رب أشعث أغبر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بالرغم من أن للوجاهة والمنصب والمكانة الاجتماعية دوراً مهماً في صناعة التأثير وهندسة الحياة وفتح الأبواب الموصدة، ويمكن بها اختصار بعض الوقت والجهد، إلا أن انعدامها ليس عقبة كؤوداً تحول دون التأثير الذي يمكن أن يحدثه الإنسان في واقعه ومجتمعه وأمته.

فكم من أُناس مغمورين ليسوا من أشراف الناس ولا من ساداتهم ولا من كبرائهم، بل ربما هم وآباؤهم وأجدادهم نكرات بين الناس، إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا، أحدثوا التأثير الكبير وصنعوا ما لم يستطع غيرهم من سادة القوم أن يصنعوه، فلله درهم.

إن ديننا الإسلامي الحنيف لم يهمل الضعفاء، ممن لا وجاهة لهم ولا جاه ولا منصب، ولم يحط من شأنهم، بل على خلاف ذلك، فقد رفع مكانتهم، وجعل لهم منزلة رفيعة عند الله أولاً، ثم عند الناس، واعتبرهم مصدراً من مصادر النصر والتوفيق لهذه الأمة.

يقول الله - تعالى -: ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) (28) (الكهف).

أي: احبس نفسك مع الفقراء الضعفاء، من أتباعك المؤمنين، الذين يدعون ربهم بالصباح والمساء، يبتغون رضوان الله - تعالى -، ولا تصرف بصرك إلى غيرهم من أهل الثراء والجاه، تبتغي بمجالستهم نيل الفخر والشرف، ولا تسمع لأولئك السفهاء الذين طلبوا منك طرد المؤمنين الضعفاء، فإنهم غافلون عن ذكر ربهم، سائرون مع الأهواء، وأمرهم فُرُط أي ضياعٌ وخسار ودمار.

رُوي في سبب نزول هذه الآية أن أشراف قريش، اجتمعوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا له: إن أردت أن نؤمن بك ونسمع كلامك فاطرد هؤلاء الفقراء من مجلسك، فإنَّا أشراف قريش وسادتها، إن أسلمنا أسلم الناس، ونحن نأنف أن نجلس في مجلس واحد مع هؤلاء الفقراء الصعاليك.

فهمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبهم إلى ما طلبوا حرصاً منه على إسلام سادة قريش، فنزلت الآية، فخرج - صلى الله عليه وسلم - يلتمس الفقراء، فلما رآهم جلس معهم وقال: \"الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني ربي أن أصبر نفسي معهم\" (رواه مسلم).

وروى أبوداود بإسناد جيد عن أبي الدرداء عويمر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"ابغوني الضعفاء، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم\".

وهذا الحديث يدل على فضل ضعفاء المسلمين لأنهم أشد إخلاصاً في الدعاء، وأكثر خشوعاً في العبادة، لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخارف الدنيا.

وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره\".

كان مجاهد بن جبر مولى للسائب بن أبي السائب المخزومي إلا أنه أبى إلا أن يصنع الحياة ويؤثّر في جانب من جوانبها، فكان - رحمه الله - شيخ المفسرين والقراء وإمامهم المقدَّم على كثير منهم.

ولذا يقول سفيان الثوري - رحمه الله -: خذوا التفسير من أربعة: مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والضحاك.

ويقول الأعمش: كان مجاهد كأنه حمَّال، فإذا نطق خرج من فيه اللؤلؤ، وكان ابن عمر ربما أخذ له بالركاب..ومات - رحمه الله - وهو ساجد.

ولقد ظهر في الأمة بعد موت العبادلة الأربعة: \"عبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وعبدالله بن عمرو بن العاص\" سبعة من العلماء ترجع إليهم الأمة كلها، جميعهم من الموالي وهم: مكحول فقيه الشام، والحسن البصري في البصرة، وعطاء الخراساني عالم في خراسان، وعطاء ابن أبي رباح في مكة، وإبراهيم النخعي في الكوفة، ويحيى بن أبي كثير في اليمامة.

وهذا الحسن البصري لم يكن من سادة الناس وإنما كان من الموالي، فهو مولى لزيد بن ثابت الأنصاري، وأمه مولاة لأم سلمة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، لكنه صار بعد ذلك سيد البصرة في زمانه، حتى إن الحجاج بن يوسف الثقفي لما دخل البصرة قال: من سيد البصرة؟ فقيل له: الحسن البصري، قال: كيف ذلك وهو من الموالي؟ فقيل له: إن الناس احتاجوا إلى علمه واستغنى هو عمَّا في أيدي الناس.

يقول ابن الرومي:

وللمجد قوم ساوروه بأنفس ***كرام ولم يرضوا بأم ولا أب

وهذه \"مارجريت تاتشر\"، كانت بائعة مغمورة في متجر في بريطانيا، لكنها قررت أن يكون لها دور فاعل في الحياة، فكان لها ما أرادت، ولا أظن أحداً يجهل هذه المرأة التي أصبحت في قمة الهرم البريطاني، ورأست مجلس وزراء بلادها لأكثر من دورة انتخابية.

ولم يكن \"جاك شيراك\" صاحب وجاهة ولا منصب، وإنما كان عاملاً بسيطاً في مطعم في الولايات المتحدة الأمريكية، لكنه كان ينظر إلى القمة، فلم يرض لنفسه أن يستمر في وضعه المتواضع، لذا قرر أن يسلك طريقاً آخر، فكان أن انتهى به المطاف بعد أربعة عقود ليصبح رئيساً لفرنسا.

إن خلاصة ما أود التذكير به والتأكيد عليه والتنبيه إليه تكمن في أمرين مهمين وهما:

1- ألا نستضعف غير الوجهاء ولا نستخف بمن لا جاه له ولا منصب ولا مكانة اجتماعية، فإن أكرم الناس عند الله أتقاهم، وإنه ليس بين الله وخلقه نسب إلا نسب الإيمان والعمل الصالح والتقوى، كما أن الأيام دول، فقد يسود غير الوجيه، ويتقدم الناس غير شريف النسب، ويقود من لم يكن من أبناء القادة والعظماء.

2- على الضعفاء وغير الوجهاء ومن لاجاه لهم ولا مكانة اجتماعية ألا يحتقروا أنفسهم أو يهمِّشوا من أدوارهم أو يستسلموا لغيرهم، وإنما ينبغي أن يدركوا أن لهم سلفاً، ممن هم بمثل حالهم وظرفهم، أبقى الله أثرهم وخلد ذكرهم ليكونوا قدوات شامخة لمن يأتي خلفهم.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply