الصبر عند الصدمة الأولى


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد وَعَدَ الله - عز وجل - الصابرين المحتسبين أجراً عظيماًº فقال - جلَّ جلالُه -: (وبشِّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون). [1] وقال - تعالى -: (إنما يُوَفَّى الصابرون أجرَهم بغيرِ حسابٍ,). [2] وقد روى أبو أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله - سبحانه -: ابنَ آدم إن صبرتَ واحتسبتَ عند الصدمةِ الأولىº لم أرضَ لك ثواباً دون الجنة). [3]. وروى أنس - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بامرأةٍ, تبكي عند قبرٍ,، [4] فقال: (اتّقي الله واصبري. فقالت: إليك عنِّيº فإنك لم تُصَب بمصيبتِي ـ ولم تَعرِفه ـ فقيل لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم -º فأتت بابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: لم أعرِفكº فقال: إنَّما الصَّبرُ عند الصَّدمةِ الأُولَى) [5] وفي روايةٍ,: (فقال إنَّما الصبرُ عند الصَّدمةِ الأولى، أو عند أولِ صَدمة). [6]

وتأمَّل محاسِنَ التعبيرِ النبوي: (عند الصَّدمة الأولى)º فالمصِيبةُ صَدمَةٌ نَفسِيةٌ بكلِّ ما في العبارةِ من معنىº فإنها تَهجُم على النفسِº فتصدمها وتبغتها وتكشف عن حقيقتِها في تلك اللحظة..(عند الصدمة الأولى) عند هَيَجان العاطفة وجَيَشان المشاعر وسَيَلانِ اللِّسانِ وانفِلاتِ الزِّمام [7]

وانظر قاموس الحديث النبوي الشريفº ما أجملَ مَبانِيَه وما أجلَى مَعانِيَه قال النووي - رحمه الله -: \"أصلُ الصَّدمِ: الضربُ في شيء صُلبٍ,، ثم استُعمِلَ مجازا في كلِّ مكروهٍ, حَصَلَ بَغتةً\".[8] وقال ابن حجر - رحمه الله -: \"المعنى إذا وقعَ الثباتُ أولَ شيء يهجُم على القلبِ مِن مقتضيات الجزعº فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجرُ... قال الخطابي: المعنى أنَّ الصبرَ الذي يُحمَد عليه صاحبُه ما كان عند مُفاجأةِ المصيبةِ بخلافِ ما يعد ذلكº فإنه على الأيام يَسلُو\". [9]

فـ(الصبرُ عند الصدمةِ الأولى): عنوانُ قوةِ الإيمانِ وصِدقِ الاحتساب وتحمٌّلُ المصيبةِ ابتغاءَ ما عند الله، قال النووي - رحمه الله -: \"قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الصبرُ عند الصدمة الأولى)، وفي الرواية الأخرى (إنَّما الصبر) معناه: الصبرُ الكاملُ الذي يترتبُ عليه الأجرُ الجزيلُº لِكثرةِ المشقةِ فيه\". [10]

ولا ريبَ أنَّ قِلَّةَ الصَّبرِ تؤدِّي إلى الجزعِ عند المصيبةِ وتسخٌّطِ القضاء والبُعدِ عن صِفاتِ المتقين الصابرين المحتسبينº ولذلك أمرَها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتقوى والصبرº فإنَّ التقوى خيرُ زادٍ, يُعين على الصبرِ: فقال (اتقي الله). [11] قال ابن حجر - رحمه الله -: \"قال القرطبي: الظاهرُ أنه كان في بكائها قَدرٌ زائدٌ مِن نَوحٍ, أو غيرِهº ولهذا أمَرَها بالتقوى. قلتُ: [12] يؤيده أن في مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور (فسمع منها ما يكرهº فوقف عليها). وقال الطيبي: قوله (اتقي الله) توطئةٌ لقولِه (واصبري)º كأنه قيل لها: خافي غضب الله إن لم تصبري، ولا تجزعيº ليحصلَ لك الثواب\". [13]

فإذا كان (الصّبرُ) قائماً على مَعرفةٍ, بالله - عز وجل - وإيمانٍ, بقضاءِ الله وقدَرِه ويقينٍ, بما عندهº نفعَ صاحبَه (عند الصدمة الأولى)º فلم يجزع ولم يتسخَّط بل سَلَّمَ واسترجعَ ورحم الله ابن كثير حيث قال: \"(والصابرين والصابرات) هذه سَجِيةُ الأثباتِ، وهي الصبرُ على المصائبِ والعِلمُ بأن المقدرَ كائنٌ لا محالة وتلقِّي ذلك بالصبر والثبات، (وإنما الصبر عند الصدمةِ الأولى): أي أصعبُه في أولِ وَهلةٍ,، ثم ما بعده أسهلُ منه، وهو صِدقُ السَّجيةِ وثباتُها\". [14] وقال القرطبي - رحمه الله -: \" قوله - تعالى -: (وبشر الصابرين): أي بالثوابِ على الصبرِ... لكن لا يكونُ ذلك إلا بالصبرِ عند الصَّدمةِ الأولى... أي: إنما الصبر الشاقٌّ على النفسِ الذي يعظم الثوابُ عليه إنما هو عند هُجومِ المصيبةِ وحرارتِهاº فإنه يدلٌّ على قوةِ القلبِ وتثبتِه في مقامِ الصَّبرِ، وأما إذا بردَت حرارةُ المصيبةِ فكلٌّ أحدٍ, يصبر إذ ذاكº ولذلك قيل: يجبُ على كلِّ عاقلٍ, أن يلتزمَ عند المصيبة ما لا بد للأحمق منه بعد ثلاث\". [15]

 

 

فـ(الصبرُ عند الصَّدمةِ الأولى)º ولله دَرٌّ مَن قال:

 

إذا مات ابنُها صَرخَت بجهلٍ, ***  وماذا تستفِــيدُ من الصٌّراخِ؟

ستتبعه كعطفِ (الفاءِ) ليست  *** بِمَهلٍ, أو كـ(ثُمّ) على التراخِي

 

--------------------------------

[1] البقرة 155-157.

[2] الزمر 10.

[3] سنن ابن ماجه 1/509، باب (ما جاء في الصبر على المصيبة)، حديث 1597. قال البوصيري: \"هذا إسنادٌ صحيحٌ رجاله ثقاتٌ، وله شاهدٌ من حديث أنس بن مالك رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه\". مصباح الزجاجة 2/49.

[4] قال ابن حجر - رحمه الله -: \"وفي رواية لمسلم ما يشعر بأنه ولدها ولفظه (تبكي على صبي لها)، وصرح به في مرسل يحيى بن أبي كثير عند عبد الرزاق ولفظه (قد أصيبت بولدها)\". فتح الباري 3/149.

[5] رواه البخاري 1/430، في باب (زيارة القبور)، حديث 1223، و1/438، في باب (الصبر عند الصدمة الأولى)، حديث 1240. ورواه مسلم 2/637، في باب (الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى)، حديث 926. والترمذي 3/313-314. باب (ما جاء أن الصبر عند الصدمة الأولى)، حديث 987. والنسائي 4/22، باب (الأمر بالاحتساب والصبر عند نزول المصيبة)، حديث 1869، وابن ماجه 1/509، باب (ما جاء في الصبر على المصيبة)، حديث 1596. وابن أبي شيبة 3/59، في الصبر عند الصدمة الأولى، حديث 12089. وسنن البيهقي الكبرى 4/65، باب (الرغبة في أن يتعزى بما أمر الله - تعالى -به من الصبر والاسترجاع)، حديث 6919.

[6] سنن أبي داود 3/198، باب (الصبر عند الصدمة)، حديث 3124.

[7] قال ابن حجر - رحمه الله -: \"قوله (إليك عنِّي) هو من أسماء الأفعال ومعناها: تنحَّ وأبعد، قوله (لم تصب بمصيبتي) سيأتي في الأحكام من وجه آخر عن شعبة بلفظ (فإنك خِلوٌ من مصيبتي) وهو بكسر المعجمة وسكون اللام ولمسلم (ما تبالي بمصيبتي) ولأبي يعلى من حديث أبي هريرة أنها قالت (يا عبد الله إني أنا الحرى الثكلىº ولو كنت مصابا عذرتني)! قوله (ولم تعرفه) جملة حالية: أي خاطبته بذلك ولم تعرف أنه رسول الله. قوله (فقيل لها) في رواية الأحكام (فمر بها رجل فقال لها أنه رسول الله فقالت ما عرفته)، وفي رواية أبي يعلى المذكورة (قال فهل تعرفينه قالت لا) وللطبراني في الأوسط من طريق عطية عن أنس أن الذي سألها هو الفضل بن العباس، وزاد مسلم في رواية له (فأخذها مثل الموت): أي من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه - صلى الله عليه وسلم -º خجلا منه ومهابةً. قوله (فلم تجد عنده بوابين) في رواية الأحكام (بوابا) بالإفراد، قال الزين بن المنير: فائدة: هذه الجملة من هذا الخبر بيانُ عذرِ هذه المرأة في كَونِها لم تعرفهº وذلك أنه كان من شأنه أن لا يتخذ بواباً مع قدرتِه على ذلك تواضُعاً، وكان من شأنه أنه لا يستتبع الناسَ وراءه إذا مشى كما جرت عادة الملوك والأكابرº فلذلك اشتبه على المرأةº فلم تعرفه مع ما كانت فيه مِن شاغلِ الوجدِ والبكاء. وقال الطيبي: فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها إنه النبي - صلى الله عليه وسلم - استشعرت خوفاً وهَيبةً في نفسِهاº فتصورت أنه مثل الملوك له حاجب وبواب يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته. قوله (فقالت لم أعرفك) في حديث أبي هريرة (فقالت: والله ما عرفتك)\". فتح الباري 3/149.

[8] شرح النووي على مسلم 6/227.

 [9] فتح الباري 3/149.

[10] شرح النووي على مسلم 6/227.

[11] قال ابن حجر: وفي رواية أبي نعيم في المستخرج فقال: (يا أمةَ الله اتقي الله)! فتح الباري 3/149.

[12] القائل: ابن حجر.

[13] فتح الباري 3/149.

[14] تفسير القرآن العظيم 3/489.

[15] الجامع لأحكام القرآن 2/174.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply