قوافل العائدين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.. حياكم الله و بياكم.. و سدد على طريق الحق خطاي و خطاكم.. أسال الله العظيم رب العرش الكريم.. أن يجمعني و إياكم في دار كرامته.. إخواننا على سرر متقابلين.. أساله - سبحانه - أن يغفر ذنب المذنبين.. و يقبل توبة التائبين.. و أن يدل الحيارى و يهدي الضالين.. و يغفر للأحياء و الميتين.. أمر الله - عز وجل - بالتوبة فقال: {و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} و وعد - -  جل في علاه - - بالقبول فقال: {و هو الذي يقبل التوبة عن عباده} ثم فتح الرحمان باب الرجاء فقال: {لا تقنطوا من رحمة الله} أخرج مسلم من حديث أبن عمر - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يأيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة) و أوحى الله إلى داود - عليه السلام -: يا داود لو يعلم المدبرين عني كيف انتظاري لهم.. و رفقي بهم.. و شوقي إلى ترك معاصيهم.. لماتوا شوقا إلي.. و لتقطعت أوصالهم من محبتي.. يا داود هذه إرادتي في المدبرين عني.. فكيف إرادتي في المقبلين علي؟!..

 

يا من يرى ما في الضمير و يسمعوا *** أنت المعد لكل ما يتوقعٌ

يا من يرجى للشدائد كلها *** يا من إليه المشتكي و المفزعٌ

يا من خزائن رزقه في قول كن فيكون *** و الخير كله عندك أجمعٌ

مالي سواء فقري إليك وسيلة *** فالافتقار إليك فقري إليك أرفعٌ

مالي سواء قرعي لبابك حيلة *** فلإن رددت أي باب أقرعٌ

و من ذا الذي أدعوه و أهتف باسمه *** إن كان فضلك عن فقيرك يمنعٌ

 

حاشاك أن تقنط من فضلكِ عاصياً.. الفضل أجزل.. و المواهب أوسع.. عنوان اللقاء.. قوافل العائدين.. نعم قوافل العائدين.. و سيتكون اللقاء من مقدمة و بداية و ختام و بينهما أخبار خمسة:

 

الخبر الأول: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.

الخبر الثاني: سبحان مغير الأحوال.

الخبر الثالث: أترضى أن تكون مثل هذا.

الخبر الرابع: طريق المخدرات.

الخبر الخامس: هدايتي على يديكِ.. ثم الختام.. فإلى أول الكلام..

 

أول الكلام روى البخاري - رضي الله عنه - من حديث أبو هريرة - رضي الله عنه - قال.. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. إن لله ملائكة يطوفون في الطريق، يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا، هلموا إلى حاجتكم.. قال: فيحفونهم بإجنحتهم إلى السماء الدنيا قال فيسألهم ربهم -  جل في علاه - و هو أعلم بهم، قال: ما يقولون عبادي قال: يقولون يسبحونكِ، و يكبرونكِ، و يمجدونكِ، و يحمدونكِ، فيقول -  جل في علاه -: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا و الله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني؟!.. قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، و أشد لك تمجيدا، و تحميدا، و أكثر تسبيحاً، اللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، و لا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، و اجعلنا هداة مهتدين، قال: فيقول -  جل في علاه -: و ما يسألوني؟ قال: فيقولون: يسألونك الجنة، قال: فيقول: هل رأوها؟ قال: يقولون: لا و الله يا ربي ما رأوها قال: فيقول: و كيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، و أشد طلبا، و أعظم فيها رغبة، فأين المشمرون؟.. أين المشمرون؟.. قال: فيقول: فمما يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار قال: فيقول: هل رأوها؟ قال: يقولون: لا و الله يا ربي ما رأوها قال: فيقول: كيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا، و أشد لها مخافة، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، قال: فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم.. فابشروا يا أهل هذه المجالس قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة فيقول -  جل في علاه -: وله قد غفرت.. هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم.. نعم ابشروا يا أهل هذه المجالس.. فربكم ذو رحمة واسعة.. أسمع منادي الله ينادي.. إلا قد طال شوق الأبرار إلى لقائي.. و إني أشد شوقا لهم.. ألا من طلبني وجدني.. و من طلب غيري لم يجدني.. من ذا الذي أقبل علي و ما قبلته.. من ذا الذي طرق بابي و ما فتحته.. من ذا الذي توكل علي و ما كفيته.. من ذا الذي دعاني و ما أجبته.. من ذا الذي سألني و ما أعطيته.. أهل ذكري أهل مجالستي.. أهل شكري.. أهل زيادتي.. أهل طاعتي.. أهل كرامتي.. و أهل معصيتي لا أقنطهم أبدا من رحمتي.. و أهل معصيتي لا أقنطهم أبدا من رحمتي.. إن تابوا فأنا حبيبهم.. و إن لم يتوبوا فأنا طبيبهم.. أبتليهم بالمصائب.. لأطهرهم من المعايب.. من أقبل علي تقبلته من بعيد.. و من أعرض عني ناديته من قريب.. و من ترك لأجلي أعطيته المزيد.. و من أراد رضاي أردت ما أريد.. و من تصرف بحولي و قوتي ألنت له الحديد.. من صفاء معي صافيته.. من أوى إلي آويته.. من فوض أمره إلي كفيته.. و من باع نفسه مني اشتريته.. و جعلت الثمن جنتي و رضاي.. وعد صادق و عهد سابق.. و من أوفى بعهده من الله.. يا فرحة التائبين بمحبة الله.. فيا فرحة التائبين بمحبة الله.. {إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين} ألهج بحمده و أهتف بشكره.. و قل اللهم أنت ربي.. لا إله إلا أنت.. خلقتني و أنا عبدك.. و أنا على عهدكِ و وعدكِ ما استطعت.. أعوذ بكِ من شر ما صنعت.. و أبوا إليكِ بنعمتكِ علي.. و أبوا بذنبي فأغفر لي.. فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.. قل: أنا الميت الذي أحييته فلكِ الحمد.. و أنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد.. أنا الصغير الذي ربيته فلكِ الحمد.. أنا الفقير الذي أغنيته فلكِ الحمد.. أنا الضال الذي هديته فلك الحمد.. أنا الجاهل الذي علمته فلك الحمد.. أنا الجائع الذي أطعمته فلك الحمد.. لك الحمد كله.. و لك الشكر كله.. و بيدكِ الخير كله.. و إليكِ يرجع الأمر كله.. لا إله إلا أنت..

 

يا ربي حمدا ليس غيرك يحمدٌ *** يا من له كل الخلائق تصمد ٌ

أبواب غيرك ربنا قد أوصدت *** و رأيت بابك واسع لا يوصدٌ

 

روي عن منصور أبن عمار قال: قال: خرجت ليلة و ظننت أني أصبحت، و إذا علي ليل، فقعدت عند بابٍ, صغير، فإذا بصوت شابٍ, يبكي و يقول: و عزتك و جلالتك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، و قد عصيتك حين عصيتك، و ما أنا بنزالك جاهلا، و لا لعقوبتك متعرضا، و لا بنظرك مستخفا، و لكن سولت لي نفسي، و غلبتني شقوتي، و غرني سترك المرخي علي، فالآن من عذابك من يستنقذني، و بحبل من أعتصم إن قطعت حبالك عني.. واسوئتاه من أيام في معصية ربي.. و يا ويلي كم أتوب و كم أعود.. و قد حان لي أن أستحي من ربي.. قال منصور: فلما سمعت كلامه قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {يأيها الذين أمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس و الحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون} قال: فسمعت صوتا، و اضطرابا شديدا، و مضيت لحاجتي، فلما أصبحنا رجعت، و إذا أنا بجنازة على الباب، و عجوزا تذهب و تجيء، فقلت لها: من الميت؟ فقالت: لا تجدد علي أحزاني، قلت: إني رجل غريب، فقالت: هذا ولدي مر بنا البارح رجلا لا جزاه الله خيرا قرأ آية فيها ذكر النار فلم يزل ولدي يضطرب و يبكي حتى مات، قلت: إن لله و إنا إليه راجعون، قلت: هكذا و الله صفة الخائفين يا أبن عمار، سبحان من وفق للتوبة أقواما، و ثبت على صراطها أقوما.. يا من ليس لي منه مجيرا.. بعفوك من عذابكِ أستجيرٌ.. إن تعذبني فبعدلك.. و إن ترحمني فأنت به جديرٌ.. إن علاج مشاكل الشباب و الشيب.. و أصحاب الهموم و الغموم.. هو الفرار إلى الله بالانضمام إلى قوافل العائدين.. نعم الانضمام إلى قوافل العائدين.. العائدين إلى الله بعد طول غياب.. الذين أحرقتهم الذنوب و المعاصي.. الذين جربوا الحياة في الظلام ثم اكتشفوا النور.. الذين بدلوا ذل المعصية بعز الطاعة.. الذين انتصروا على النفس و الهوى و الشيطان.. الذين آثروا الجنة على النار.. الذين ندموا على ما فرطوا في جنب الله.. قال - صلى الله عليه وسلم -: (الندم توبة، قال بعضهم: إن العبد ليذنب الذنب فمل يزال نادما حتى يدخل الجنة فيقول إبليس: ليتني لم أوقعه في الذنب، و قال طلق ابن حبيب: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، و لكن أصبحوا تائبين و أمسوا تائبين، ليس عيب أن تخطئ، و لكن كل العيب أن تصر على الخطأ، عيب أن تتماد في الخطأ، عيب أن تنسى فضل الله عليك، عيب أن تنسى رقابة الله لك، جاء رجل إلى إبراهيم أبن أدهم قال: يا إبراهيم لقد أسرفت على نفسي بالذنوب و المعاصي، فقل لي في نفسي قولا بليغاً، قال: أعظك بخمس قال: هات الأولى، قال: الأولى: لا تأكل من رزق الله و أعصي الله، قال: كيف يا إبراهيم و هو الذي يطعم و لا يُطعم؟!.. قال: عجبا لك تأكل من رزقه و تعصيه!.. قال: هات الثانية: قال: الثانية: لا تسكن في أرض الله و أعص الله، قال: كيف يا إبراهيم الأرض أرضه و السماء سمائه؟!.. قال: عجبا لك تأكل من رزقه و تسكن في أرضه و تعصيه!.. قال: هات الثالثة، قال: الثالثة: اذهب في مكان لا يراك فيه الله و أعص الله، قال: أين يا إبراهيم و هو الذي لا تأخذه سنة و لا نوم؟!.. قال: عجبا لك تأكل من رزقه و تسكن في أرضه وفي كل مكان يراك ثم تعصيه!.. قال: هات الرابعة، قال: الرابعة: إذا أتاك ملك الموت ليقبض الروح فقل له: إني لا أموت الآن قال: من يستطيع يا إبراهيم؟!.. و الله يقول {فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون} قال: عجبا لك تأكل من رزقه و تسكن في أرضه وفي كل مكان يراك و لا تستطيع رد الموت إذا أتاك و تعصيه، قال: هات الخامسة، قال: الخامسة: إذا جاءك الزبانية ملائكة العذاب تأخذك إلى النار فخذ نفسك إلى الجنة، قال: من يستطيع هذا يا إبراهيم؟!.. قال: عجبا لك تأكل من رزقه و تسكن في أرضه وفي كل مكان يراك و لا تستطيع رد الموت إذا أتاك و تملك لنفسك جنة و لا نار ثم تعصيه، قال: أسمع يا إبراهيم أنا أستغفر الله و أتوب إليه، فأعلنها توبة و إنابة و فرار إلى الله أعلنها رجعة و انضمام إلى قوافل العائدين، و أنت.. نعم أنت.. إياك أعني.. يا من تأكل من رزقه، و تسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، و لا تستطيع رد الموت إذا أتاك، و تملك لنفسك جنة و لا نار، أما آن أن تتوب، و تستغفر علام الغيوب، أما آن أن تنظم إلى قوافل العائدين..

 

أما آن لما أنت فيه متأب *** و هل لك من بعد الغياب إيابٌ

تقظت بك الأعمار في غير طاعة *** سواء عمل ترجوه و هو سرابٌ

و ليس للمرء سلامة دينه *** و عزلة فيها الجليس كتابٌ

كتاب حوى العلوم بكلها *** و كل ما حوى من العلوم صوابٌ

ففيه الدواء لكل داء فأظفر به *** فوا الله ما عنه ينوب كتابٌ

 

تعال نسمع أخبار أصحاب تلك القوافل.. ماضياً و حاضراً.. تعال نأخذ العبرة من قصصهم.. قصصٌ ممزوجة بالندم و الدموع.. قصصٌ مليئة بالصور و العبر.. يشكو أصحابها قبل الانضمام إلى قوافل العائدين من الهموم و الغموم.. مآسي و آهات.. غرقوا في لجج المعاصي و المنكرات.. فمن خمورا.. و مخدرات.. و فواحش.. و منكرات.. و كانت النجاة بالفرار إلى الله.. و الانضمام إلى قوافل العائدين..

 

الخبر الأول: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب..

عن أبي هشام الصوفي - رحمة الله - قال: أردت البصرة فجاءت إلى سفينة أركبها، و فيها رجل معه جارية فقال لي الرجل: ليس ها هنا موضع، فسألته الجارية أن يحملني ففعل، فلما سرنا دعا الرجل بالغداء فوضع، فقالت الجارية: أدعو ذلك المسكين يتغدى معنا، فجئت على أنني مسكين فلما تغدينا قال: يا جارية هاتي شرابكِ فشرب، و أمرها أن تسقيني فقالت: يرحمك الله إن للضيف حقا، فتركني، فلما دب فيه الشراب، قال: يا جارية هاتي عودكِ، و هاتي ما عندكِ، فأخذت العود و غنت، ثم ألتفت إلي و قال: أتحسن مثل هذا؟ فقلت عندي ما هو أحسن منه، و خير منه، فقال: قله قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {إذا الشمس كورت * و إذا النجوم انكدرت * و إذا الجبال سيرت * و إذا العشار عطلت * و إذا الوحوش حشرت *، إذا البحار سجرت * و إذا النفوس زوجت * و إذا الموءدة سألت * بأي ذنب قتلت} و جعل الرجل يبكي حتى انتهيت إلى قوله {و إذا الصحف نشرت} فقال: يا جارية أذهبي فأنت حرة لوجه الله - تعالى -، ثم ألقى ما معه من الشراب، و كسر العود، ثم دعاني فأعتنقني، و جعل يبكي و يقول: يا أخي أترى أن الله يقبل توبتي، قلت: نعم إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين، قلت: نعم و هو الذي يقبل التوبة عن عباده، و يعفو عن السيئات، فتاب و استقام و تبدل حاله، و صاحبته بعد ذلك أربعين سنة حتى مات، فرأيته في المنام فقلت له: إلى ما صرت فقال: إلى الجنة قلت: بماذا؟ قال: بقراتك علي {إذا الصحف نشرت}.. فلا إله إلا الله: كيف سيكون حالي و حالك إذا الصحف نشرت؟.. و {إذا السماء كشطت * و إذا الجحيم سعرت * و إذا الجنة أزلفت * علمت نفساً ما أحضرت}.. {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}.. فلا إله إلا الله إذا نطقت العينان، و قالت: أنا للحرام نظرت..

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply