بين عام مضى .. وعام جديد؟!


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

الشيخ حمود الدعجاني: العلم النافع يعين على محاسبة النفس فكلما كان حظ العبد من العلم أقوى كان حظه من المحاسبة أكمل.

 الشيخ صالح المغامسي: محاسبة النفس لا تكون محصورة في العبادات فقط فالمجتمع محراب للتعبد.

 الشيخ محمد الأحمري: الخير كل الخير أن يوفق المسلم في نهاية عامه إلى التوبة النصوح.

 د. عقيل العقيل:  المسلم له في انصرام الأيام وذهاب الأعوام عبر  تدفعه للعمل الصالح.

 د. خالد الدايل: محاسبة النفس واجبة على كل مسلم ليصلح نفسه من العلم والعبادة.؟

 

تمر ساعات الإنسان سريعا فتنقضي الساعة تلو الساعة، وتمر الأيام تلو الأيام، والأسابيع تلو الأسابيع، وشهر ينقضي وشهر يبتدئ. حتى يقال إن العام قد انقضى وابتدأ عام جديد! مضى عام كامل بأيامه ولياليه وساعاته ودقائقه وثوانيه، مضى عام كامل بأفراحه وأتراحه وآلامه وآماله مضى وانقضى بما فيه،  وطويت أيامه وصحائفه بما استودع فيه من الأعمال سواء كانت أعمالا صالحة أو الأخرى، وأتى عام جديد لا يعلم المسلم ما قدر الله فيه ولم يخطط كيف يقضيه. فكيف يرى الناس العام الذي مضى وذاك الذي يأتي.

 

التوبة النصوح:

في البداية يقول فضيلة الشيخ الدكتور عقيل بن عبد الرحمن العقيل عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: إن في تصرم الأيام وانقضاء الأعوام لعبرة، نودع عاما ونفرح بقدوم آخر، وكل يوم بل كل ساعة ودقيقة إنما تقربنا إلى آجالنا، ولذلك كان أحد السلف يقول: ما حزنت مثل ما حزنت على يوم  نقص فيه عمري ولم يزد عملي.

فالمسلم يأخذ من انصرام الأيام وذهاب الأعوام عبرا تدفعه للعمل الصالح والإعداد للقاء الله عز وجل. وأن هذه الدنيا لو دامت لغيرك لما وصلت إليك. وإنك في زمن الإمهال، فماذا أنت عامل. وكما جاء في الأثر: إن الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسوف يتخطى غيركم إليكم. فالعاقل يحاسب نفسه محاسبة الصادق معها فيعرف ما قدم في نهاية هذا العام ويستعرض أعماله الصالحة والسيئة، فيحمد الله على ما قدم من عمل صالح رشيد ويسأل الله قبوله ولا يغتر به أو يصيبه الغرور أو العجب، فذلك إمارة الهلاك، وبالمقابل ينظر نظرة فاحصة فيما حصل منه من سيئات وتقصير ويسعى في إصلاح ذلك بالمبادرة إلى التوبة النصوح المبنية على الإقلاع عن الذنب والندم على ما مضى من التفريط فيه، والعزم على عدم العودة إليه مرة أخرى. مع رد المظالم إلى أهلها وليكثر من الاستغفار وسؤال الله الجنة والنجاة من النار ويعقد العزم على أن يبدأ عامه الجديد بنية صالحة والإعداد للقاء الله عز وجل.

فإن أحدنا لا يدري متى يفجأه الأجل، {وما تدري نفسِ ماذا تكسب غدا وما تدري نفسِ بأي أرض تموت}[لقمان(34)]. والله المستعان.

 

محاسبة النفس:

أما فضيلة الدكتور خالد بن سليمان الدايل المشرف على مدارس رواد العلوم الأهلية بمدينة الرياض فيقول:  روى شداد بن أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم  - أنه قال: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله) ودانها أي حاسبها. ويقول الفاروق رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتهيئوا للعرض الأكبر). فهذا كله إشارة إلى محاسبة النفس، وليس المقصود من محاسبة النفس جلد الذات وتحقيرها وإنما معرفة جوانب التقصير لمعالجتها، ومعرفة جوانب الخلل لإزالتها، وكان السلف الصالح يحاسبون أنفسهم في كل وقت ويوصي بعضهم بعضا بالمحاسبة. وهذا حميد الطويل يقول لسليمان بن علي: عظني، فقال: لئن كنت عصيت الله وظننت أنه يراك لقد اجترأت على أمر عظيم ولئن كنت تظن أنه لا يراك كفرت، وقال سفيان الثوري: عليك بالمراقبة لمن لا تخفى عليه خافية، يا الله كيف يجرؤ بعضنا على معصية من لا تخفى عليه خافية!! سبحانك ما أحلمك، ويقول إبراهيم التيمي: (مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي: يا نفس أي شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا قلت: أنت في الأمنية فاعملي). وإن عمر بن الخطاب كان يضرب قفاه بالدرة كل ليلة ويقول: ماذا عملت اليوم؟!! الله أكبر ما أعجب هؤلاء وما أعجب أخبارهم، فها هي أخبارهم تؤثر في نفوسنا وترفع هممنا، وما رأيناهم، اللهم لا تحرمنا رؤيتهم في الجنة.

إن محاسبة النفس واجبة على كل مسلم ليصلح نفسه في العلم والعبادة، والفرائض والنوافل والإخلاص لله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى لا يقبل إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم (ألا لله الدين الخالص) ويحاسب نفسه في حقوق الآخرين من حسن التعامل مع الأهل والأصدقاء والجيران وغيرهم ويحاسب العبد نفسه في الدعوة إلى الله، ماذا قدم لله؟ دعوة الأقارب، ودعوة الشباب والجاليات وغيرهم، إن هذا الدين يحتاج إلى عمل دؤوب وصدق واجتهاد وإخلاص، فالمحاسبة إذا لم تكن لها ثمرة فلا فائدة منها ومن ثمرات المحاسبة:  أولا الإقلاع عن الذنوب والمعاصي. ثانيا: معرفة حجم التفريط والتقصير الذي يقع فيه العبد. ثالثا: تكملة النواقص والموازنة بين الأعمال. وأخيرا: معرفة فضل الله على عباده الذي أمهلهم وأعطاهم الفرصة للتوبة، اللهم اجعلنا خيرا مما يظنون واغفر لنا مالا يعلمون ولا تؤاخذنا بما يقولون.

 

ثمار المحاسبة:

يقول الداعية الإسلامي وإمام مسجد الصرامي بحي الشهداء بمدينة الرياض فضيلة الشيخ حمود بن محسن الدعجاني: إن الله - تعالى- قد أمر بمحاسبة النفس في كل وقت قال- تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسِ ما قدمت لغد}[الحشر(18)]. والمحاسبة هي أن ينظر العبد في أعماله وأقواله فما وجد فيها  من خير حمد الله على ذلك وحافظ عليه، وما وجد فيها من تقصير سعى لتداركه وأحدث توبة واستغفارا لذنوبه. وأعظم ما يحاسب العبد نفسه عليه ما يتعلق بتوحيد الله وإخلاصه العبادة له وتخليص الأعمال من الشرك الأكبر والأصغر، ثم يحاسب نفسه على أداء الفرائض وترك المحرمات ويحاسب نفسه أيضا في حرصه على مكملات الأعمال من السنن والنوافل وأيضا يحاسب نفسه بالتحلي بفضائل الأخلاق وترك رذائلها. ومما يعين على محاسبة النفس العلم النافع فكلما كان حظ العبد من العلم أقوى كلما كان حظه من المحاسبة أكمل، وأيضا مما يعين على المحاسبة سوء الظن بالنفس وترك العجب بالعمل فمن أحسن الظن بنفسه منعه ذلك من كمال المحاسبة فلعله يرى المساوئ محاسن والعيوب كمالا.

وأخيرا فإن للمحاسبة ثمارا عديدة منها الإطلاع على عيوب النفس وتزكيتها بالطاعة وأيضا معرفة عظم حلم الله تعالى على العبد في عدم تعجيل العقوبة له وأيضا من ثمار محاسبة النفس أن من حاسب نفسه في الدنيا خف حسابه في الآخرة، وأيضا من ثمار المحاسبة التأسي بعباد الله الصالحين وكان عمر بن الخطاب يحاسب نفسه فيقول: والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح وأن يجعل عامنا هذا عام خير وبركة.

 

المحاسبة لا تعني جلد الذات!

فضيلة الشيخ صالح بن عواد المغامسي المحاضر بكلية المعلمين بالمدينة المنورة يقول: (ثمة مدركات يحسن استصحابها حين محاسبة النفس ومنها: أنه لا إنفكاك بين الإيمان والعمل الصالح، هذا الذي دل عليه الأثر وتمسك به أتباع خير البشر، والغاية من ذلك أن ننظر إلى قلوبنا وجوارحنا معا، فلا نقول: الإيمان محله القلب ونكتفي. ولا تكون أعمالنا ذات طابع آلي لا تصاحبها خشية ولا يخالطها وجل ولا يتبعها رجاء قال الله - سبحانه- : {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلةِ أنهم إلى ربهم راجعون}[المؤمنون(60)]. والمحاسبة لا تعني جلد الذات والاكتفاء بالتحسر والندم، وإنما تعني الإرتقاء بالروح والجسد إلى عالم الملكوت الأعلى والمحل الأسنى.

ويجب ألا تكون محاسبة النفس محصورة في جانب النظر في العبادات المحصنة فحسب بل إن المجتمع محراب للتعبد. والأصل في المؤمن أن يكون غدوه ورواحه لله كما في آية الأنعام {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}[الأنعام(162)].  وعلى هذا فالتفريط في دفع أجرة أجير ليست ببعيدة عن التفريط في أداء عبادة واجبة.

ويجب ألا نغفل جانب الاتكال والاعتماد على رحمة الله وسعة فضله، فمحاسبتنا لأنفسنا لا تعني أنه قد برئت ذمتنا وكمل حالنا، فنحن على كل حال فقراء كل الفقر إلى رحمة الله وفي الحديث (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله).

 

فتح صفحة جديدة:

يقول الشيخ محمد بن علي الأحمري أستاذ العلوم الشرعية بمتوسطة عوف ابن حارث بمدينة الرياض: إن المتأمل إلى القمر كيف يهل صغيرا ثم ينمو رويدا حتى يكون بدرا متكاملا ثم يأخذ نموه في النقصان والاضمحلال، وإلى الزهرة كيف تبدو متفتحة فواحة الشذا فما تلبث أن تذبل، وكذا الشباب يمتلئ حيوية ونضارة فما هي إلا أعوام تمر فيشيب ويهرم.

هذه حال الدنيا يا عباد الله، لا راحة ولا اطمئنان ولا ثبات ولا استقرار. طلوع وأفول، ممالك تشاد وأخرى تباد ومدن تعمر وأخرى تدمر فسبحان من يغير ولا يتغير.

وقد أزف رحيل هذا العام فها هو قد طوى بساطه وقوض خيامه وشد رحاله وكل الناس يغدو فبائع نفسه أو موبقها. عام كامل تصرمت أيامه وتفرقت أوصاله، فلا إله إلا الله كم شقي فيه من أناس وكم سعد فيه من آخرين؟ كم طفل قد تيتم؟ وكم من امرأة قد ترملت هؤلاء يتبعون ميتهم؟ وآخرون يزفون عروسهم فسبحان الله ما أجل صنعه يعز من يشاء ويذل من يشاء يعطي من يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله وربك يخلق ما يشاء ويختار.

بالأمس القريب استقبلنا عامنا واليوم بهذه السرعة قد ودعناه وهو شاهد لنا أو علينا.

فلنتذكر أننا مسؤولون والله عن أعمارنا وعن أوقاتنا دعونا نتساءل عن عامنا كيف أمضيناه وعن وقتنا كيف قضيناه ولننظر في كتاب أعمالنا وكيف طويناه.

 

ليست الغبطة في التمتع بالملذات وليس السعادة في تناول المشتهيات إن الخير كل الخير أن يوفق المسلم في نهاية عامه إلى التوبة النصوح وفتح صفحة جديدة من الأعمال الصالحة. قبل أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله. لنتساءل في بداية هذا العام الجديد  عن أحوال أمتنا فلا تزال مآسي المسلمين مستمرة وأحزانهم وأوضاعهم مؤلمة، مذابح رهيبة ومجاعة مخيفة دماء جارية وأعراض منتهكة ومساجد مهدمة وأموال مغتصبة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. نسأل الله العظيم أن يكون عامنا المنصرم حجة لنا لا علينا وأن  يعيننا على عامنا هذا بفعل الطاعات ومجاهدة النفس وأن يوفقنا وإياكم للتوبة النصوح.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply