حياة النفوس .. وحياة الأجساد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تحدث الكثيرون عن الآلام والأمراض الجسدية التي عالجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفق منظومة الطب النبوي.وجادل البعض في جدوى الطب النبوي، ومدى صلاحيته لمواكبة العصر التكنولوجي، الذي تكثر فيه الاكتشافات الطبية والعلاجية.ولكن قلة من هؤلاء الذين خرجوا عن إطار هذا الجدل، وتنبهوا لحقيقتين هامتين:

 

الأولى: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكد على أن الله جعل لكل داء دواء \" ففي الحديث الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - \" ما جعل الله من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله \"، وأتاح لنا المشرع العظيم الفرصة سانحة للبحث الطبي والتداوي، فلا يمكن أن يستقيم بحال تجاهل كل تلك الأبحاث العلمية الحديثة، ونحن نتحدث عن علاج الجسد البشري.

 

أما الثانية: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبعث طبيبا معالجا للآلام الجسدية، إنما هو رحمة للعالمين وشفاء لنفوس البشرية من أمراضها الكثيرة غير أننا لا ننكر أن هناك أثرا أكيدا في شريعته المحمدية في تطبيب الأجساد من أمراضها وأدوائها، فمسألة الطب النبوي الجسدي إذن مسألة متفرعة عن الأصل الذي هو هداية البشرية بالنور والضياء والحق المبين.

 

كيف يمكن أن نتجاهل تلك المسحة الإنسانية التي أضفاها على البشرية، ونلهث بحثا وراء دواء جسدي قد يتجدد مع الاكتشافات العلمية التي لم تستطع علاج ما داواه النبي - صلى الله عليه وسلم - من علاجات النفوس والأخلاق والمجتمعات والأمم؟

 

الصبغة الإنسانية

كيف يمكن أن نتجاهل تلك المسحة الإنسانية التي أضفاها على البشرية، ونلهث بحثا وراء دواء جسدي قد يتجدد مع الاكتشافات العلمية التي لم تستطع علاج ما داواه النبي - صلى الله عليه وسلم - من علاجات النفوس والأخلاق والمجتمعات والأمم؟

يقول ابن كثير: في تفسير قوله - تعالى -\" وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين \": أي يذهب ما في القلوب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل فالقرآن يشفي من ذلك كله وهو أيضا رحمه يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه \".

نعم قد تداوى الصالحون بالقرآن وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الاسترقاء بـ قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وقال: لم يتعوذ الناس بمثلهن. رواه مسلم.

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى قرأ على نفسه المعوذتين ونفث. متفق عليه، وصح رقية الصحابي لمن لدغ سبع مرات بسورة الفاتحة. رواه البخاري.

 

ولكن الإسلام يثبت فينا المعنى الأكبر والمفهوم الأسمى، فأينما كنت فثم وجه الله. وأينما مرضت واختنقت من الحياةº فهناك سبيل للنجاة على يد الطبيب الأعظم. وقد لجأ الرسول نفسه لهذا العلاج الرباني، ليداوي جراحه، ويعلم غيره على طريقة التجريب، أو الاستهلال في علاج النفس، لإثبات نجاح العلاج، وكسب ثقة الآخرين في فاعلية العلاج ضد المرض ففي حادث الطائفº أدماه المشركون، ولكنه لم ينفعل ولو بالدعاء عليهم، بل ملك نفسه في شدة الغضب والمحنة، وتمالك طبيعته البشرية، ونظر إلى غدº حيث ينتشر الإسلام في العالم بفضل صبره ويقينه..

 

كل ما أفاض به ليخرج شحنة الحزن والألم قوله: \" اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السموات والأرض، وأشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل علي غضبك، أو تنزل علي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك \". أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (6\\36) والطبراني.

 

ولكن الإسلام يثبت فينا المعنى الأكبر والمفهوم الأسمى، فأينما كنت فثم وجه الله. وأينما مرضت واختنقت من الحياةº فهناك سبيل للنجاة على يد الطبيب الأعظم. وقد لجأ الرسول نفسه لهذا العلاج الرباني، ليداوي جراحه.

 

الوصفة الربانية

ولكن ما هي تلك الوصفة الربانية؟ وماذا يعني العلاج بالإيمان؟ هذا السؤال ليس بعسير الإجابة، إن اختار راغب العلاج مبدأ التداوي الرباني على منهج الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .

 

إنه الإيمان وتوحيده تمام التوحيد كقاعدة أساسية، لأن لكل مرض علاج مختلف، يتطلب جهودا نفسية وجسدية على مراحل، مع إتباع مجموعة من التعليمات في فترة النقاهة، والمداومة على نظام معين بعد الشفاء حتى لا يرتد المرض مرة أخري، وساعتها سيكون العلاج عسيرا، ولكنه على شرع الله ليس بمستحيل. وحده ذلك المرض الفتاك \"الشرك بالله \" \" إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء \".

 

أما عن أولى خطوات العلاج، فالأمل في الشفاء [التطهر من الذنب وجذوره] مهم جدا في مقاومة آلام المرض، ومقاومة آلام المقاومة نفسها، وليبدأ العلاج بالتوبة الصادقة، والتبرؤ من كل ما سبق من أخطاء.

 

وإن سأل سائل: لماذا التوبة؟ قلنا: التوبة ليست مجرد فعل روتيني أجوف، إن الأمر يتعدى هذا التصور القاصر، التوبة أهم مرحلة علاجية لشفاء النفس، إنها توقف ذلك السيل من المهلكات المترتبة عن تراكم الذنوب وذلك الشعور بجلد الضمير، والإحساس بالذنب للتقصير تجاه أنفسنا. (بالطبع التوبة تنهي مسألة الإحساس باليأس من الذنب وعدم قبول التوبة، و ذلك لا يتعارض مع جلد الضمير ولو بعد التوبة.. إنما المدخل الشيطاني: \"لن يغفر الله لك\"، تعالجه التوبة لكنها لا تمنع من الإحساس بالتقصير والإلحاح في الاستغفار، وهنا فارق بين أن تسقط الذنب من حسابك بالمرة بمجرد التوبة عنه وبين أن تحس بالانكسار أمام الكريم الغفار ولو دعوت الله موقنا بالإجابة.. فأنت تصلي ولا تضمن قبول صلاتك وكذا أنت تخلص في الدعاء ولا تدري إن كان كتبك من التائبين أم لا.. من شأن شعور العبد بأن توبته قد جازت به إلى الطهارة التامة من الذنوب والآثام أن ينسى ذنوبه ويتذكر عبادته وحسب).

 

إنها العبق الذي يطهر رائحة النتن البشري والتدني في القول والفعل، إذ خلقنا الله من طين ثم أمر الروح فسرت فينا، ونحن بين هاتين: الروح والمادة نعرج ونتعرج، فإن علونا إلى الروح، اطمأننا وزدنا علونا نفسيا وأخلاقيا وسلوكيا، والعكس صحيح إذا تدنينا إلى مستوى الطين.

 

وإلى جانب أهمية الاطمئنان النفسي والعلوº هناك فوائد كثيرة للتوبة على المستوي النفسي الصحي. فالتوبة تجعل هناك انسجاما بين الوظائف العضوية التي خُلقنا لها، وبين حركة الجوانح التي نتحرك بها، فعندما يكون هناك تطابق بين السلوك والوظائف الجسديةº يحدث انسجام نفسي بين الروح والجسد.

 

فلم تخلق العين للنظر إلى الحرام \" قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم \"، ولم يخلق السمع للتنصت والتجسس: \" إن السمع والبصر والفؤاد كل أؤلئك كان عنه مسئولا \"، ولم يُخلق الفرج للزنا: \" وَالَّذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزوَاجِهِم أو مَا مَلَكَت أَيمَانُهُم فَإِنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ \"، ولم يُخلق اللسان للكذب: \"إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب على الله صديقا\"، كما إن الأمانات والعهود ليستا للخيانة والنقض \" والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون \".

 

إنه الإيمان وتوحيده تمام التوحيد كقاعدة أساسية، لأن لكل مرض علاج مختلف، يتطلب جهودا نفسية وجسدية على مراحل، مع إتباع مجموعة من التعليمات في فترة النقاهة، والمداومة على نظام معين بعد الشفاء حتى لا يرتد المرض مرة أخري، وساعتها سيكون العلاج عسيرا.

 

ولم تخلق أعضاء الإنسان إلا لتؤدي الوظائف التي شهدت عليها الروح، يوم أخرج الله من ظهر آدم ذريته ليكونوا شهداء على أنفسهم \" وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا \".. ذلك المشهد الذي كان فيه القسم الأعظم على أن يكون جسد الإنسان لخدمة روحه، وتُكرس روحه للعلو بجسده، والارتقاء لرضا الله رب العالمين.

 

التوبة راحة للجسد!

قال أبو سعيد الخدري: \"إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا\".

وكما أن الأعضاء تناشد اللسان وتنصحه وتذكره فلكأن كل عضو يناشد الآخر بأن يكونوا لله، ويتحروا الحلال والحرام فيما يفعلون، لأنهم أول الشاهدين على صاحبهم يوم القيامة، ويتعذبون لفعله قال الله - سبحانه - \" ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء \".. فمن هنا تأتي التوبة لتريح جسد الإنسان من آلامه.

 

ولعل الرسول صلى الله عليها وسلم عندما قال: \"ولبدنك عليك حق\"º لم يكن هذا الوجوب يعني الجسد فقط، فالسلامة النفسية لم يغفلها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأن الجسد مقر للروح، والأرواح ما بين أمارة بالسوء، ولوامة، ومطمئنة. وهو الذي استعاذ بالله من مكدرات النفوس إذ يقول فيما رواه البخاري \" اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل ومن الجبن والبخل والهرم \"

 

ويتطلب الوصول للنفس المطمئنة أن يجلس الإنسان كثيرا ليتوقف عند معاني وتصرفات يمكن أن تؤدي به إلى المرض، ونذكر أن سلوك امرأة العزيز قد خرج من نفس أمارة بالسوء، واعترفت هي بذلك كما بنص سورة يوسف.

 

الكثير والكثير من الأمراض التي عالجها الرسول ورصدها القرآن والسنةº بحاجة إلى دراسات وأبحاث، ورؤية نفسية واجتماعية عميقة، تتجاوز فيها النظرة إلى الطب النبويº على أنه جسدي فقط بذلك المعنى السابق، ولكن تنظر كيف عالج الحبيب البشرية من سقمها العام في نفسياتها وسلوكها ومناهجها ووسائلها وأفكارها؟

 

رمضان شهر التداوي

ويأتينا شهر رمضان، على حال لسنا فيه بخير: حملة ذنوب، وظلمة لأنفسنا، وجرأة على المعصية. ويأتي معه وعد من الرحمن بأن يبدل الحال بخير الأحوال، ويعفو ويسامح، إن اتقيناه، وأحسنا استغلال الشهر الكريم في التكفير عن ذنوبنا، وإعادة معنى تقوى الله إلى كافة سلوكياتنا: \" يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ \" (البقرة: 183).

 

ويتصور كثير من الناس أن معنى تقبل الله لصيامهم في رمضان، أنهم سيصيرون كالملائكة مع صلاة عيد الفطر، ولن يرتكبوا أخطاء مرة أخرى، وستتبدل حياتهم كاملة. فهل هذا صحيح؟

 

نعم قد يتبدل حال البعض تبدلا كاملا وذلك من فضل الله ونعمته ومنته وكرمه على بعض عباده المخلصين الصادقين، ولكن رمضان هو شهر للمراجعة، ومحاولة التغيير، والتكفير عن الذنب، وعلاج النفس من آفات المعاصي، وهموم المعصية، لأن آفات النفس ليست في سلة واحدة، وتأتي كالأمراض فرادى أو مجتمعة، ولكنها متجددة، ومتكاثرة، وتحتاج للاستئصال بشكل دائم.

 

فالقدر التدريجي المطلوب للتغير في رمضان، هو اختيار عدد من الآفات النفسية والسلوكية التي استوطنت فينا، وإتباع المنهج النبوي في التداوي منها، بالتوبة، ومقاومة النفس، واستبدال العادات بالعادات، ومراجعة الذات أولا بأول.

 

والتداوي بدواء الحبيب، هو المعيار الحقيقي لقياس نجاحنا في رمضان، وقدرتنا على استثماره، ومدى تحقق مراد الله \"التقوى\". وتنعكس نسبة تحقق العلاج على رصيد المريض \"المسلم\" من الحسنات، والنتائج المذهلة \"مقدار التغير\" بعد رمضان.  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply