إنها نفس واحدة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 طول الأمل وحب الحياة والحياد من أجل البقاء من فطرة الإنسان الذي يكره الموت، قال - تعالى -: (وجاءت سكرت الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) قال ابن كثير رحمه في تفسيره: \"أي هذا هو الذي كنت تفرّ منه قد جاءك فلا محيد ولا مناص ولا فكاك ولا خلاص\". وقد قالت عائشة - رضي الله عنها - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: \"كلنايكره الموت\" [متفق عليه]، عندما حدّثها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لقاء الله - عز وجل -. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تمني الموت فقال: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به) [رواه مسلم].

لكن الحقيقة الماثلة والتي لا تحتاج إلى برهان هي أنّ الموت هو نهاية كل حي (كل نفس ذائقة الموت).

وذكر الموت واعظ للعبد وزاجرٌ له عن ارتكاب المحرمات ودافعٌ له ـ بإذن الله ـ إلى الطاعات، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) وقال - عليه الصلاة والسلام - (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) [أخرجه مسلم وأحمد].

فالجزع من الموت لا يجدي نفعا ولا يؤخر أجلا: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)، بل يسبب قلقا ويعكٌّر صفو الحياة لا سيما عند من انعدم ـ أو ضَعُف ـ عنده الإيمان.

فإذا كان ذكر الموت واعظاً ونسيان الموت موت للقلب فيجب على العبد أن يتوسط بين الأمرين.

وقد ذكر أهل العلم أنه لا يجوز للعبد تمني الموت إلا في حالة الفتن التي تمور، أو طلبا للشهادة في سبيل الله ـ عند التقاء الصفين ـ والشهادة في سبيل الله هي أعظم مطلوب للمؤمنين وهي غاية ما يتمناه عباد الله الصادقين ويرجوه الصالحون، ولكن \"قدر السلعة يعرف بقدر مشتريها، والثمن المبذول فيها، والمنادي عليها، فإذا كان المشترى عظيماً، والثمن خطيراً، والمنادي جليلاً، كانت السلعة نفيسة\" [كتاب الفوائد لابن القيم].

والسلعة الجنة! التي إذا دخلها أشدّ الناس بؤساً نسي كل بؤس مرّ به في الحياة الدنيا من أول نفحة يجده من طيبها، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، و التي فيها أعظم النعيم وهو رؤية الله - عز وجل - كما أخبر الله - تعالى - عن المؤمنين ـ: (وجوه يومئذٍ, ناضرة إلى ربها ناظرة).

فإذا كان السلعة الجنة والمشتري هو الله ذو الجلال والإكرام والثمن النفسº النفس الواحدة لماذا يتأخر البائع أن يبذلها رخيصة في سبيل تلك السلعة الغالية؟

وكلما كان المطلوب عالياً والهدف سامياً كان الشيطان أجمع لكيده وأكثر إغواءًº فهو يقف له بباب الإسلام والجهاد والهجرة كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. ولا يزال الشيطان يثبّط عبد الله الذي يطلب إحدى الحسنيين ـ عن الجهاد في سبيل الله ـ فيذكره الأهل والأولاد والضيعات ومشقة الجهاد وينسيه فضل الجهاد وما أعدّه لله للمجاهدين، حتى يثنيه عن طريقه ـ إن استطاع ـº ولكن المؤمن الحق يخالفه ويجاهد.

ومن أسباب تخاذل العبد عن بذل النفس الواحدة لله - عز وجل -º الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت ولأن العبد ـ إلا من رحم ربي ـ كما قال بعض السلف: عمّر الدنيا وخرّب الآخرة فيكره أن ينتقل من العمار إلى الخراب.

ولكن إذا عرف العبد قدر الجهاد وفَقِه معنى الاستشهاد في سبيل الله لم يرضَ بتمني ذلك فقطº بل بذل كل ما بوسعه أن يفعله حتى يكون في مصاف عباد الله المجاهدين، فعالي الهمة لا يطلب من الأمور إلا معاليها، والإنسان لا يرغب في شيء إلا بعد معرفة قدره ومقداره، فالجهاد: ذروة سنام الإسلام ـ أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله ـ عزة الإسلام والمسلمين ـ أقصر الطرق إلى رضوان الله والجنة ـ سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان ـ فعل أكرم الخلق الذي جاهد في الله حق جهاده ـ يتمنى أهل الجهاد الرجوع إلى الدنيا ليقتلوا في سبيل الله مرات ومرات ـ أرواحهم في حواصل طير خضر ـ يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته ـ يغفر له مع أول قطرة دم ـ تخرج روحه بأسهل ما يكون ـ يؤمن من فتنة القبر ـ أعدّ الله للمجاهدين مائة درجة كل درجة كما بين السماء والأرض ـ أجر المجاهد يعدل عمل الصائم القائم حتى يرجع المجاهد ـ إنها اصطفاء الله واختياره لأوليائه (ويتخذ منكم شهداء).

وللجهاد مراتب إذا لم يمر بها العبد ـ فلا أعتقد ـ أنه يبلغ غاية الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام فمنها:

جهاد النفس: وذلك أولاً بتصفية القلب من أن يكون فيه لله نداً، وبالبراءة من الشرك والمشركين وعدم مولاة الكافرين، ومن العُجب والرياء ومن فعل المعاصي والتكاسل عن الواجبات، ومن الصبر على أقدار الله وغيرها من أعمال البر.

الجهاد بالمال: وهو مقدّم في أغلب الآيات على الجهاد بالنفس.

الجهاد باللسان ومنه بالقلم وكل ذلك يكون بالترغيب والتحريض.

بدعائهº فالدعاء سلاح المؤمن (جاهدوا المشركين بأموالكم وألسنتكم) [رواه أبو داود]

فيا من فاته المجاهدون وقعد مع الخالفين: إبكِ على نفسك ونح عليها إن كنت مع الموقنين وتشبه بـ (الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون) ونخشى من قول الله - عز وجل - عن المنافقين: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين). ولكن عزاؤنا أنّ في القلب نيّة لا يطّلع عليها إلا علام الغيوب!

فيا أهل الأموال......... إنها نفس واحدة

ويا أهل الشهوات......... إنها نفس واحدة

ويا أهل الوزارات والرئاسات......... إنها نفس واحدة

ويا محبي الدنيا......... إنها نفس واحدة

بل يا أهل الجهاد......... إنها نفس واحدة

فالكل سيلقى الله بعد خروج هذه الروح الواحدة ولكن ما من أحد يتمنى أن تكون له عدّة أنفس لتقتل في سبيل الله إلا الشهيدº لما يجده من فضل الله - عز وجل - عليه ورحمته. فها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  وهو أعلم الخلق بما أعدّه الله للشهداء في سبيله ـ يتمنى أن يقتل في سبيل الله مرات ومرات فقد ثبت عنه أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل) [رواه البخاري]، وعلى هذا درج أصحابه - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان.

يا صاحب النفس الواحدة لا تجزع من الموت، فإن له أجل مضروب، وأمد محدود.

يا صاحب النفس الواحدة إنها نفس واحدة اجعلها الله، ولتكن نيّتك وهمّك أن تبذلها في سبيل الله، وحدّث نفسك بالغزو وشمّر عن ساعد الجد، وتمثّل قول القائل:

أجود بالنفس إذا ضنّ البخيل بها * * *  والجود بالنفس أسمى غاية الجود

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply