلم أن يقول هذا الدعاء حتى ولو كان مجلسه مجلس خير وذكر في المجالس التي تخلو من هذا من باب أولى، صح عند النسائي وغيره من حديث جبير بن مطعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال سبحان الله وبحمده، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا الله، استغفرك وأتوب إليك، فإن قالها في مجلس ذكر، كانت كالطابع يطبع عليه، ومن قالها في مجلس لغو كانت كفارة له). وما يحسن التنبيه إليه والحث عليه أن تكثر المرأة المسلمة من الاستغفار لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بذلك ثبت عند مسلم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار)، قالت امرأة منهن، جزلة، وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار، قال (تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) قالت: يا رسول الله! وما نقصان العقل والدين؟ قال: (أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين).

 

وإذا كانت المرأة مأمورة بكثرة الاستغفار بقوله - عليه الصلاة والسلام - وأكثرن من الاستغفار في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها في هذا الزمان أحق وأولى، وكما يشرع للمسلم أن يستغفر لنفسه ولذنبه فإنه يستحب له أن يستغفر لإخوانه المؤمنين والمؤمنات، روى الطبراني بإسناد حسنه الألباني - رحمه الله - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من استغفر للمؤمنين والمؤمنات، كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة).

 

 والذي يستغفر الله من قلب حاضر مستشعر لمعناها، معترف بمغزاها يختلف عمن يقولها بلسانه وقلبه مشغول عنها، وهذا ديدن الذكر كله فهو يحتاج إلى حضور قلب، وتعظيم للخالق، قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: (استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين) وقالت رابعة العدوية: استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير، صح عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته (إن أبا بكر - رضي الله عنه - حدثني وصدق أبو بكر - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله - عز وجل - إلا غفر له).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply