الأرباح والخسائر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

جل ما في هذه المقالة خارج عن رمضان، وبعيد عن فريضة الصيام، لكثرة ما يكتب عن فضائل رمضان وحِكَم الصيام، ولأنني رأيت أن هذا التركيز على الموضوعات ذات الصلة بهذا الموسم كأنما تختزل الزمان فيه، وتحصر العمل والبذل والأجر والفضل فيه، فأردت أن أبتعد عن رمضان إلى المدى الأوسع من الزمان، وأن أنأى عن الحديث عن الصيام إلى الآفاق الأرحب في معاني العبادة الواسعة، وأحسب أنك - أيها القارئ - ستوافقني على هذه الفكرة التي أعرضها.

 

نحن في رمضان نجتهد في الطاعات، ونحرص على اغتنام الأوقات، ونستحضر في أعمالنا ما ورد في شأنها من الأجور والحسنات، ومن ثم نشعر بأننا نجني الكثير من الأرباح، ونعظم رصيد الحسنات، فهناك أداء الفرائض من الصلوات، والسنن الرواتب من التطوعات، إضافة إلى قيام الليل وصلاة الوتر، فضلاً عن تلاوة القرآن والإكثار من الذكر، مع البذل والإنفاق، وحسن الصلة والارتفاق وغير ذلك من الأعمال، وذلك يشيع في نفوسنا فرحة غامرة وسعادة ظاهرة.

 

إن السؤال المطروح هنا هو:

هل هذه الأعمال وأجورها العظام مقصورة على رمضان؟، وهل المسلم عموماً والدعاة والصالحون خصوصاً معنيون بتلك الأعمال في هذا الموسم فحسب؟، ويدور في خاطري بقوة أين بقية العام؟، وأين أحد عشر شهراً من الزمان؟

 

ومن هنا لفتت نظري واسترعت انتباهي وشغلت فكري كلمات ليحيى بن معاذ يقول فيها: \" الدنيا حانوت المؤمنين، والليل والنهار رؤوس أموالهم، وصالح الأعمال بضائعهم، وجنة الخلد أرباحهم، ونار الأبد خسرانهم\" (1)، هذه الكلمات تلخص قصة الحياة كلها، وهي كلمات في غاية الوضوح والبساطة، رغم أن معانيها عميقة، ودلالاتها دقيقة، إنها كلمات تهزنا بقوة، وتوقظنا من الغفلة، لننظر إلى الآفاق الأوسع والأرحب، إلى الزمان كله لا شهر واحد منه، إلى الأعمال الصالحة كلها لا إلى الصوم وحده، حتى نعرف حقيقة الصفقة ورأس المال والبضاعة والأرباح والخسائر.

 

والآن أنتقل بك - أيها القارئ - إلى غيض من فيض من نصوص الأعمال الصالحة التي ليس لها خصوصية في رمضان سوى فضيلة الزمان ومزيد من مضاعفة الأجر، وهي عند المؤمنين الصادقين من برنامج حياتهم اليومي الذي يتوافر فيه الحرص والجد والاستمرار كما هو الشأن في رمضان، وإليك هذه الأمثلة:

- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة الرجل في جماعة تُضعّف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين درجة، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحُط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه: اللهم صل عليه اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة) متفق عليه، أليس هذا في سائر الأيام من العام؟.

 

- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي؟، فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون) متفق عليه، فهل هذه الشهادة مقتصرة على أيام وليالي رمضان؟ فأين الجموع الغفيرة من شهود صلاة الفجر في سائر أيام العام؟.

 

- عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة) رواه الترمذي، فهل هذه الغنيمة العظيمة مقصورة على هذه الأيام الفاضلة؟.

 

ومثل ذلك يقال في ما وردت به النصوص من فضائل الذكر وتلاوة القرآن وإنفاق المال وصلة الرحم وإطعام الطعام وكل عمل من الأعمال التي نحرص عليها في رمضان، فبقدر ما نفكر في عظمة الأرباح في رمضان - وهو شهر من العام بقدر ما يجب أن نفكر في فداحة الخسارة وضياع الغنائم التي نفرط فيها على مدى بقية أيام العام، وهنا يخطر ببالي أسئلة شديدة لإيقاظنا من الغفلة، هل هناك مدرسة أو جامعة تكتفي بالتعليم شهراً كل عام؟ وهل هناك أسواق وشركات لا تعمل إلا شهراً في العام؟ وهل هناك مستشفيات لا تستقبل المرضى إلا شهراً في العام؟ وما هي حال أي مجتمع يمكن أن نتصور فيه مثل ذلك؟ إن العمل مستمر لا ينقطع وهناك حدود دنيا أساسية لا تتوقف، والمواسم ليست في الجملة - لاستحداث أعمال لا وجود لها، بل جلها زيادة ومضاعفة في الأعمال المعروفة ومزيد من اغتنام الأوقات للحصول على أرباح أكثر، وهنا حديثي عن الفرائض وعن أساسيات من التطوعات خاصة بالنسبة للدعاة، أين هي في غير رمضان؟ وكم هو الخسران في تركها وهجرانها؟ وهل خسائر أحد عشر شهراً يكفي دائماً أن تعوضها أرباح شهر واحد؟ أليست المساجد تشكو في غير رمضان قلة المصلين؟ أليست المصاحف تشكو قلة التالين؟ أليست الأرحام تشكو قلة الواصلين؟ أليس ذوو الحاجات يشكون قلة المنفقين؟ كم هي الخسائر فادحة وعظيمة؟ ألسنا نلحظ هذه الصورة تتكرر في كل الأعوام؟ وتقع من جماهير غفيرة من أهل الإسلام؟ وهنا يثور سؤال حزين يمكن التحفظ عليه وهو:

 

ما فائدة رمضان وما جدواه إن لم يبق أثره ولم يدم نفعه، بل إن جاء بعده عكسه، وخلفه وراءه ما ينقضه؟!.

 

دعوني من حالنا المزرية هذه واسمحوا لي أن أنقلكم إلى أجواء كلمة يحيى بن معاذ، فهذا أبو محمد الجريري يقول: قصدت الجنيد فوجدته يصلي فأطال جداً فلما فرغ قلت: قد كبرت ووهن عظمك ورق جلدك وضعفت قوتك ولو اقتصرت على بعض صلاتك، فقال: اسكت، طريق عرفنا به ربنا، لا ينبغي لنا أن نقتصر منه على بعضه، والنفس ما حملتها تتحمل، والصلاة صلة والسجود قربة ولهذا قال - تعالى -: \"وَاسجُد وَاقتَرِب\"، ومن ترك طريق القرب يوشك أن يُسلَك به طريق البعد، ثم أنشد:

 

صبرت عن اللذات حتى تولت *** وألزمت نفسي هجرها فاستمرتِ

وكانت على الأيام نفسي عزيزة *** فلما رأت صبري على الذل ذلتِ

وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ***فإن تُوِّقَت تاقت وإلا تسلتِ (1)

 

فهل لكم معاشر الدعاة من هذا الموقف وتلك الكلمات من تذكرة لنعمر الحياة كلها بالطاعة ونغمرها بحسن الصلة بالله؟.

 

إن السر في تلك الصلة المستمرة هو حسن الفقه والفهم من جهة، ولذة الطاعة وحلاوتها من جهة أخرى، وإليك في كل جهة إيضاح:

ففي الفهم نقف مع قوله - تعالى -: {مَن عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ, أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ}، حيث قال بعض المفسرين: الحياة الطيبة هو ما يفتح عليه من لذة العبادة وطيب المناجاة وبرد الرضا بقضاء الله... وهذا باب من فتح له فيه يجب عليه أن يلزمه وأن يتعلق بالأسباب المثبتة له ويستعين بالله - عز وجل - ويسأله التأييد فيه، ويصبر ويصابر فعسى ولعل وما ذاك على الله بعزيز وإنه عليه ليسير (3).

 

وفي اللذة إليك ما أجاب به (حممة العابد) عندما سأل ما أفضل عملك؟ فقال: \" ما أتتني صلاة قط إلا وأنا مستعد لها ومشتاق إليها، وما انصرفت من صلاة قط إلا كنت إذا انصرفت منها أشوق إليها مني حيث كنت فيها، ولولا أن الفرائض تقطع لأحببت أن أكون ليلي ونهاري قائماً راكعاً ساجداً \" (4).

 

فهل ندرك - بعد كل ما ذكرت دلالة العبارة التي نكررها: أن رب رمضان هو رب سائر أيام العام، فهل تدركون أيها الدعاة بل أيها المسلمون كم هي الخسائر العظيمة على مدى هذه الأيام التي تنقطع فيها الأعمال؟.

 

وأخيراً هل ندرك أن دوام الأعمال وعظمة الأرباح مقرون بروح العبادة وخشوعها ولذتها وحلاوتها؟، فمن لم يجد ذلك ويجتهد في تحصيله فإنه يفقد سبباً من أعظم أسباب الاستمرار والدوام، واستحضروا معي دائماً كلمة يحي بن معاذ.

 

---------

الهوامش:

(1) الصلاة والتهجد لابن الخراط (ص 301).

(2) الصلاة والتهجد لابن الخراط (ص 309).

(3) الصلاة والتهجد لابن الخراط (ص 308-309).

(4) الصلاة والتهجد لابن الخراط (ص 316).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply