حتى يباهي الله - عز وجل - بنا الملائكة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لما سأل الملائكة الله - عز وجل - سؤال استعلام و استكشاف عن الحكمة من خلق بني آدم مع أن منهم من يفسد في الأرض و يسفك الدماء، قال مجيباً لهم عن هذا السؤال: {إني أعلم ما لا تعلمون}

أي أعلم المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم و من هذه المصالح:

1- أن الله - عز وجل - سيجعل فيهم الأنبياء و يَُرسل فيهم الرُسل، و يوجد منهم الصديقون والشهداء و الصالحون و العُباد و الزُهاد و الأولياء و الأبرار و المقربون و العلماء العاملون و الخاشعون المحبون له - تبارك وتعالى -.

 

2- والرب - تعالى -كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر و الكبر و الحسد ما لا يعلمه الملائكة. فلما أمرهم بالسجود ظهر ما في قلوب الملائكة من الطاعة و المحبة و الخشية و الانقياد، فبادروا إلى الامتثال، و ظهر ما في قلب عدوه من الكبر و الغش و الحسد. فأبى و استكبر و كان من الكافرين [التفسير القيم، ابن القيم، جمعه: محمد أويس الندوي، ص130- 131].

 

من حكم الله - عز وجل - في تعاقب الملائكة في الليل و النهار:

قال - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: (وتجتمع ملائكة الليل والنهار في صلاة الفجر).

 

وفي الصحيحين: عن أبي هريرة: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم و هم يصلون، و تركناهم وهم يصلون).

 

قال النووي: \" و أما اجتماعهم في الفجر و العصر فهو من لطف الله - تعالى - بعباده المؤمنين و تكرُمة لهم أن جعل اجتماع الملائكة عندهم و مفارقتهم لهم في أوقات عباداتهم و اجتماعهم على طاعة ربهم، فيكون شهادتهم لهم بما شاهدوه من الخير \".

 

وقيل الحكمة من سؤال الله - عز وجل - للملائكة: \" فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير، و استنطاقهم بما يقتضي التعطف عليهم و ذلك لإظهار الحكمة في خلق نوع الإنسان في مقابلة من قال من الملائكة:

[قَالُوا أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ الدِّمَاء وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعلَمُ مَا لاَ تَعلَمُونَ ][سورة البقرة، آية (30)]. أي: و قد وُجِدَ فيهم من يسبح و يقدس مثلكم بنص شهادتكم \" [صحيح مسلم بشرح النووي]

 

تعريف المباهاة:

بها: البهاء: الحُسن تقول بَهِيَ الرجل بالكسر بهاءً و بهو أيضاً بالضم بهاء فهو: بَهِيَ و البهو: البيت المقدم أمام البيوت و (المباهاة): المفاخرة. و تباهوا: أي: تفاخروا [مختار الصحاح، (82) ].

 

وفلان يباهي بما له: أي: يفخر ويتجمل بهم على غيرهم ويظهر حسنهم.

أولاً: أهل عرفة:

1- عن عبد الله بن عمرو بن العاص : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (إن الله - عز وجل - يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً) [مسند أحمد، مسند عبد الله بن عمر بن العاص، رقم الحديث 6792]

 

2- و عن ابن المسيب قال: قالت عائشة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء) [صحيح مسلم، فضل الحج و العمرة و يوم عرفة، رقم الحديث 2402].

 

قال الإمام النووي: هذا الحديث ظاهر الدلالة في فضل يوم عرفة، وهو كذلك.

 

قال القاضي عياض: قال المازري: معنى (يدنو) في هذا الحديث: أي تدنو رحمته وكرامته، لا دنو مسافة ومماسة.

و قال القاضي: يتأول فيه ما سبق في حديث النزول إلى السماء الدنيا، كما جاء في الحديث الآخر من غيظ الشيطان يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة.

 

و قال القاضي: وقد يريد دنو الملائكة إلى الأرض أو إلى السماء بما ينزل معهم من الرحمة ومباهاة الملائكة بهم عن أمره - سبحانه وتعالى -.

 

ثانياً: المجتمعون على تلاوة القرآن و على الذكر

1- عن الأغر أبي مسلم أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري : أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال: (ما من قوم يذكرون الله إلا حفت بهم الملائكة [أحاطت بهم الملائكة الذين يطوفون في الطريق يلتمسون أهل الذكر] وغشيتهم الرحمة [غشيتهم الرحمة: أي غطتهم الرحمة] ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده) [سنن الترمذي، باب ما جاء في القوم يذكرون الله - عز وجل - مالهم، حديث حسن صحيح].

نزلت عليهم السكينة: أي الطمأنينة والوقار لقوله - تعالى -: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} ومنه قوله - تعالى -: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم}.

 

قال النووي: في شرح مسلم: قيل المراد بالسكينة: الطمأنينة والوقار.

 

قال: \" وفي هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، ويلتحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة ورباط ونحوهما إن شاء الله - تعالى -.

وذكرهم الله فيمن عنده: أي ذكرهم الله مباهاةً وافتخاراً بهم بالثناء الجميل عليهم وبوعد الجزاء الجزيل لهم \".

 

أفضل الذكر و أنفعه:

يقول ابن القيم: \" وأفضلُ الذكرُ و أنفعهُ: ما واطأ فيه القلب اللسان، و كان من الأذكار النبوية، و شهد الذاكرُ معانيه و مقاصده \" [الفوائد، ابن القيم، ص 272]

 

2- عن أبي سعيد الخدري قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك قالوا والله ما أجلسنا إلا ذاك قال أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقل عنه حديثاً مني وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك! قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك! قال: (أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله - عز وجل - يباهي بكم الملائكة) [صحيح مسلم بشرح النووي،، فضل الاجتماع على تلاوة القرآن و على الذكر، رقم الحديث4869]

 

قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله - عز وجل - يباهي بكم الملائكة):أي: يظهر فضلكم لهم، ويريهم حسن عملكم، ويثني عليكم عندهم.

 

ثالثاً: المنتظرون الصلاة بعد الصلاة:

عن عبد الله بن عمرو قال : صلينا مع رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - المغرب فرجع من رجع وعقب من عقب [التعقيب في الصلاة: الجلوس بعد أن يقضيها لدعاء أو مسألة وفي الحديث \" من عقب في الصلاة فهو في الصلاة\". وقال السيوطي التعقيب في المساجد انتظار الصلوات بعد الصلاة] فجاء رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - مسرعاً قد حفزه النفس [أي: أعَجَلَه النفس] وقد حسر عن ركبتيه فقال: (أبشروا هذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى) [سنن ابن ماجه].

وانتظار الصلاة بعد الصلاة رباط كما في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، و يرفع الدرجات؟ \" قالوا بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، و كثرة الخطا إلى المساجد، و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلك الرباط فذلكم الرباط).

 

قال القرطبي:

المرابطة عند العرب: العقد على الشيء حتى لا ينحل فيعود إلى ما كان صبر عنه، فيحبس على النية الحسنة، و الجسم على فعل الطاعة [الجامع لأحكام القرآن، (ج4/206)].

وفي لسان العرب: الرباط: اسم لما يُربط به الشيء أي يُشد يعني هذه الخلال: \" إسباغ الوضوء على المكاره و كثرة الخطا إلى المساجد، و انتظار الصلاة بعد الصلاة تربط صاحبها عن المعاصي و تكفه عن المحارم.

 

وذُكر أيضاً في معناها التعلق بالمساجد: (كما في الحديث السبعة الذي يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله..و رجل قلبه معلق في المساجد) [متفق عليه].

 

قال النووي في شرحه: معناه شديد الحب لها و الملازمة للجماعة فيها و ليس معناه دوام القعود في المسجد [صحيح مسلم بشرح النووي، 8/122ح (2377)].

 

وقال ابن حجر في فتح الباري: \" ظاهره أنه من التعليق كأنه شبه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلاً إشارة إلى طول الملازمة بقلبه، و إن كان جسده خارجاً عنه، و يدل عليه رواية الجوزقي: كأنما قلبه في المسجد [فتح الباري 2/184 ح(660)].

 

فلنربط قلوبنا بالمساجد، و لنحجز أماكننا في الصف الأول، فالصف الأول على مثل صف الملائكة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: \"و الصف الأول على مثل صف الملائكة و لو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه \" [حديث صحيح رواه أبو داود في سننه]

قال أحمد عبد الرحمن البنا في شرحه: \"مثل صف الملائكة أي في القرب من الله - عز وجل - و نزول الرحمة و إتمامه و اعتداله \" [الفتح الرباني].

 

رابعاً: الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله:

عن عبد الله بن مسعود قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (عجب ربنا - عز وجل - من رجل غزا في سبيل الله فانهزم يعني أصحابه فعلم ما عليه فرجع حتى أهريق دمه [أي: أريق دمه] فيقول الله - تعالى -لملائكته [مباهياً به] انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي [من الثواب] وشفقة [خوفاً] مما عندي [من العقاب] حتى أهريق دمه [سنن أبي داود، في الرجل يشري نفسه، رقم الحديث، 2174].

(عجب ربنا) : قال المناوي: أي رضي واستحسن. وقال في النهاية: أي عظم عنده وكبر لديه، وإطلاق التعجب على الله مجاز لأنه لا يخفى عليه أسباب الأشياء. والعجب ما خفي سببه ولم يعلم

قال العلقمي: في الحديث دليل على أن الغازي إذا انهزم أصحابه وكان في ثباته للقتال نكاية للكفار فيستحب الثبات لكن لا يجب كما قاله السبكي، وأما إذا كان الثبات موجهاً للهلاك المحض من غير نكاية فيجب الفرار قطعاً [عون المعبود شرح سنن أبي داود].

قال ابن النحاس الدمياطي - رحمه الله - تعالى-: ولو لم يكن في هذا الباب- باب الانغماس في العدو- إلا هذا الحديث الصحيح لكفانا في الاستدلال على فضل الانغماس [مصارع الأشواق 1-532]

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - تعليقاً على هذا الحديث: فهذا رجل انهزم هو وأصحابه، ثم رجع وحده فقاتل حتى قُتل، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله يعجب منه، وعجب الله من الشيء يدل على عظم قدره، وأنه لخروجه عن نظائره يعظم درجته ومنزلته، وهذا يدل على أن مثل هذا العمل محبوب لله مرضي، لا يكتفي فيه بمجرد الإباحة والجواز حتى يقال: وإن جاز مقاتلة الرجل حتى يغلب على ظنه أن يُقتل فترك ذلك أفضل، بل الحديث يدل على أن ما فعله هذا يحبه الله و يرضاه، ومعلوم أن مثل هذا الفعل يُقتل فيه الرجل كثيراً أو غالباً [قاعدة في الانغماس 54 55].

 

ويقول الدكتور عبد الله عزام - رحمه الله تعالى - تعليقاً على الحديث \" وهذا دليل أنه يستحب للمسلم أن يجاهد ولو وحده ولو تيقن من القتل، إن كان في ذلك مصلحة للمسلمين، ورفع لمعنوياتهم أو نكاية بأعدائهم، وهذا دليل كذلك أنه يستحب للمسلم أن يقوم بعمليات استشهادية يتيقن فيها من الموت إن كان في ذلك مصلحة للإسلام، وقد ثبت أن بعض الصحابة قد انغمسوا في صفوف الكفار وكانوا وحدهم\".

 

3- وروى ابن أبي شيبة والحاكم بسند صحيح إلى أبي ذر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة يحبهم الله، فذكر أحدهم: رجل كان في سرية فلقوا العدو فهزموا فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له).

وهو من أحسن ما يُردّ به على من يقول: إن العمليات الاستشهادية إلقاء بالنفس في التهلكة.

 

خامساً: المجالس الإيمانية:

عن أنس بن مالك قال : كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول تعال نؤمن بربنا ساعة فقال ذات يوم لرجل فغضب الرجل فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة فقال النبي- - صلى الله عليه وسلم - يرحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تباهى بها الملائكة - عليهم السلام - [مسند أحمد رقم الحديث (13295)].

و هي مجالس العلم سواء كانت في المساجد أو في دور العلم، أو في المنازل أو غير ذلك مما يبتغي به وجه الله، و رفع رايته، و نصرة دعوته، و دحض عدوه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply