التوبة التوبة


 
بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله الذي بتحميده سيفتح كل كتاب، وبذكره يصدر كل خطاب، وبحمده يتنعم أهل النعيم في دار الثواب، وباسمه يتسلى الأشقياء وإن أرخى دونهم الحجاب، وضرب بينهم وبين السعداء بسور له باب، باطنه فيه الرجمة وظاهره من قبله العذاب.

ونتوب إليه توبة من يوقن أنه رب الأرباب، ومسبب الأسباب، ونرجوه رجاء من يعلم أنه الملك الرحيم الغفور التواب، ونصلي على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه - صلاة تنقذنا من هول المطلع يوم العرض والحساب، وتمهد لنا عند الله زلفى وحسن مآب.

 

حقيقة التوبة وحدها:

اعلم أن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتئم من ثلاثة أمور مرتبة: علم وحال وفعل، فالأول موجب للثاني، والثاني موجب للثالث إيجاباً اقتضاه اطراد سنة الله في الملك والملكوت، أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب وكونها حجاباً بين العبد وبين كل محبوب، فإذا عرف ذلك معرفة محققة بيقين غالب على قلبه ثار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات المحبوب، فإن القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألم، فيسمى هذا التألم ندماً، فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولىº انبعث بالحال والماضي وبالاستقبال.

أما تعلقه بالحال فبالترك المفوت للمحبوب إلى آخر العمر.

وأما الماضي فبتلافي ما فات بالخير القضاء إن كان قابلاً للخير، فالعلم هو الأول، وهو مطلع هذه الخيرات، وهو الإيمان واليقين، فان الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة، واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه، فيثمر نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب نار الندم، فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مرتبة في الحصول فيطلق اسم التوبة على مجموعها، وكثيراً ما يطلق اسم التوبة على معنى للندم وحده قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :\"الندم توبة\".

وقال سهل بن عبد الله التستري:\" التوبة تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة. ولا يتم ذلك إلا بالخلوة والصمت وأكل الحلال\". والأقاويل في حدود التوبة لا تنحصر.

 

وجوب التوبة وفضلها:

اعلم أن وجوب التوبة ظاهر بالأخبار والآيات فعليك حتى تتوب وتعرف وجوب التوبة أن تنظر أولاً بنور البصيرة إلى التوبة ما هي، ثم معني الواجب هو: الوصول إلى السعادة الأبدية، والنجاة من هلاك الأبد، وتعلم أنه لا مقرب من لقاء الله إلا قطع علاقة القلب عن زخرف هذا العالم، والإقبال بالكلية على الله طلباً للأنس به بدوام ذكره، وللمحبة له بمعرفة جلاله وجماله على قدر طاعته.

 

اعلم عزيزي أن الذنوب إنما هي إعراض عن الله واتباع الشياطين أعداء الله المبعدين عن حضرته سبب كونه محجوبا مبعدا عن الله – تعالى- فلا شك أن الانصراف عن طريق البعد واجب للوصول إلى القرب ويكون هذا الانصراف بالعلم والندم والعزم فانك ما لم تعلم أن الذنوب أسباب البعد عن المحبوب لم تندم ولم ترجع ومعنى الرجوع الترك والعزم وهكذا يكون الإيمان الحاصل على نور البصيرة قال – تعالى-: \"يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا\".

 

اعلم أن الله يفرح بتوبة عبده وهذا هو فضل من أفضال التوبة فرح الرب ورضاءه عليك وتوفيقه لك.

 

قال - عليه السلام -: \"التائب حبيب الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له\" وقال – تعالى-: \"إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين\".

 

فالتوبة عزيزي واجبة ووجوبها على الفور لا يستراب فيه فتب إلى الله ولا تحزن فإن ربك غافر الذنب وقابل التوب.

 

إلا يشرح صدرك ويجلب سعادتك قول ربك - جل في علاه-: \"قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم\".

 

فخاطبهم بـ \"يا عبادي\" تأليفا لقلوبهم، وخص الذين أسرفوا لأنهم المكثرون من الذنوب والخطايا فكيف بغيرهم؟ žžž

 

ألا تفرح حين تسمع قوله - جل في علاه-: \"ومن عمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما\".

 

ما دمت تتوب وتستغفر وتندم فان الله يغفر لك.

 

قال – تعالى- في حديثه القدسي: \"يا عبادي\" إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا اغفر الذنوب جميعا فاستغفروني اغفر لكم\".

 

شروط التوبة ودوامها:

قال الإمام النووي في \"رياض الصالحين\":

قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب فان كانت المعصية بين العبد الله – تعالى- لا تتعلق بحق ادمي ولها ثلاثة شروط:

أحدهما: أن يقلع عن المعصية.

والثاني: أن يندم على فعلها.

والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبداً.

 

فان فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته. وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فشروطها أربعة هذه الثلاثة وأن يبرأ من حق صاحبها فإن كانت مالا أو نحوه رده إليه وإن كان غيبة استحله منها.

 

ويجب أن يتوب من جميع الذنوب فإن تاب من بعضها صحت توبته عند أهل الحق من ذلك الذنب وبقي عليه الباقي فتب إلى الله وسارع عزيزي في طاعته وترك و اجتناب نواهيه ونواقضه.

 

أقسام التائبين في دوام التوبة:

اعلم أن التائبين في التوبة على أربع طبقات:

- توبة ذي النفس المطمئنة: وهى أن يتوب العاصي ويستقيم على التوبة إلى أخر عمره فيتدارك ما فرط من أمره ولا يحدث نفسه بالعودة إلى ذنوبه وصحبه هو السابق بالخيرات المستبدل بالسيئات حسنات واسم هذه التوبة: \"التوبة النصوح\" وهم الذين أشار لهم الرسول - عليه السلام – بقوله: \"سبق المفردون المستهترون بذكر الله – تعالى- وضع عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافا\".

 

- توبة ذي النفس اللوامة: وهو تائب سلك طريق الاستقامة في أمهات الطاعات وترك كبار الفواحش كلها إلا انه ليس ينفك عن ذنوب تعتريه لا عن عمد وتجريد قصد.

ولكن يبتلى بها في مجارى أحواله من غير أن يقدم عزما على الإقدام عليها ولكنه كلما أقدم عليها لام نفسه وندم وتأسف وجدد عزمه قال - عليه السلام-: \"خياركم كل مفتن تواب\".

 

- توبة ذا النفس المسولة: وهى أن يتوب ويشمر على الاستقامة مدة ثم يغلبه الشهوة في بعض الذنوب فيقدم عليها عن صدق وقصد شهوة إلا أنه مع ذلك مواظب على أداء الطاعات وهو تارك جملة من الذنوب وإنما قهرته هذه الشهوة وهم الذين قال تعالي فيهم: \"وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا\".

 

- توبة النفس الأمارة: وهى أن يتوب ويجري مدة على الاستقامة ثم يعود إلى مقارفة الذنب أو الذنوب من غير أن تحدث نفسه بالتوبة ومن غير أن يتأسف على فعله. بل ينهمك انهماك الغافل في اتباع شهواته فهذا من جملة المصرين وهذه النفس فارة من الخير ويخاف على هذا سوء الخاتمة.

 

ثمرة التوبة:

للتوبة ثمرتين:

أحدهما: تكفير السيئات حتى يصير كمن لا ذنب له.

والثانية: نيل الدرجات حتى يصير حبيبا.

 

وللتكفير أيضا درجات فبعضه محول أصل الذنب بالكلية، وبعضه تخفيف له ويتفاوت ذلك بتفاوت درجات التوبة.

 

فالاستغفار بالقلب والتدارك بالحسنات قال – تعالى-: \"ومن عمل مثقال ذرة خير يره\" فالتضرع والاستغفار بالقلب حسنة تضيع عند الله أصلا والاستغفار والتوبة اجر المحسنين \"فعليك بالدعاء  والاستغفار والتوبة وتذكر محبة الرب للتائب وإسعاده له بالخير والرضا والمغفرة\".

 

الخاتمة:

في النهاية لا يسعني إلا أقول لك سارع إلى التوبة من الذنوب بالرجوع إلى الله – تعالى- ستار العيوب وغفار الذنوب فان التوبة مبدأ طريق السالكين ورأس مال الفائزين وأول أقدام المريدين ومفتاح استقامة المائلين.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply