وقفة مع نهاية العام


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -… أما بعد:

أخي الحبيب، لقد وقفت أمام يوميتي لأنزع آخر ورقة بها، آخر يوم من عمر العام المنصرم 1425هـ، وعلى غير عادتي تثاقلت يدي هذه المرة وهي تمتد إليها، وانتابني إحساس نبّه في وجداني شعوراً، ما كنت أعيره اهتماماً على مدى أكثر من 350 يوماً قد انتهت، لقد أحسست بإشفاق عليها، وقد تراءت لي كأنها تحتضر، وترنو إلى يدي في فزع وذل، كأنها تطلب مني أن أمهلها لحظات تودّع فيها هذه الحياة، فعدلت عن نزعها، ورحت أتأمل هذه الورقة الأخيرة، واعترتني رهبة عندما عرفت أنني في الحقيقية بنزعها قد نزعت حزمة من أيام عمري، لأطوي بها سجلّي الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وبما فيها من خير وشر.

 

أخي الحبيب، إن هذه اليومية المحتضرة تشبه عمر أي مخلوق، وإنها تتناقص أيامها مثلما تتناقص أعمارنا يوماً بعد يوم، وكما يتناقص بتراكمات الحقب والسنين عمرُ الزمان، وكل المخلوقات في تناقص مطرد حتى تنتهي إلى الزوال {كُلٌّ مَن عَلَيهَا فَان. وَيَبقَى وَجهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكرَامِ} [الرحمن: 26-27]، إن كل المخلوقات تنتهي أعمارها، وتمضي حيث شاء الله لها، وتطوى، إلا هذا المخلوق (الإنسان) فإنه الوحيد الذي يبقى متبوعاً بعد رحيله من هذه الدنيا، وموقوفاً للحساب والجزاء.

عدت من ذهولي، وأخذت استحث ذاكرتي القاصرة، علّها تسترجع بعض ما رسب وعلق بها من أحداث العام المنصرم، قبل أن تغمرها دوائر النسيان، ووقفت طويلاً استعرض ذلك الشريط الطويل (العمر)، يا سبحان الله العظيم، إنه شريط عجيب حقاً، فقد اكتظ اكتظاظاً، وأفعم إفعاماً، لقد اكتظ بالحوادث المختلفة، والأحداث المتباينة، والأعمال الحقيرة والجليلة، عنّي وعن غيري ممن لا حصر لهم، من الذين مرّوا أمام عدسة هذا الشريط بالصوت والصورة.

لقد تذكرت هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وما كان فيها من أحداث، وما أحوجنا -أخي الحبيب- ونحن نستقبل عاماً هجرياً جديداً أن نعيش بقلوبنا وعقولنا ومشاعرنا وواقعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة النبوية والتي حوت على الكثير من الدروس والعبر منها على سبيل المثال لا الحصر، قيمة الزمن وأهميته.

فلقد جاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله حق الجهاد، منذ أنزل الله عليه قوله - تعالى -: {يأَيٌّهَا المُدَّثِّرُ. قُم فَأَنذِر. وَرَبَّكَ فَكَبِّر. وَثِيَابَكَ فَطَهِّر} [المدثر: 1-4]، فكان - صلى الله عليه وسلم - يواصل الليل مع النهار والسر مع الإعلان، وما كان يخشى في الله لومة لائم، ولا كان يردعه عن تبليغ الدعوة تهديد قريش ووعيدها.

واستجاب له منذ البداية صدّيق الأمة أبو بكر من الرجال، ومن الصبيان علي بن أبي طالب، ومن النساء زوجته خديجة بنت خويلد. واستجاب لأبي بكر: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهم - جميعاً وأرضاهم.

وتعهد - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالتربية والتعليم فكان يجمعهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم فيعلمهم ما ينز ل عليه من القران الكريم، ويأمرهم بحسن الأخلاق ويحذرهم من الفسق والشرك والعصيان، وكان - صلى الله عليه وسلم - قدوة لهم في جميع أقواله وأفعاله.

وكان للوقت قيمة كبرى عندهم، فكانوا يستغلون أوقاتهم في طاعة الله وفي التزود من علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفضله، وكانت العقيدة في نفوسهم أهم من المال والأهل والولد، وعندما خيّروا بين الوطن والقبيلة ورغد الحياة وبين خشونة العيش والغربة والتشرد اختاروا صحبة رسول الله والهجرة في سيل الله.

لقد صدق الصحابة رضوان الله عليهم ما عاهدوا الله عليه، وعندما ابتلاهم الله صبروا وضربوا أروع الأمثلة في الفداء والتضحية، وعندما نادى منادي الجهاد كانوا يتسابقون على الموت في سبيل الله ولسان حالهم يقول {وَعَجِلتُ إِلَيكَ رَبِّ لِتَرضَى} [طه: 84]

وبعد ثلاثة عشر عاماً من البذل والتضحية أكرم الله - جل وعلا - محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، بالنصر وجاءهم من جهة المدينة.

 

13 عاماً كانت محسوبة بأيامها ولياليها وساعاتها.

13عاماً لا يهنأ المسلمون فيها بلذيذ الطعام والشراب، ولا يصرفهم عن ذكر الله حب الدنيا والتثاقل إلى الأرض.

13 عاماً من العمل الجاد، والتخطيط الدقيق، والتربية الرائعة.

فأين نحن اليوم - أخي الحبيب - من سيرة الرسول وأصحابه - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -.

لقد انسلخ عام كامل من أعمارنا..انسلخ بثوانيه ودقائقه وساعاته وأيامه، فماذا قدمنا فيه من أعمال صالحة ندخرها ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد؟

إن الجواب أخي الحبيب على هذا السؤال مخجل، ومخجل جداً، ولكن لابد من الاعتراف بالأمر الواقع، فالواحد منا يخرج من بيته في الصباح الباكر، ويمضي سحابة يومه في مدرسته أو جامعته أو عمله، ويعود إلى بيته آخر النهار وقد أضناه التعب فيتناول طعام الغداء ويرتاح قليلاً ثم يمضي بقية اليوم وأول الليل في المذاكرة أو قضاء الأمور المعيشية، ثم ينام، ثم يعود في الصباح وهكذا وهكذا، إنها والله حياة ليست فيها دقائق مخصصة لقراءة القرآن ولتعلم أحكام ديننا وليست فيها دقائق مخصصة لقيام الليل وصلاة السنن والنوافل وليست فيها دقائق مخصصة لحضور مجالس الذكر والمحاضرات وليست فيها أيام لصيام الإثنين والخميس وليست فيها دقائق لبذل المعروف وقضاء حوائج الناس.

 

أخي الحبيب، لقد شغلتنا دنيانا عن طاعة ربنا، ونحن الذين حذرنا - جل وعلا - منها، قال - تعالى -{يأَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلهِكُم أَموَالُكُم وَلاَ أَولاَدُكُم عَن ذِكرِ اللَّهِ وَمَن يَفعَل ذَلِكَ فَأُولَـئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ.وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقنَاكُم مِّن قَبلِ أَن يَأتِيَ أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَولا أَخَّرتَنِي إِلَى أَجَلٍ, قَرِيبٍ, فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ. وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ} [المنافقون: 9-11]

 

وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: \"إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك\" [رواه البخاري/ الجامع الصحيح 6416].

 

وقال - صلى الله عليه وسلم -: « لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به » [السلسلة الصحيحة 946]

 

سوف يسألنا مالك يوم الدين يوم الحشر عن أعمارنا، هل أفنيناها في الأعمال الصالحة والطاعات، أم أفنيناها في اللهو والغفلة والعبث؟ ويسألنا - سبحانه وتعالى - عن أجسامنا هل أبليناها بالصيام والقيام وغض البصر وحفظ السمع واللسان، أم أبليناها في تناول ما لذ وطاب من الطعام والشراب؟ والسائل - جل وعلا - يعرف خفايا أمورنا، ولا يعجزه شي ء في الأرض ولا في السماء.

 

قال - تعالى -{أَلَم تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجوَى ثَلاَثَةٍ, إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُم وَلاَ خَمسَةٍ, إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُم وَلاَ أَدنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُم أَينَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ, عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]

 

أخي الحبيب، إن الكثير من أبناء المسلمين في معظم البلاد العربية والإسلامية يحتفلون بذكرى الهجرة في كل سنة، ولكن للأسف الشديد القليل جداً منهم الذي يعرف الحكمة التي انطوت عليها حادثة الهجرة، فالله - عز وجل - في كتابه العزيز قد أنحى باللائمة على جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا في مكة يصلون ويصومون فقط، ولا يستطيعون أن يفعلوا أكثر من ذلك من مظاهر الدين لأنهم كانوا تحت سلطة قريش ولا قوة لهم عليها، ثم هم لم يهاجروا إلى قلعة الإسلام ليكونوا من جنودها ويظهروا شعائر دينهم بكل راحة، فأنزل الله فيهم قوله - تعالى -{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ فِي الأَرضِ قَالوا أَلَم تَكُن أَرضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَـئِكَ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَسَآءَت مَصِيراً} [النساء: 97]

 

فالحكمة أخي الحبيب من الهجرة هي أن الإسلام لا يكتفِ من أهله بالصلاة والصوم فقط، بل يريد منهم مع ذلك أن يطبقوا كل أوامر الله - عز وجل - وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - الظاهرة والباطنة في أنفسهم وفي كل أمور حياتهم اليومية، كما قال - تعالى -{يأَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادخُلُوا فِي السِّلمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوُّ مٌّبِينٌ} [البقرة: 208] والسلم هو الإسلام، وقال - تعالى -{قُل إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الأنعام: 162]

 

أخي الحبيب، إن الهجرة باقية لم تنتهِ بعد، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: « لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها » [رواه أبو داود والنسائي، صحيح الإرواء 1208]

 

وعن عبد الله بن عمير عن أبيه عن جده، أنه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أفضل الهجرة؟ قال: « من هجر ما حرم الله ». [مشكاة المصابيح 3833]

وقال - صلى الله عليه وسلم - في حجه الوداع: « ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم. والمسلم؟ من سلم الناس من لسانه ويده. والمجاهد؟ من جاهد نفسه في طاعة الله. والمهاجر؟ (وهنا الشاهد) من هجر الخطايا والذنوب » [السلسلة الصحيحة 549]

 

فلابد من الهجرة من ترك الصلاة مع الجماعة والنوم عن الصلوات إلى الصلاة على وقتها مع الجماعة في الصف الأول. ولابد من الهجرة من قراءة المجلات والجرائد التافهة إلى قراءة القرآن الكريم وتدبر آياته.

ولابد من الهجرة من سماع الأغاني والتلذذ بالغيبة إلى سماع القرآن والمحاضرات المفيدة.

ولابد من الهجرة من النظر المحرم في المجلات والأسواق والقنوات إلى النظر في كتاب الله وسنة رسوله وسيرته وعظمة الله في مخلوقاته.

ولابد من الهجرة من الكذب والغيبة والكلام البذيء إلى ذكر الله - عز وجل - ودعائه والتلذذ بمناجاته.

ولابد من الهجرة من الجلسات الفارغة والتافهة إلى مجالس الذكر وحضور المحاضرات النافعة.

ولابد من الهجرة من أصدقاء السوء سواء كانوا من الأقارب أو من زملاء الدراسة والعمل، الذين يصدون الإنسان عن سلوك طريق الالتزام والهداية، إلى الإخوة الصالحين الذين يدلون على الخير ويعينون المسلم عليه.

وباختصار لا بد من الهجرة من كل ما يغضب الله، إلى كل ما يرضي الله، ومن كل معصية يبغضها الله إلى كل طاعة يحبها الله.

 

أخي الحبيب، إن بداية العام الهجري الجديد فرصة لكل واحد منّا لكي يفتح صفحة جديدة مع الله - عز وجل -، صفحة بيضاء نقية، يعاهد الله فيها أن يسلك طريق الالتزام والهداية، يعاهد الله فيها أن يكون كتاب الله - عز وجل - جليسه، وذكر الله - عز وجل - أنيسه، وقيام الليل وصيام النهار سبيله، والأخ الصالح في الله نديمه.

صفحة يعاهد الله فيها أن يترك كل معصية تبغضه، وكل أغنية ماجنة من القرآن تحبسه، وكل نظرة محرمة للقلب تقتله، وكل جليس سيء من الله يبعده.

 

بهذا وهذا وحده نحيي ذكرى الهجرة الشريفة، ونحقق مقاصدها، وهذا هو الفلاح الذي يدعونا إليه المؤذن خمس مرات في كل يوم عندما يدعونا إلى الوقوف بين يدي الله - عز وجل -.

 

اللهم اجعل عامنا القادم أفضل من عامنا الماضي بتوفيقنا لطاعتك وترك معصيتك يا رب العالمين، اللهم اجعل عامنا القادم فرصة لقبولنا في قافلة العائدين إليك والمنيبين إليك يا ذا الجلال والإكرام، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply