حتى يشكرنا الله جل وعلا


 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الخالق المنشئ، المُنعم المتفضل، الغني عن العالمين يشكر لعباده صلاحهم وإيمانهم وشكرهم وامتنانهم وهو غني عن إيمانهم وعن شكرهم وامتنانهم، فإذا كان الله - جل وعلا - يشكر. فما ينبغي للعباد المخلوقين المغمورين بنعمة الله تجاه الخالق الرازق المنعم المتفضل الكريم؟!!

تعريف الشكر لغة:

\" الشُكر: عرفانُ الإحسان ونشرهُ.

 

الشكر: الظهور من قول دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعُطي من العلف وحقيقته الثناء على الإنسان بمعروف.

 

و قال الجوهري: الشكر: الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف.

 

الفرق بين الحمد والشكر: الشكر لا يكون إلا عن يد، والحمد يكون عن يد وعن غير يد \" [لسان العرب، ابن منظور، (4/423-424)].

 

الشكر في عبارات العلماء:

قال سهل بن عبد الله: الشكر الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية.

 

وقال الشبلي: الشكر: التواضع والمحافظة على الحسنات ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات ومراقبة جبار الأرض والسموات.

 

وقال ذو النون المصري: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان والأفضال.

 

والشكر: مقابلة النعمة بالقول والفعل والنية فيثني على المنعم بلسانه ويذيب نفسه في طاعته ويعتقد أنه موليها.

 

الشكر من الله للعبد:

 

قبول طاعته، وثناؤه الجميل عليه، وإثباته إياه.

 

والشاكر والشكور من صفات الله - جل وعلا -، ومعناه: أنه يزكو عنده القليل من أعمال العباد فيضاعف لهم الجزاء وشكره لعباده مغفرته لهم.

 

ومعناه أيضاً: \" الذي لا يضيع سعي العاملين لوجهه بل يضاعفه أضعافاً مضاعفة، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وقد أخبر في كتابه وسنة نبيه بمضاعفة الحسنات الواحدة بعشر إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وذلك من شكره لعباده، فبعينه ما يتحمل المتحملون لأجله ومن فعل لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن ترك شيئاً لأجله عوضه خيراً منه، وهو الذي وفق المؤمنين لمرضاته ثم شكرهم على ذلك وأعطاهم من كراماته، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكل هذا ليس حقاً واجباً عليه، وإنما هو الذي أوجبه على نفسه جوداً منه وكرماً\" [الحق الواضح المبين، ص70 نقلاً عن أسماء الله الحسنى، د. سعيد الزهراني].

 

وفي معنى قوله - تعالى -: {إن ربنا لغفور شكور} قيل: \" غفر لهم الذنوب التي عملوها، وشكر لهم الخير الذي دلهم عليه فعملوا به فأثابهم عملهم \".

 

الفئات التي وردت في كتاب الله وشكر الله لها عملها:

 

أولاً: من تطوع خيراً:

{إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم} [سورة البقرة: 158].

 

و المراد: تطوع خيراً في سائر العبادات.

و قال ابن كثير: في تفسيره {فإن الله شاكر عليم}: \" أي يثيب على القليل بالكثير عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحداً ثوابه \".

 

ثانياً: الشاكر المؤمن:

{ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً} [سورة النساء: 147].

يقول ابن كثير: \" {وكان الله شاكراً عليماً} أي من شكر شكر له ومن آمن قلبه علمه وجازاه على ذلك أوفر الجزاء \".

و قال الإمام القرطبي: \" أي يشكر عباده على طاعته، ومعنى يشكرهم: يثيبهم، فيتقبل العمل القليل ويعطي عليه الثواب الجزيل، وذلك شكر منه على عبادته \".

و قال الإمام القرطبي: \" أنه - سبحانه وتعالى- لا يعذب الشاكر المؤمن \"

و قال مكحول: أربع من كن فيه كن له: الشكر والإيمان والدعاء والاستغفار، قال - تعالى -: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم}.

 

ثالثاً: المُقرض الله قرضاً حسناً:

{إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يًُضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكورُ حليم} [سورة التغابن: 17].

 

قال الحسن: كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع.

 

و قيل هو العمل الصالح من الصدقة وغيرها محتسباً صادقاً.

 

قال ابن العربي: \" انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وقدرته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقساماً فتفرقوا فرقاً ثلاثة: -

 

الفرقة الأولى: قالوا: إن رب محمد محتاج فقير إلينا ونحن أغنياء فهذه جهالة لا تخفي على ذي لب فرد عليهم بقوله: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181].

 

الفرقة الثانية: لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسيرا ولا أعانت أحدا تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار.

 

الفرقة الثالثة: لما سمعت بادرت إلى امتثاله وآثر المجيب منهم بسرعة بماله.

 

و انظر إلى هذه الأسرة الطيبة - أسرة الصحابي الجليل أبو الدحداح- التي تربت على مائدة القرآن وكيف كانت مبادرتها وامتثالها لأمر الله:

 

أولاً: أبو الدحداح:

قال زيد بن أسلم: لما نزل: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} قال أبو الدحداح: فداك أبي وأمي يا رسول الله إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض؟ قال: (نعم يريد أن يدخلكم الجنة به). قال: فإني إن أقرضت ربي قرضا يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة؟ قال: (نعم) قال: فناولني يدك ; فناوله رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - يده: فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضا لله - تعالى -. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك) قال: فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله - تعالى -، وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال: (إذا يجزيك الله به الجنة). فأنطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول:

 

هداك ربـي سبل الرشاد **** إلى سبيل الخير والسداد

بيني من الحائط بالوداد **** فقد مضى قرضا إلى التناد

أقرضته الله على اعتمادي **** بالطوع لا من ولا ارتداد

إلا رجاء الضعف في المعاد **** فارتحلي بالنفس والأولاد

والبر لا شك فخير زاد **** قدمه المرء إلى المعاد

 

ثانياً: أم الدحداح:

قالت أم الدحداح: ربح بيعك بارك الله لك فيما اشتريت، ثم أجابته أم الدحداح وقالت:

 

بشرك الله بخير وفرج **** مثلك أدى ما لديه ونصح

قد متع الله عيالي ومنح **** بالعجوة السوداء والزهو البلح

والعبد يسعى وله ما قد كدح **** طول الليالي وعليه ما اجترح

 

ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهـم حتى أفضت إلى الحائط الآخر.

 

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح).

 

فانظر رحمك الله إلى هذا التناغم بين أفراد الأُسرة وفرحها بالبذل في سبيل الله!

 

والمراد بالقرض في هذه الآية: \" الحث على الصدقة وإنفاق المال على الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم، وفي سبيل الله بنصرة الدين\".

 

و انظر إلى كناية الله - سبحانه - عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيباً في الصدقة، كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة عن النقائص والآلام.

 

ففي الصحيح إخباراً عن الله - تعالى -: (يا بن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني، قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي) وكذا فيما قبل (أخرجه البخاري ومسلم) وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كني عنه ترغيباً لمن خوطب به.

 

أقرض من عِرضِك ليوم فقرك:

و القرض كما يكون في المال يكون في العرض وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال: اللهم إني قد تصدقت بعِرضِي على عبادك).

 

و روي عن ابن عمر أنه قال: (أقرِض من عِرض ليوم فقرك: يعني من سبك فلا تأخذ منه حقاً ة لا تقم عليه حداً حتى تأتي موفر الأجر).

 

الفئات التي وردت في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشكر الله لها عملها:

أولاً: رجل يمشي في طريق إذ وجد غصن شوك فأخره.

عن أبي هريرة : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بينما رجل يمشي في طريق إذ وجد غصن شوك فأخره فشكر الله له فغفر له) [الترمذي، رقم(1881)] . حديث حسن صحيح.

 

قال الجزري في النهاية: في أسماء الله - تعالى - الشكور هو الذي يزكو عنده القليل من أعمال العباد فيضاعف لهم الجزاء فشكره لعباده مغفرته لهم [تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي].

 

ثانياً: الشاكر للناس:

عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) [الترمذي، رقم (1878)] حديث حسن صحيح .

 

قال الخطابي: هذا يتأول على وجهين:

أحدهما: أن من كان من طبعه وعادته كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله - تعالى - وترك الشكر له.

 

والوجه الآخر: أن الله - سبحانه - لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر.

 

ثالثاً: في كل كبد رطبة أجر:

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي! فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له)، قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا؟! قال: (في كل كبد رطبة أجر) أخرجه البخاري، (2190).

 

فشكر الله له: قال بن حجر: \" أي أثنى عليه أو قبل عمله أو جازاه بفعله.

 

وقال القرطبي: معنى قوله: \" فشكر الله له \" أي أظهر ما جازاه به عند ملائكته.

 

توصيات عملية:

1- سجدة الشُكر:

عن أبي بكرة : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا جاءه أمر سرور أو بشر به خر ساجدا شاكرا لله [سنن أبي دواد، رقم(2393)]

 

وفي زاد المعاد: وفي سجود كعب حين سمع صوت المبشر دليل ظاهر أن تلك كانت عادة الصحابة وهو سجود الشكر عند النعم المتجددة والنقم المندفعة، وقد سجد أبو بكر الصديق لما جاءه قتل مسيلمة الكذاب، وسجد علي لما وجد ذا الثدية مقتولا في الخوارج، وسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بشره جبرائيل أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا، وسجد حين شفع لأمته فشفعه الله فيهم ثلاث مرات وأتاه بشير فبشره بظفر جند له على عدوهم ورأسه في حجر عائشة - رضي الله عنها - فقام فخر ساجدا [عون المعبود شرح سنن أبي داود].

 

قال الإمام المناوي: \" ينبغي لمن أنعم الله عليه بنعمة أو دفعه عنه نقمة أن يسجد لله سجدة.

 

2- الثناء والشكر والمكافأة أو الدعاء لمن أسدى إلينا معروف:

(من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فادعوا له، مثل العلماء والحكماء وممن كان له فضل علينا).

 

3- أداء شكر اليوم والليلة:

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من قال إذا أصبح اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر ذلك اليوم ومن قال إذا أمسى اللهم ما أمسى بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر تلك الليلة) رواه أبو داود وغيره.

 

قال - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه مسلم في صحيحه - من حديث أنس - رضي الله عنه -: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيشكره عليها ويشرب الشربة فيشكره عليها).

 

4- تحقيق قواعد الشكر:

و الشكر مبني على خمس قواعد:

\" خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره. فهذه الخمس: هي أساس الشكر وبناؤه عليها \" [مدارج السالكين، (2/244). ].

 

5- شكر الوالدين:

قال - تعالى -: {أَنِ اشكُر لِي وَلِوَالِدَيكَ إِلَيَّ المَصِيرُ} [لقمان: 14].

قال ابن كثير: \" وَإِنَّمَا يَذكُر - تعالى - تَربِيَة الوَالِدَة وَتَعَبهَا وَمَشَقَّتهَا فِي سَهَرهَا لَيلًا وَنَهَارًا لِيُذَكِّر الوَلَد بِإِحسَانِهَا المُتَقَدِّم إِلَيهِ \".

اللهم اجعلنا من الشاكرين، والمشكور لهم سعيهم...آمين.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply