محبطات الأعمال ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أسباب حبوط الأعمال في القرآن الكريم:

أولاً: كراهة ما أنزل الله

قال - تعالى -: \"ذَلِكَ بِأَنَّهُم كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحبَطَ أَعمَالَهُم\"[محمد: 9].

قال سيد قطب - رحمه الله -: \" وهو تصوير لما يعتمل في قلوبهم ويختلج في نفوسهم من الكراهية لما أنزل الله من قرآن وشريعة ومنهج واتجاه. وهذا هو الذي يدفع بهم إلى الكفر والعناد والخصومة والملاحاة. وهي حالة كثير من النفوس الفاسدة التي تكره بطبعها ذلك النهج السليم القويم، وتصادمه من داخلها، بحكم مغايرة طبيعتها لطبيعته. وهي نفوس يلتقي بها الإنسان كثيراً في كل زمان وفي كل مكان، ويحس منها النفرة والكراهية لهذا الدين وما يتصل به ; حتى إنها لتفزع من مجرد ذكره كما لو كانت قد لذعتها العقارب! وتتجنب أن يجيء ذكره أو الإشارة إليه فيما تسمع حولها من حديث! ولعلنا نشاهد في هذه الأيام حالة من هذا الطراز لا تخفى على الملاحظة!

وكان جزاء هذه الكراهية لما أنزل الله، أن أحبط الله أعمالهم. فالحبوط انتفاخ بطون الماشية عند أكلها نوعاً من المرعى سام. ينتهي بها إلى الموت والهلاك. وكذلك انتفخت أعمالهم وورمت وانبعجت. ثم انتهت إلى الهلاك والضياع! إنها صورة وحركة، ونهاية مطابقة لحال من كرهوا ما أنزل الله ثم تعاجبوا بالأعمال الضخام. المنتفخة كبطون الأنعام، حين ترعى من ذلك النبت السام\"! (1).

 

ثانياً: اتباع ما أسخط الله

قال - تعالى -: \"ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضوَانَهُ فَأَحبَطَ أَعمَالَهُم\" [محمد: 28].

قال ابن عاشور - رحمه الله -: \"وإتباعهم ما أسخط الله: هو إتباعهم الشرك. والسخط مستعار لعدم الرضى بالفعل. وكراهتهم رضوان الله: كراهتهم أسباب رضوانه وهو الإسلام.

والجمع بين الإخبار عنهم باتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه مع إمكان الاجتزاء بأحدهما عن الآخر للإيماء إلى أن ضرب الملائكة وجوه هؤلاء مناسب لإقبالهم على ما أسخط الله، وأن ضربهم أدبارهم مناسب لكراهتهم رضوانه لأن الكراهة تستلزم الإعراض والإدبار.

فكان ذلك التعذيب مناسباً لحالي توقيهم في الفرار من القتال وللسببين الباعثين على ذلك التوقي.

وفرع على اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه قال \"فأحبط أعمالهم\" فكان اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه سبباً في الأمرين: ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند الوفاة، وإحباط أعمالهم(2).

\" فهم الذين أرادوا لأنفسهم هذا المصير واختاروه. هم الذين عمدوا إلى ما أسخط الله من نفاق ومعصية وتآمر مع أعداء الله وأعداء دينه ورسوله فاتبعوه. وهم الذين كرهوا رضوان الله فلم يعملوا له، بل عملوا ما يسخط الله ويغضبه..فأحبط أعمالهم..التي كانوا يعجبون بها ويتعاجبون ; ويحسبونها مهارة وبراعة وهم يتآمرون على المؤمنين ويكيدون. فإذا بهذه الأعمال تتضخم وتنتفخ. ثم تهلك وتضيع! \"(3).

 

ثالثاً: اتباع أهل الضلال من أهل الكتاب

قال - تعالى -: \"كَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم كَانُوا أَشَدَّ مِنكُم قُوَّةً وَأَكثَرَ أَموَالاً وَأَولاَدًا فَاستَمتَعُوا بِخَلاقِهِم فَاستَمتَعتُم بِخَلاَقِكُم كَمَا استَمتَعَ الَّذِينَ مِن قَبلِكُم بِخَلاَقِهِم وَخُضتُم كَالَّذِي خَاضُوا أُولَـئِكَ حَبِطَت أَعمَالُهُم فِي الٌّدنيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ\" [التوبة: 69].

قال الطبري - يرحمه الله -: \" يقول - تعالى - ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين الذين قالوا إنما كنا نخوض ونلعب: أبا لله وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزءون، كالذين من قبلكم من الأمم الذين فعلوا فعلكم فأهلكهم الله، وعجّل لهم في الدنيا الخزي مع ما أعدّ لهم من العقوبة والنكال في الآخرة؟ يقول لهم جل ثناؤه: واحذروا أن يحلّ بكم من عقوبة الله مثل الذي حلّ بهم، فإنهم كانوا أشدّ منكم قوّة وبطشا، وأكثر منكم أموالاً وأولادا. فاستَمتَعُوا بخَلاقِهِم يقول: فتمتعوا بنصيبهم وحظهم من دنياهم ودينهم، ورضوا بذلك من نصيبهم في الدنيا عوضا من نصيبهم في الآخرة. وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم، يقول: فعلتم بدينكم ودنياكم كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم الذين أهلكتهم بخلافهم أمري، بخلاقهم، يقول: كما فعل الذين من قبلكم بنصيبهم من دنياهم ودينهم، وخضتم في الكذب والباطل على الله كالذي خاضوا، يقول: وخضتم أنتم أيها المنافقون كخوض تلك الأمم قبلكم\".

و عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"وَالّذِي نَفسِي بيَدِهِ لَتَتّبِعُنّ سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبلِكُم شِبرا بِشِبرٍ,، وَذِرَاعا بذِرَاعٍ,، وَباعا بباعٍ, حتى لَو دَخَلُوا جُحرَ ضَبّ لَدَخَلتُمُوهُ\" قالوا: وَمن هم يا رسول الله، أهل الكتاب؟ قال: \"فَمَهُ؟ \".

وعن ابن عباس في قوله كالذين من قبلكم الآية قال: \" ما أشبه الليلة بالبارحة\" كالذين من قبلكم\" هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم لا أعلم إلا أنه قال والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه\".

\" أولئك حبطت أعمالهم أي بطلت مساعيهم فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب \".

 

رابعاً: الكفر و الصد عن سبيل الله و مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

و قال - تعالى -: \"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدٌّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقٌّوا الرَّسُولَ مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرٌّوا اللَّهَ شَيئًا وَسَيُحبِطُ أَعمَالَهُم\" [محمد: 32].

قال ابن كثير - رحمه الله -: \" يخبر - تعالى -عمن كفر وصد عن سبيل الله وخالف الرسول وشاقه، وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى أنه لن يضر الله شيئاً، وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها، وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير، بل يحبطه ويمحقه بالكلية كما أن الحسنات يذهبن السيئات\"(4).

و قال سيد قطب - رحمه الله -: \" إنه قرار من الله مؤكد، ووعد منه واقع: أن الذين كفروا، ووقفوا في وجه الحق أن يُبَلغ إلى الناس ; وصدوا الناس عنه بالقوة أو المال أو الخداع أو أية وسيلة من الوسائل، وشاقوا الرسول- صلى الله عليه وسلم - في حياته بإعلان الحرب عليه، والمخالفة عن طريقه، والوقوف في غير صفه. أو بعد وفاته بمحاربة دينه وشريعته ومنهجه والمتبعين لسنته والقائمين على دعوته. وذلك (من بعد ما تبين لهم الهدى).. وعرفوا أنه الحق ; ولكنهم اتبعوا الهوى، وجمح بهم العناد وأعماهم الغرض، وقادتهم المصلحة العاجلة.

قرار من الله مؤكد، ووعد من الله واقع أن هؤلاء (لن يضروا الله شيئاً).. وهم أضأل وأضعف من أن يُذكروا في مجال إلحاق ضرر بالله - سبحانه وتعالى -. فليس هذا هو المقصود إنما المقصود أنهم لن يضروا دين الله ولا منهجه ولا القائمين على دعوته. ولن يُحدِثوا حدثاً في نواميسه وسننه. مهما بلغ من قوتهم، ومهما قدروا على إيذاء بعض المسلمين فترة من الوقت. فإن هذا بلاء وقتي يقع بإذن الله لحكمة يريدها ; وليست ضراً حقيقيا لناموس الله وسنته ونظامه

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply