مراقبة الله والإحسان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله عالم السر والنجوى المطلع على الضمائر وكل ما يخفى، - سبحانه - لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، - صلى الله عليه وسلم - تسليماً كثيراً.

أما بعد - أيها المسلمون - لقد أخبر الله - سبحانه وتعالى - بأنه مطلع على جميع الخلائق يعلم أحوالهم ويشاهد أعمالهم فلا يفوته شيء ولا يعزب عن عمله منها مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

يقول - سبحانه وتعالى -: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأنٍ, وَمَا تَتلُوا مِنهُ مِن قُرآنٍ, وَلَا تَعمَلُونَ مِن عَمَلٍ, إِلَّا كُنَّا عَلَيكُم شُهُودًا إِذ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعزُبُ عَن رَبِّكَ مِن مِثقَالِ ذَرَّةٍ, فِي الأَرضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصغَرَ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ, مُبِينٍ,} [(61) يونس]. ويقول: {يَستَخفُونَ مِن النَّاسِ وَلَا يَستَخفُونَ مِن اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُم إِذ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرضَى مِن القَولِ} [(108) النساء]. ويقول - تعالى -: {يَعلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرضِ وَمَا يَخرُجُ مِنهَا وَمَا يَنزِلُ مِن السَّمَاءِ وَمَا يَعرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُم أَينَ مَا كُنتُم وَاللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ} [(4) الحديد]. ومفاد هذا الإخبار بجانب ما يقرره من شمول علم الله وكماله وإطلاعه ومراقبته وعظيم قدرته ورعايته وهيمنته، هو تعليم عباده بأن يستشعروا ذلك حقيقة، يستشعروا دوماً بأن الله مطلع على حركاتهم وسكناتهم، على أقوالهم وأفعالهم وما يختلج في صدورهم {وَأَسِرٌّوا قَولَكُم أَو اجهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصٌّدُورِ (13) أَلَا يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ(14)} [الملك]. ويتأكد استشعار ذلك كثيراً عندما يشرع المسلم في عبادة من العبادات بحيث يقوم فيها بين يدي الله مقام من استشعر أن الله - تعالى -يراه، وكأنه هو يرى الله، وهذا هو أرفع مراتب الدين التي بينها رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - لأمته عندما بين الإسلام والإيمان والإحسان بقوله: \"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك\".

فاتقوا الله عباد الله: واستشعروا إذا قمتم بين يدي الله أن الله يراكم، فإن من استشعر ذلك من قلبه مخلصاً ومتبعاً عبد الله - تعالى - على الحقيقة وعظمه وخافه وخشيه حقيقة ونعم بمناجاته وأنس والتذ بعبادته - تعالى - وكيف لا ينعم بذلك ويغتبط به من يعتقد ويتصور أن الله يراه، ويحب عمله ذلك ويرضاه {وَإِن تَشكُرُوا يَرضَهُ لَكُم} [(7) الزمر]. كيف لا ينعم بعمله ويغتبط به من علم أنه يسعى في مرضاة الله؟ كيف لا يزداد بذلكم إيماناً وأنساً وغبطة من علم أن الله - تعالى -معه؟ فذلكم هو مقام الإحسان، والحق - تعالى – يقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ} [(128) النحل].

كيف لا؟ وقد وعد الله النصر والتأييد والعقبى الحسنة في الدنيا والآخرة من استشعروا ذلك من قلوبهم استشعاراً تتجلى فيه متابعة رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - حين قال له أبو بكر وهما في الغار، وقد لحق بهما طلب قريش: يا رسول الله لو أبصر أحدهم موضع قدمه لأبصرنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما).

كيف لا يتحلى بذلكم أيها المسلمون من يطمع في الآخرة في الحسنى في دار الخلد التي يعطي الله أهلها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟ من يطمع في ذلكم وفيما هو أفضل منه وهو لذة النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة يقول - سبحانه -: {لِلَّذِينَ أَحسَنُوا الحُسنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس]، {لَهُم مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَينَا مَزِيدٌ} [(35) ق]. وفسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزيادة فيما رواه مسلم - رحمه الله - بالنظر إلى وجه الله الكريم في الجنة، وهذا التفسير مناسب كثيراً لجعله جزاء الإحسان، لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة كأنه يراه بقلبه وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك النظر إلى وجه الله عياناً في الآخرة {وُجُوهٌ يَومَئِذٍ, نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} القيامة.

فاتقوا الله - أيها المسلمون- وراقبوه واستشعروا قدرته وعظمته واطلاعه عليكم ومشاهدته لأعمالكم، عندما تنطقون بقول، عندما تشرعون في عبادة أيّاً كانت: قراءة، أو قيام ليل، أو صلاة جماعة، أو غير ذلكم من قول أو فعل مشروع، استشعار من آمن بالله - تعالى -، وبقوله {وَتَوَكَّل عَلَى العَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلٌّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)} الشعراء. وبقول رسوله: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه) وقوله: \"فإنه يناجي ربه\".

أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفره إنه هوالغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

يقول الله - سبحانه وتعالى -: {وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُم فَاحذَرُوهُ} [(35)البقرة].

ويقول: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, رَقِيبًا} [(52) الاحزاب]. ويقول: {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [(31) فاطر].

يقول العلماء - رحمهم الله -: ما وعظ الله عباده موعظة هي أوقع في النفوس وأزجر للقلوب من أخباره - سبحانه - لهم أنه مطلع عليهم، عليم خبير بهم، حفيظ رقيب عليهم، سميع بصير، فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بها حصلت له المراقبة وبلغ بها رتبة الإحسان الذي هو أعلى مراتب الدين، فمن راقب الله في خواطره عصمه في حركات جوارحه.

ذكر ابن القيم - رحمه الله - في مدارج السالكين ج3ص 17 الأسباب العشرة التي تزيد في إيمان العبد ومحبته لربه، وتبلغ بصاحبها مرتبة الإحسان، ومنها مطالعة القلب ومشاهدته لمقتضيات أسماء الله وصفاته التي من عرفها حقيقة على الوجه اللائق بالله - سبحانه - عرف الله على الحقيقة وعبده حق عبادته قال - تعالى -: {إِنَّمَا يَخشَى اللَّهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ ٌ} [(28) فاطر]. وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعيُنَهُم تَفِيضُ مِن الدَّمعِ مِمَّا عَرَفُوا مِن الحَقِّ} [(83) المائدة].

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply