منزلة المحبة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ما هي حقيقة المحبة؟

المحبَّةُ المتبادلة هي الصِّلةُ بينهم وبين ربِّهم، وهي المنزلةُ التي فيها يتنافسُ المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عَلَمها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبٌّون، ويروح نسيمها تروَّح العابدون، فهي قوتُ القلوب وغذاءُ الأرواح وقرَّةُ العيون، وهي الحياةُ التي مَن حُرِمَها فهو من جملة الأموات، والنٌّورُ الذي مَن فقده فهو في بحار الظلمات.والشِّفاءُ الذي مَن عَدمه حلَّت بقلبه جميعُ الأسقام، والَّلذةُ التي مَن لم يظفر بها فَعَيشُهُ كلٌّهُ همومٌ وآلام، وهي روحُ الإيمانِ والأعمال، والمقاماتِ والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تَحمِلُ أثقالَ السائرين إلى بلادٍ, لم يكونوا إلا بِشِقِّ الأنفُسِ بالغيها، وتوصِّلُهم إلى منازلَ لم يكونوا بدونها أبداً واصليها، وهي تُبوئِهم من مقاعدِ الصِّدقِ مقاماتٍ, لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظُهورِها دائماً إلى الحبيب، وطريقُهم الأقومُ الذي يُبلِّغُهم منازلَهم الأولى من قريب.

فاتباع الرسول الأمين هو عنوان محبة الله رب العالمين، فمن لم يكن للرسول متبعاً لم يكن لله محبًّا. فنسأل الله - تعالى -أن يرزقنا الاتباع، وأن يجعلنا من الأحباب.

 

أحباب الله:

يقول الله تعالى(يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَومٍ, يُحِبٌّهُم وَيُحِبٌّونَهُ أَذِلَّةٍ, عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ, عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَومَةَ لائِمٍ, ذَلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائـدة: 54].

يُخبرُ اللهُ - تعالى -أنَّه الغنيٌّ عن العالمين، وأنَّ من يرتدَّ عن دينه فلن يضرَّ اللهَ شيئا وإنَّما يضر نفسه، وأنَّ للهِ عباداً مُخلصين ورجالاً صادقين، قد تكفَّل الرَّحمنُ الرَّحيمُ بهدايتهم، ووعد بالإتيان بهم، وأنَّهم أكملُ الخَلقِِ أوصافاً وأقواهم نفوساً، وأحسنُهم أخلاقاً، أجلٌّ صفاتهم أنَّ اللهَ( يُحِبٌّهُم وَيُحِبٌّونَهُ)

فالمحبَّةُ المتبادلة هي الصِّلةُ بينهم وبين ربِّهم، وهي المنزلةُ التي فيها يتنافسُ المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عَلَمها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبٌّون، ويروح نسيمها تروَّح العابدون، فهي قوتُ القلوب وغذاءُ الأرواح وقرَّةُ العيون، وهي الحياةُ التي مَن حُرِمَها فهو من جملة الأموات، والنٌّورُ الذي مَن فقده فهو في بحار الظلمات. والشِّفاءُ الذي مَن عَدمه حلَّت بقلبه جميعُ الأسقام، والَّلذةُ التي مَن لم يظفر بها فَعَيشُهُ كلٌّهُ همومٌ وآلام، وهي روحُ الإيمانِ والأعمال، والمقاماتِ والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تَحمِلُ أثقالَ السائرين إلى بلادٍ, لم يكونوا إلا بِشِقِّ الأنفُسِ بالغيها، وتوصِّلُهم إلى منازلَ لم يكونوا بدونها أبداً واصليها، وهي تُبوئِهم من مقاعدِ الصِّدقِ مقاماتٍ, لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظُهورِها دائماً إلى الحبيب، وطريقُهم الأقومُ الذي يُبلِّغُهم منازلَهم الأولى من قريب.

وحُبٌّ اللهِ لعبدٍ, من عبيده أمرُ لا يقدر إدراكَ قيمته إلاَّ مَن يعرف اللهَ- سبحانه - بصفاته كما وصف بها نفسه، وإلاَّ مَن وجد إيقاعَ هذه الصفات في حِسِّهِ ونَفسِه وشُعورِه وكَينُونَتِهِ كُلِّها.. أجل لا يقدر حقيقةَ هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقةَ المُعطي.. الذي يعرف مَن هو الله.. مَن هو صانعُ هذا الكونِ الهائل، وصانعُ الإنسانِ الذي يُلَخِّصُ الكونَ وهو جُرمٌ صغير! مَن هو في عظمته. ومَن هو في قدرته. ومن هو في تفرٌّدِه. ومن هو في ملكوته.. من هو ومن هذا العبدُ الذي يتفضَّلُ اللهُ عليه منه بالحب.. والعبدُ من صنع يديه- سبحانه - وهو الجليلُ العظيم، الحيٌّ الدائم، الأزليٌّ الأبديٌّ، الأوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ الباطن.

وحُبٌّ العبدِ لربِّهِ نعمةٌ لهذا العبد لا يُدركها كذلك إلا مَن ذاقها. إذا كان حُبٌّ اللهِ لعبدٍ, من عبيده أمراً هائلاً عظيماً. وفضلاً غامراً جزيلاً، فإنَّ إنعامَ اللهِ على العبد بهدايته لحُبِّهِ وتعريفه هذا المذاقَ الجميل الفريد، الذي لا نظير له في مذاقات الحُبِّ كلها ولا شبيه.. هو إنعامٌ هائلٌ عظيم. وفضلٌ غامرٌ جزيل. ولذلك خُتِمَت الآيةُ بمسك الختام وهو قوله - تعالى -: (ذَلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54].

ومحبَّةُ اللهِ لعباده صفةٌ من صفاته التي يجب إثباتُها والإيمانُ بها دون تمثيلٍ, ولا تعطيل، ولا تحريفٍ, ولا تكييف، وقوفاً عند قوله - تعالى -: (لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى: 11].

والقرآنُ والسٌّنَّةُ مملوآن بذِكرِ مَن يُحِبٌّهُ اللهُ - سبحانه - مِن عباده المؤمنين، وذِكرِ ما يُحبه مِن أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم، ففي القرآن الكريم : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبٌّ المُتَطَهِّرِينَ) [البقرة : 222]، (إِنَّ اللَّهَ يُحِـبٌّ المُحسـِنِينَ) [البقرة: 195] (وَاللَّهُ يُحِبٌّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146](إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَرصُوصٌ)[الصف : 4].

وفي السٌّنَّةِ: عن عَبدِ اللَّهِ قَالَ: \" سَأَلتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَيٌّ العَمَلِ أَحَبٌّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ الصَّلاةُ عَلَى وَقتِهَا \" وعَن أَبِي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - قَال : قَالَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - : \"كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، سُبحَانَ اللَّهِ وَبِحَمدِهِ سُبحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ\"،

وعن ابن عبَّاسٍ, أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأشجِّ عبد القيس: \" إِنَّ فِيكَ لَخَصلَتَينِ يُحِبٌّهُمَا اللَّهُ الحِلمُ وَالأَنَاةُ \"

فنقولُ: إنَّ اللهَ يُحِبٌّ فلاناً ويُبغِضُ فلاناً، ويحب كذا من الأقوال والأعمال ويكره منها كذا وكذا.

وليس للحُبِّ من تعريفٍ, سوى الحُبِّ، فإنَّ الشيء إذا اشتدَّ وضوحُهُ لا يُفسَّرُ بغير نفسه، كما قيل: وفسَّر الماءَ بعد الجَهدِ بالماء. ولا يصحٌّ أن يُقالَ إنَّ حُبَّ اللهِ للعبد إرادةُ إثابتِه، أو إرادةُ رحمتِه، أو نحو ذلك، لأنَّ هذا من تحريف الكلم عن مواضعه.

ولا يجوز تشبيهُ حُبِّ اللهِ للعباد بحبِّ العباد، وإنَّما الحُبٌّ صفةٌ للهِ - عز وجل - تليق بجلاله ولا تُشبِهُ صفاتِ المخلوقين، وكذلك القولُ في جميع صفات الله - عز وجل - من الرضى والغضب، والاستواء والنزول، والإتيان والمجيء، وسائر صفات الأفعال. وكذلك القول في صفات الذات كاليد والعين، والسَّاق والقدم، نؤمن بها من غير تكييفٍ, ولا تحريف، ولا تمثيلٍ, ولا تعطيل.

فنثبتُ للهِ - تعالى - ما أثبته لنفسه في مُحكم كتابه، أو فيما صحَّ على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ونقطع الطمعَ عن إدراك الكيفية. وننزِّهُ ربَّنا عن مشابهة صفات الخلق كما قال الإمام مالك في الاستواء: \" الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول(أي: فهو معلوم)، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة \"، وكما قال الإمامُ ابن شهابٍ, الزٌّهريٌّ: من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم\".

هذا وإن لمحبة الله لعبده آثاراً :

منها: أن يُيَسِّرَ له الأسباب، ويُهَوِّنَ عليه كلَّ عسير، ويُوفِّقَهُ لفعل الخيرات وترك المنكرات، وهذا معنى قولِهِ - تعالى -في الحديث القدسي: \" وَمَا يَزَالُ عَبدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ\"

ومنها: أن يُلقِيَ اللهُ محبَّةَ حبيبهِ في قلوب عباده، كما قال لموسى (وَأَلقَيتُ عَلَيكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصنَعَ عَلَى عَينِي)[طـه: 39] وقال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجعَلُ لَهُمُ الرَّحمَنُ وُدًّا) [مريم : 96] أي محبَّةً في قلوب العباد، وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : \"إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبدًا دَعَا جِبرِيلَ فَقَالَ إِنِّي أُحِبٌّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ. قَالَ فَيُحِبٌّهُ جِبرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ فُلانًا فَأَحِبٌّوهُ، فَيُحِبٌّهُ أَهلُ السَّمَاءِ. قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرضِ\"

ومنها: أن يقبل اللهُ منه اليسيرَ من العمل، ويغفرَ له الكثيرَ من الزَّلل، على حَدِّ قول القائل :

 وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ, واحدٍ, *** ظهرت حسناتُهُ بألفِ شفيعِ

وعلاماتُ القبولِ التوفيقُ لفعل الخير دائماً، كما قيل: مِن علاماتِ قبولِ الحسنةِ الحسنةُ بعدها.

ومن ثمراتها: مغفرةُ الذنوب، كما قال - تعالى -: (قُل إِن كُنتُم تُحِبٌّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللَّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران : 31].

ومن ثمراتها مُعافاةُ الحبيب من التعذيب، كما قال النبيٌّ - صلى الله عليه وسلم – \"واللهِ لا يُلقي اللهُ حبيبَهُ في النار\" وردَّ اللهُ - تعالى -على اليهود والنصارى ادِّعاءهم أنهم أحبابه فقال - تعالى -: (وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحنُ أَبنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُل فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم) [المائدة : 18].

أما محبَّةُ العبدِ للهِ - تعالى -فهي فرضُ عَينٍ, على جميع المخلوقين، لأنَّها بعَينِها حقيقةُ التوحيد، قال - تعالى -: (قُل إِن كَانَ ءَابَاؤُكُم وَأَبنَاؤُكُم وَإِخوَانُكُم وَأَزوَاجُكُم وَعَشِيرَتُكُم وَأَموَالٌ اقتَرَفتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ, فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتِيَ اللَّهُ بِأَمرِهِ وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ) [التوبة : 24] فهذه الآيةُ أعظمُ دليلٍ, على وُجوب محبَّةِ اللهِ ورسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، و تقديمها على محبَّةِ كلِّ شيء فأصلُ المحبَّةِ للهِ - عز وجل -، وما سوى اللهِ يجب أن يُحَبَّ للهِ إذا كان مما يُحِبٌّهُ الله، ولذلك كان \"أوثقُ عُرى الإيمانِ الحُبٌّ في اللهِ والبُغضُ في الله\" و \" مَن أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبغَضَ لِلَّهِ وَأَعطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ استَكمَلَ الإِيمَانَ \" قال - تعالى -: (لا تَجِدُ قَومًا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَادٌّونَ مَن حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا ءَابَاءَهُم أَو أَبنَاءَهُم أَو إِخوَانَهُم أَو عَشِيرَتَهُم أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ, مِنهُ وَيُدخِلُهُم جَنَّاتٍ, تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا - رضي الله عنهم - وَرَضُوا عَنهُ أُولَئِكَ حِزبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزبَ اللَّهِ هُمُ المُفلِحُونَ) [المجادلة: 22]

فلا يجوز للمؤمن الذي يُحِبٌّ اللهَ ورسولَهُ أن يُحبَّ ما لا يُحِبٌّهُ اللهُ أيّاً كان. ولذلك ذمَّ اللهُ أقواماً على حُبِّهم غيرَه كحُبِّهِ وتوعَّدهم بالعذاب فقال - تعالى -: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبٌّونَهُم كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدٌّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَو يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذ يَرَونَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العَذَابِ) [البقرة: 165] وأخبر - سبحانه - أنهم سيندمون على هذه التَّسوِيَةِ فقال - تعالى -: (فَكُبكِبُوا فِيهَا هُم وَالغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبلِيسَ أَجمَعُونَ * قَالُوا وَهُم فِيهَا يَختَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ, مُبِينٍ, * إِذ نُسـَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ([الشعراء94 : 98] وهم لم يسوٌّوهم بربِّ العالمين في الخلق والرٌّبوبيَّة وإنما سوٌّوهم به في المحبَّةِ والتعظيم، وهذا هو العدل الذي قال الله فيه: (الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرضَ وَجَعَلَ الظٌّلُمَاتِ وَالنٌّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم يَعدِلُونَ) [الأنعام : 1] أي يعدلون به غيرَه في العبادة التي هي المحبَّةُ والتعظيم.

ولمحبَّةِ العبدِ للهِ أسبابٌ تجلبُها وتوجبُها، فمنها:

أحدها: قراءةُ القرآن بالتدبٌّرِ والتفهٌّمِ لمعانيه وما أُريد به.

الثاني: التقرٌّبُ إلى اللهِ بالنوافل بعد الفرائض. فإنَّها توصِّلُهُ إلى درجة المحبوبية بعد المحبة.

الثالث: دوامُ ذِكرِهِ على كل حال: باللسان والقلب، والعمل والحال. فنصبيُهُ من المحبَّةِ على قدر نصبيه من الذكر.

الرابع : إيثارُ محابِّهِ على محابِّكَ عند غَلَبَاتِ الهوى، والتسنٌّمِ إلى محابِّهِ، وإن صعُبَ المرتقى.

الخامس: مُطالعةُ القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتُها ومعرفتها، وتقلبٌّهُ في رياض هذه المعرفة وميادينها. فمن عرف اللهَ بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبَّهُ لا محالة.

السادس: مُشاهدةُ بِرِّهِ وإحسانِهِ وآلائه، ونِعَمِهِ الباطنةِ والظاهرة. فإنها داعيةٌ إلى محبَّتِه.

السابع: وهو من أعجبها- انكسارُ القلب بكليَّتِهِ بين يدي اللهِ - تعالى -. وليس في التعبير عن هذا المعنى غيرُ الأسماء والعبارات.

الثامن: الخلوةُ به وقتَ النٌّزُولِ الإلهيِّ، لمناجاتهِ وتلاوةِ كلامه، والوقوفِ بالقلب والتأدٌّبِ بأدب العبوديَّةِ بين يديه. ثم خَتم ذلك بالاستغفار والتوبة.

التاسع: مُجالسةُ المحبِّينَ الصادقين، والتقاطُ أطايبِ ثمرات كلامِهم كما تُنتقَى أطايبُ الثمر. ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحةُ الكلام، وعلمتَ أن فيه مزيداً لحالك، ومنفعةً لغيرك.

العاشر: مُباعدةُ كلِّ سببٍ, يحول بين القلبِ وبين اللهِ - عز وجل -.

فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبٌّونَ إلى منازل المحبَّةِ، ودخلوا على الحبيب. وملاكُ ذلك كلِّهِ أمران : استعدادُ الرٌّوحِ لهذا الشأن، وانفتاحُ عَينِ البصيرة.

ولما كان ادِّعاءُ المحبَّةِ سهلاً امتحن اللهُ المُدَّعينَ وابتلاهم، وأمرهم بإقامة البيِّنَةِ وإثبات المحبَّةِ بالدليل والبرهان، فذكر في الآية التي معنا لمن يُحبٌّهم ويُحبٌّونه علامات:

الأولى والثانية: ( أَذِلَّةٍ, عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ, عَلَى الكَافِرِينَ) [المائدة : 54]. فيجبُ أن يكون مُحِبٌّ اللهِ متواضعاً للمؤمنين، ليِّنَ الجانبِ معهم، حَسَنَ المعاملةِ لهم، وأن يكون شديداً على الكافرين المحاربين مترفِّعاً عليهم لا يجدون منه إلا العزَّةَ والغِلظَةَ كما قال - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغلُظ عَلَيهِم وَمَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِيرُ)[التوبة : 73]، وقال تعالى(يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِنَ الكُفَّارِ وَليَجِدُوا فِيكُم غِلظَةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ) [التوبة : 123] ومدح رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين فقال - تعالى -: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم) [الفتح : 29]

عن النٌّعمَانَ بنَ بَشِيرٍ, قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : \"تَرَى المُؤمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِم وَتَوَادِّهِم وَتَعَاطُفِهِم كَمَثَلِ الجَسَدِ إِذَا اشتَكَى عُضوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى\"

والعلامة الثالثة والرابعة: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَومَةَ لائِمٍ,) [المائدة : 54] كما قال - تعالى -: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخشَونَهُ وَلا يَخشَونَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ([الأحزاب: 39] وبذلك وصَّى رسول اللهُ - صلى الله عليه وسلم - أبا ذر.

ومن العلامات: ما ذكره الله - تعالى -في قوله: (قُل إِن كُنتُم تُحِبٌّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللَّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [آل عمران : 31].

فاتباع الرسول الأمين هو عنوان محبة الله رب العالمين، فمن لم يكن للرسول متبعاً لم يكن لله محبًّا. فنسأل الله - تعالى -أن يرزقنا الاتباع، وأن يجعلنا من الأحباب.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply