وقدموا لأنفسكم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمد - سبحانه - وقد تكفل بالمزيد لمن شكر، والعذاب لمن كفر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة خالية من شوائب الشرك والند والمثيل، شهادة نرجو بها النجاة يوم نلقاه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..أما بعد:

فيقول الحق - سبحانه وتعالى -: \" وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً \" [المزمل]، ويقول - سبحانه وتعالى -: \" وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين\"[البقرة 223]، وقال- صلى الله عليه وسلم -: \" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له \" [أخرجه مسلم]، من هذا المنطلق القرآني الكريم، والمبدأ النبوي الحكيم، فينبغي للعبد أن يقدم لنفسه ما ينفعه عند ربه إذا لقيه، لا سيما إن كان ممن أفاء الله عليه بالمال، وأغدق عليه بالنعم، فلا يسرف في هذه الحياة الدنيا، ولا يقتر، بل يتخذ بين ذلك سبيلاً، وعليه أن يعلم أن المال مال الله - تعالى -، وأن الله ممتحنه بذلك المال، وتلك النعم، فعليه أن يسعى جاهداً لصرفه في وجوه الخير، وأعمال البر، التي يعود نفعها أولاً وأخيراً له في الدارين، دار الدنيا، ودار الآخرة، وقال - سبحانه -: \" {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مٌّستَخلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَأَنفَقُوا لَهُم أَجرٌ كَبِيرٌ} [الحديد 7]، وقال - سبحانه -: \" {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقنَاكُم مِّن قَبلِ أَن يَأتِيَ أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَولَا أَخَّرتَنِي إِلَى أَجَلٍ, قَرِيبٍ, فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون 10]، فالعبد يوم القيامة تحت ظل صدقته، تظلله من شدة حر وبؤس ذلك اليوم الرهيب الشديد، قال - صلى الله عليه وسلم -: \" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه \" [متفق عليه].

كم من الناس من حرم نفسه نفع صدقته، فتعب في هذه الحياة الدنيا لتحصيل زائلها، وتوفير فاقدها، وغفل عن الآخرة وباقيها، ثم يترك الدنيا وما فيها، ويحاسب على جمعها ومالها، قال - صلى الله عليه وسلم -: \" يا ابن آدم إنك أن تَبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى \" [أخرجه مسلم وغيره]، ومعنى الحديث: أن على الإنسان أن يبذل ويتصدق بما زاد عن حاجته من المال، فإن فعل فهو خير له، وإن لم يفعل وأمسك خشية الإنفاق فقد وقع في الإثم وهو الشر، ولا يُلام الإنسان على ما في يده من مال مما يكفه عن سؤال الناس، لكن لا يزيد عن الكفاف، ولهذا لما علم العلماء من فقه الحديث من جهله أكثر الناس، رأينا العلماء يموتون ولا يدخرون في بيوتهم إلا ما يكفي قوت أهله شهراً أو أقل، وربما مات أحدهم ولم يترك شيئاً، مقتدين بنبيهم - صلى الله عليه وسلم -، الذي مات ولم يترك من حطام الدنيا شيئاً، بل ترك درعاً مرهونة عند يهودي في مقابل طعام أخذه منه، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام -: \" وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه، أخذ بحظ وافر \" [أخرجه أبو داود بسند حسن].

تصدقوا أيها الناس بما جاد الله به عليكم من نعمه وأفضاله وخيراته، وإياكم أن ينام أحدكم شابعاً، وجاره جائعاً، فليس ذلك من الأخوة في الدين، وليس ذلك من الإسلام، بل تفقدوا حال إخوانكم الفقراء والمساكين، فما أكثرهم اليوم، ما أكثر الجوعى؟ ما أكثر المرضى؟ يموت المسلم من الجوع، ونحن نتقلب في النعيم، بل ربما مات بعضنا من التخمة وكثرة الأكل، وربما أكل بعض الناس أكثر من ثلاث وجبات في اليوم والليلة، وجعل بطنه كله للطعام والشراب أو لأحدهما فقط، بينما هناك مسلمون يتضورون جوعاً، يأكلون لحاء الأشجار، وبقايا الميتة، وربما أكل بعضهم بعضاً، قال - تعالى -: \" الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون \" [البقرة]، يا من تقلبون القنوات الفضائية، بين مسلسلات هابطة، وأغنيات ماجنة، وأفلام فاضحة، ومشاهد ساخطة، حولوا ذلك الريموت إلى القنوات الإخبارية، وانظروا ماذا حل بإخوانكم هناك، انظروا كيف فعل الفقر بإخوانكم المسلمين في النيجر، وأفغانستان، وباكستان، وكثير من البلاد الأفريقية المسلمة، لقد دكهم الفقر، وقتلهم الجوع، وأهلكتهم الأمراض، وكأننا لا نسمع ولا نرى، وأيم الله ليحاسبنا الله على ذلكم التقاعس، وتلكم الهمم الفاترة الباردة، قال - صلى الله عليه وسلم -: \" إن الله - عز وجل - يقول يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني، قال: يارب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لو جدتني عنده؟

يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني، قال: يارب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟

يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب وكيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي \" [أخرجه مسلم].

ومعنى لوجدتني عنده، ولو وجدت ذلك عندي أي: وجدت ثواب ذلك عندي.

فأنفق أيها المسلم اليوم، قبل أن تودع في قبرك رهين عملك، افتد نفسك اليوم من نار جهنم غداً، وقدم لنفسك ما ينفعك عند الله يوم القيامة، ابن لك بيتاً في الجنة بمال الدنيا، قبل أن لا ينفع مال ولا بنون، عن الحارث الأشعري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \" إن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن \"، فذكر الحديث إلى أن قال: \" وأمركم بالصدقة، ومثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فأوثقوا يده إلى عنقه، وقربوه ليضربوا عنقه، فجعل يقول: هل لكم أن أفدي نفسي منكم؟ وجعل يعطي القليل والكثير، حتى فدى نفسه... الحديث \" [أخرجه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم، وهو حديث صحيح]، ذنوب العبد وخطاياه تهلكه، ولا ينقذه من الهلاك والعذاب إلا الصدقة، فتجيء الصدقة تفديه من العذاب، وتفكه منه.

فأنقذ نفسك أيها المسلم بالصدقة، ولا يثبطنك الشيطان فإنه لك عدو مبين، تصدق ولو ببصلة أو كسرة خبز، فسوف تجد ذلك عند الله، تصدق بحسب مالك، ولا تغرنك الحياة الدنيا، فإنها إلى زوال واضمحلال، فغناها إلى فقر، وعزها إلى ذل، ورفعتها إلى سفول، ودرجاتها إلى دركات، فتصدق ولو بشق تمرة، قبل أن تأتي يوم القيامة مفلساً ذليلاً، تبحث عن شيء تتصدق به فلا تجد، تندم يومئذ ولا يجدي الندم شيئاً، أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه، فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة \".

مع تكاثر الأدلة والنصوص الشرعية الدالة على وجوب الصدقة وأهميتها في حياة المسلم، إلا أننا وللأسف الشديد نجد فئة من المسلمين قد تقاذفتهم أمواج الحياة الدنيا بزينتها وبهرجتها، فانغمسوا فيها ونسوا أمر الصدقة وفضلها على الأفراد والمجتمعات، فانكبوا على جمع الحطام الزائل، ولم البقايا المتهالكة، معرضين عن أوامر الكتاب والسنة، فقضوا حياتهم لأجل ذلك الهدف البعيد المنال، لأن الله - تعالى - يقول: \" كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا لا ترجعون \" [العنكبوت]، فربما اعتقد بعض الناس أنه يعيش ثم يموت ولا يحاسب على أعماله وأقواله، ولا يقول ذلك إلا كافر صنديد، مشرك عتيد، قال - تعالى -: \" أفحسبتم أنما خلقناكم عباُ وأنكم إلينا لا ترجعون \" [المؤمنون]، وقال - سبحانه -: \" وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون \" [التوبة].

فقدم لنفسك أيها المسلم ما ينفعك عند الله - تعالى - إذا وقفت بين يديه للسؤال والحساب، قدم لنفسك ما ينجيك من العتاب والعقاب، قدم لنفسك من مالك ما تفتدي به شدة السؤال يوم القيامة، فوالله إن هذه الأموال التي تكدسها مئات وآلاف وملايين، ستموت رغماً عنك وتتركها يتنعم بها غيرك، فالزوجة ستتزوج زوجاً غيرك، ويتمتع بمالك، والأولاد والبنات كذلك، فما أنت صانع بمالك اليوم، عليك أن تنفقه في وجوه البر والخير والصلاح، وما يعود نفعه على الإسلام والمسلمين، وإلا فستخسر خسارة لم يخسرها أحد، ستفقد الراحة في دار الدنيا والآخرة، ستعيش نكداً، وتموت ندماً، فهذا رجل جمع من حطام الدنيا ما جمع، فكان جموعاً منوعاً، حرم نفسه وأهله في الدنيا لذة المال، ثم جاءته المنية، وبعد وفاته اكتشف أبناؤه أنه يملك الملايين ويجمعها ويصرها ولا ينفقها في سبيل الله، وقبل توزيع التركة، جاء أهل الخير لينصحوا أبنائه بأن يبنوا لأبيهم مسجداً يجري عليه نفعه في قبره ويوم بعثه، فقال أكبر الأبناء: حرمنا لذة المال، لو كان فيه خيراً لنفع نفسه قبل أن يموت، فأبى الأبناء أن يقدموا لأبيهم ما ينفعه بعد موته براً به، فعقوه بعد موته ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهذه زوجة مات زوجها وترك لها ولأبنائها أموالاً طائلة، فلما علمت بعد وفاته أنه ترك ذلك الإرث الكبير، قالت: لا - رحمه الله -، حرمنا من المال كله تلك السنين، ولم تقدم له ما ينفعه بعد موته.

فقدم لنفسك أيها المسلم والمسلمة ما يقربك من ربك زلفى، قدم لنفسك ما يرفعك عند الله - تعالى -، قدم لنفسك ما يُنجيك من عذاب الله، فاليوم عمل بلا حساب، ويوم القيامة حساب ولا عمل، فالسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من وُعظ به غيره، فكن من السعداء في الدنيا والآخرة، ابن لك بيوتاً وقصوراً، وأجرِ لك أنهارً، وازرع لك أشجاراً، في جنة الخلد، قبل أن تموت وتندم، ولا ينفعك الندم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply