قلب المؤمن هو رأس ماله


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أيها الأحبة:

في القرآن الكريم وفي سنة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - آيات وأحاديث تعلم المسلم وتذكره أن صفقته التي إن ربحها ربح خيري الدنيا والآخرة وان خسرها خسر دنياه وآخرته أن صفقته ورأس ماله وربحه (قلبه) كما روى الشيخان من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه – وفيه: (ألا وان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) فالقلب إذا صلح قاد صاحبه ليتقي الشبهات وإذا فسد أوقعه في المحرمات والعكس صحيح فان من اتقى الشبهات صلح قلبه ومن وقع في المحرمات فسد قلبه ولا يسلم العباد من العذاب يوم يبعثون إلا من أتى الله بقلب سليم - أي سليم من الشبهات - سليم من الشهوات - سليم من الرياء - سليم من الغل والحقد - سليم من الحسد - سليم من الهوى قد امتلأ حبا لله وخوفا منه وتوكلاً عليه وغمره الطمع والرجاء فيه وأحب لله وابغض في الله يحب لأخيه ما يحب لنفسه مستسلم لقضاء الله وقدره راض بما قسم له الله مستسلم لما شرعه رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً معرض عما سواه فما وافق سنة نبيه قبله وما خالفها نبذه محب للمؤمنين مبغض للكافرين وكان من الدعاء المأثور: (اللهم إني أسألك قلبا سليما).

 

أيها المسلمون: القلب هو مناط الشقاء والسعادة وهو الذي يجب أن يحرص العبد المسلم المؤمن على مداواته وتفقده في كل حين وبين فترة وأخرى يتعاهده فيسقيه من نبع الإيمان ويجلوه بذكر الرحمن وقد ثبت في الحديث عن نبينا - صلى الله عليه وسلم – قوله: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم) رواه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وفي مسند الإمام احمد - رحمه الله - من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه) وقال - جل وعلا -: (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) وقال: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) وقال وليمحص ما في قلوبكم) وقال: (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا) وقال: (والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حكيما) وقال الحسن البصري - رحمه الله -: (داوي قلبك فان حاجة الله من العباد صلاح قلوبهم) فيا عباد الله داووا قلوبكم بذكر الله فان ذكر الله - تعالى - أعظم دواء للقلوب قال - جل وعلا -: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله) قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - أي تطيب وتركن إلى جانب الله وتسكن عند ذكره وترضى به مولى ونصيرا (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) أي هو حقيق بذلك فالقلب المطمئن مليء باليقين مليء بالرضا لا يخالجه شك أو ارتياب ومن هنا قال إبراهيم الخليل - عليه السلام -: (ولكن ليطمئن قلبي) أي ليزول اضطرابه ويسكن ارتيابه وقال - تعالى - عن المنافقين: (وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) وذكر الله الذي يطمئن القلوب قيل هو الذكر بالتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير وقيل ذكر الله هو القرآن لقوله - تعالى -: (وإنه لذكر لك ولقومك) وهذا اقرب للمراد من سياق الآيات فان قبلها قوله - تعالى -: (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب) فالقلب المنيب هو القلب المطمئن المهتدي للحق العارف بأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وان الذي أنزله هو الله أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا فالإنابة ضد النفور وهو الاطمئنان وعلى هذا النسق جاء قوله - تعالى - في سورة الزمر تهديدا ووعيدا لمن لم يطمئن قلبه بهذا الكتاب: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) أي الذين يزيدهم ذكر الله عتوا ونفورا وإعراضا وكفورا فتقسوا قلوبهم من ذكره وكان الواجب أن تخشع قلوبهم لذكره، قال أبو السعود: أي من أجل ذكره الذي حقه أن تنشرح له الصدور وتطمئن به القلوب ثم ذكر الله بعدها: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر من جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) فهذه قلوب المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون) فالقرآن الكريم هو دواء القلوب وسبب اطمئنانها ولينها وخشوعها (الم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق).

عباد الله إنما سمي القلب من تقلبه وإنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة بأصل شجرة تقلبها الريح ظهرا ببطن ولما كانت القلوب كذلك ز هي بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء كان من أكثر قسم النبي - صلى الله علية وسلم -: (لا ومقلب القلوب) وكان من دعاءه: (اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك) وكان يكثر من الدعاء في سجوده (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) وفي مسند الإمام احمد قال المقداد بن الأسود لا أقول في رجل خيرا ولا شرا حتى انظر ما يختم له به بعد شيء سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل وما سمعت قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: (لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا اجتمعت غليا) وكان من دعاء الذين أوتوا العلم: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) لان الذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه من القرآن يبتغون الفتنة ويبتغون تأويله وكل من زاغ أزاغ الله قلبه (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) قال أبو ذر - رضي الله عنه - إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: (قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان وجعل قلبه سليما ولسانه صادقا ونفسه مطمئنة وخليقته مستقيمة وجعل أذنه مستمعة وعينه ناظرة مقرة بما وعى القلب وقد أفلح من جعل قلبه واعيا) أخرجه الإمام أحمد.

 

أيها المسلمون القلوب أربعة: قلب أجرد مثل السراج مزهر وقلب أظلم مربوط على غلافه وقلب منكوس وقلب مصفح.

فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نور وهو قلب منير مطمئن بالإيمان ولما كان كذلك كانت الروح فيه لقوله - جل وعلا - (بأنهم يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) فإذا ذكر الله - تعالى - وجل قلبك وإذا فعلت خيرا فعلته وأنت وجل وإذا اطمئن قلبك بذكر الله فأنت على خير وهذا هو مقياس سلامة قلبك وطهره أن يكون قلبك واعيا ذاكرا خاليا من الغل خاليا من الحسد والخيانة تحب لأخيك ما تحبه لنفسك لا توجد فيه شبه ولا شهوة واهم ما يجب أن يسلم القلب منه هو الشرك فلا بد أن يكون قلبك ممتلئ توحيدا لله - جل وعلا - موحدا له في ربوبيته مقرا له بأنه الخالق الرازق المحي المميت وغير ذلك من خصوصيات ربوبيته - جل وعلا - وموحدا له في الهيته فلا يصرف شيئا من العبادة بأنواعها لغيرا لله - تعالى - أو مع الله فليس فيه خوف أو خشية أو رغبة أو رهبة أو تعظيم أو محبة خالصة إلا لله وان يعرف الله حق معرفته بأسمائه وصفاته فيعلم انه الرحيم الغفور التواب الشكور السميع البصير الرقيب الحسيب المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يقدره حق قدره فلا يتوكل إلا عليه ولا يفر إلا إليه خلي من الرياء والسمعة متى كان ذلك كذلك فقد استكمل السلامة وامن حامله من العذاب يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وقد امرنا الله - تعالى - بأمره لنبينا - صلى الله عليه وسلم – بقوله: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) وقال - تعالى -: (ومن أحسن دينا ممن اسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا) إلا وان من أهم ما يتبع به الخليل - عليه السلام - سلامة القلب كما أخبر عنه ربه أنه جاء بقلب سليم وعلامة سلامته ما ذكره في قصته - عليه السلام - مع ابنه.

 

أيها الأحبة وأما القلب الأغلف فقلب الكافر كما أخبر - سبحانه وتعالى - عن الكافرين أن ختم الله على قلوبهم (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه (و قالوا قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) فهي ميتة أو عمياء (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) والكافرون لهم قلوب لا يفقهون بها فقلوبهم منكرة وهم مستكبرون فقست قلوبهم وأكثرهم فاسقون وقذف الله في قلوبهم الرعب فقلوبهم شتى بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين وهؤلاء هم الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون

 

وأما القلب المنكوس فقلب المنافق وهو قلب مريض بالشبهة كما قال - سبحانه -: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) وقال عنهم: (فأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) وهذا مؤكد للقول بان القرآن هو مقياس حياة القلوب وموتها ومقياس لحدة أو عدم إبصارها وقياس صحتها ومرضها فالمؤمن ذو القلب السليم يوجل قلبه عند ذكر الله وتلاوة آياته والكافر ذو القلب الميت والأعمى قلبه لا يفقه من القرآن شيئا والمنافق ذو القلب المريض لا تزيده الآيات إلا رجسا ولا يستطيع أن يذكر الله إلا قليلا وصدق الله إذ يقول: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذنهم وقر وهو عليهم عمى) وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأيما المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه وهذا القلب هو القلب المريض بالشهوات كما قال - جل وعلا -: (ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض).

 

أخوة الدين والعقيدة إن حياة القلوب ذكر الله وموت القلوب في الغفلة عن ذكر الله (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه فتردى) فأكثروا من ذكر الله تحيا قلوبكم وتلين فان الحبيب - صلى الله عليه وسلم – قال: (الأيمان يمان والحكمة يمانية والفقه يمان) وقال عن أهل اليمن: (أتاكم أهل اليمن أرق قلوبا وألين أفئدة) فقلب المؤمن رقيق رحيم بإيمانه ولفقهه ولما قذف الله فيه من الحكمة فزد إيمانك وتعلم الكتاب والحكمة يرق قلبك ويلين فؤادك فان الله يحي القلوب بنور الحكمة وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) وأن القلب الذي ليس فيه شيء من كتاب الله خرب كخراب البيت الذي لا ساكن فيه.

شكى رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه قال له إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم أخرجه الإمام أحمد بسند حسن وإياكم وكثرة الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب وكثرة الكلام لغير الله فإنها تقسي القلب والقلب القاسي بعيد من الله وإياكم والكبر فان الكبر يطبع على القلب كما قال - سبحانه -: (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) ومن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أكبه الله على وجهه في النار وإياكم والإعراض عن أمر الله وعصيانه فهو سبب قسوة القلوب ونفورها فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية وإياكم وموالاة الكافرين من يهود أو نصارى فإنها علامة ضرب القلب بالشبهة والشهوة جميعا (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة).

 

ألا فاتقوا الله عباد الله وأحيوا قلوبكم بذكره وعالجوها بذكره ورققوها بذكره واغسلوها بماء التوبة واليقين فوالله ليس من نجاة من عذاب يوم القيامة وأهواله إلا من أتى الله بقلب سليم - رزقني الله وإياكم قلوبا سليمة مستنيرة على هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - مستقيمة على نهجه محبة له ولأصحابه (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply