فتاة البار


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في أواخر العقد السادس من عمرها، تمسك بكلتا يديها آلة مسح الأرض في ردهة الاستقبال الأنيقة في أحد الفنادق الفخمة، لا يكاد يلحظ وجودها أحد، لكنها بالتأكيد تلحظ كل شيء وكل أحد، لا تنفك يداها عن جهاز التنظيف وتستمر في عملها، بينما يمر الجميع، لا يكلمها أحد حتى لتكاد تحس أنها والآلة التي بيدها سواء، تسرح بخيالها، تتذكر أيام صباها، وكيف أن الجميع كانوا يتهافتون عليها، كما يتهافت الذباب على قطعة حلوى، فقد ولى الشباب ولم يبق لديها ما يطمع به هؤلاء الرجال، لذا فقد امتنعوا عن مجرد النظر إليها، فضلاً عن إلقاء التحية.

تساءلت: أي قيم هذه التي تسود مجتمعنا؟ وإلى أين تسير بنا هذه القيم؟! تنظر إلى الساعة: هذا موعد آنا، لكنها لم تحضر بعد. وبينما هي في تفكيرها، إذ بآنا تدخل مسرعة، وتلقي تحية المساء باقتضاب، وتدخل إحدى الغرف لتلبس على عجل ثوباً غير محتشم، وتأخذ بزينة لابد لها منها، فهي من أهم مقتضيات عملها كساقية في بار، نظرت إلى المرآة وأسدلت فوق معالم الحنق على وجهها ابتسامة شاحبة، وخرجت، أشارت بالتحية للسيدة جيني، بادرتها جيني بالسؤال، وكانت قد نمت بينهما صداقة قوية، بالرغم من تباينهما في السن، ردت وعينها على الدرج الذي يوصلها إلى البار تكاد تفيض عيناها وقالت: سنتحدث فيما بعد.

ومضت تنزل الدرج في سرعة، وعادت جيني تمسح آثار الأقدام في الصالة الأنيقة، مطلقة العنان لأفكارها ورؤاها. انقضت الساعات وأخذت جيني تراقب الدرج حتى صعدت آنا يلتف حولها عدد من الرجال في طريقهم لمغادرة الفندق، وقد لعبت برؤوسهم أم الخبائث، وهم يتحدثون معها ويقهقهون، وهي تجاملهم بتوزيع ابتسامات باهتة في محاولة للتخلص من سماجة حديثهم. كانت جيني قد أنهت أيضاً ساعات عملها فأخذت بيد آنا، وجلستا غير بعيد عن موقع الاستقبال وأخذتا تتجاذبان أطراف الحديث.

قالت آنا: إلى متى هذه المعاناة يا جيني؟ كم أحتقر نفسي؟ إني أحس بأني مجرد دمية، شيء، يلهون به ثم يلقونه وقد يدوسونه ويمضون، كم أكرههم، بل كم أكره نفسي، ربتت على كتفها وقالت: سوف تتحسن الأمور، ولكن ألا تبحثين عن عمل آخر؟ قالت: بلى بحثت ومازلت أبحث، لكن ماذا تعمل امرأة مثلي؟ ليست لدي أية مهارات، ولم أُنه تعليمي، لست طبيبة أو عالمة أو مخترعة لأعمل في وظيفة محترمة.

قالت جيني في تأمل يشوبه الأسى: نعم، ولم تجدي غير استغلال أنوثتك للحصول على المعاش، هزت رأسها في صمت كئيب.

لفت انتباههما مكالمة يبدو أنها على مستوى عالٍ, من الأهمية، سمعت المرأتان موظف الاستقبال يقول: نعم، نعم، خمسمائة، متى؟ حسناً سيدي سوف أحدث مدير الفندق وأرد عليك، لا لن أتاخر، شكراً، مع السلامة.

أجرى الموظف مكالمة أخرى ويبدو أنها مع مدير الفندق هذه المرة، قال في حماس لا يخفى: سيدي، لقد اتصل بنا لتوه مندوب عن اتحاد الطلبة العرب، وسأل إن كان بوسعنا استضافة مؤتمر لهم في بداية الشهر القادم..نعم سيدي سأرد في الحال وسوف نقوم باتخاذ كل الإجراءات..نعم، نعم سنبذل كل جهدنا.

قالت آنا في يأس: هذا ما كان ينقصنا، خمسمائة طالب عربي، يا إلهي!

قالت جيني: وماذا يميزهم؟ إنهم كغيرهم من النزلاء.

ربما كنت لا تعلمين، ردت آنا: إنهم مغرمون جداً بالخمر والنساء، وقد سمعت الكثير من قصصهم المخزية، ثم إنهم يتصرفون بهمجية، يا إلهي، يا لتعاسة حظي.

لا تنعي حظك (قالت جيني) واجتهدي في البحث عن عمل جديد.

بدأت الاستعدادات لاستضافة المؤتمر، وجد الخدم بالتنظيف، وتم تجديد بعض أثاث الفندق وتوظيف عدد آخر لخدمة النزلاء المنتظرين.

وقبل موعد المؤتمر بيومين نزل أحد كبار المسؤولين إلى البار، وكان قد وظف عدداً آخر من الفتيات، وحرص على اختيار الأجمل والأكثر خبرة واستعداداً لإرضاء كل الأذواق، وعرض مكافآت مجزية على الفتيات إن هن نجحن في استفراغ جيوب ضيوف الفندق المرتقبين!

وفي اليوم المنتظر أعطيت التعليمات بمنع استقبال أحد في الفندق من غير ضيوف المؤتمر.

دخلت آنا في المساء، ألقت التحية على صديقتها وهي تقول: ها قد جاء اليوم الموعود، ولم أجد وظيفة أخرى، ولذا سأضطر إلى ملاطفة هؤلاء العرب، كم أكرههم، ردت جيني: كوني صبورة، ما هي إلا أيام تنقضي كما انقضى غيرها، وأصبح ذكرى أو طواه النسيان، نزلت آنا إلى البار، وأخذت جيني تتابع مسح الأرض وتراقب الدرج المؤدي إلى البار.

لكنها لم تلحظ أحداً، لم ينزل أحد إلى البار، يا للغرابة!

في هذه الأثناء انتهت أولى جلسات المؤتمر، ورأت جيني الشباب يتحادثون ثم يتفرقون إلى غرفهم، وبعضهم يجلس هنا وهناك في جماعات صغيرة يتحدثون، مر بجانبها بعضهم وألقى التحية في أدب، ردت جيني تحيتهم في دهشة.

ترى، ماذا وراء الأكمة؟ صعدت آنا وسلمت على صديقتها وهي تقول: غير معقول، لم ينزل أحد إلى البار الليلة، هناك شيء ما، لا بد أن هناك شيئاً ما!

لم يكن ما حدث يثير غرابة السيدة جيني وصديقتها وحدهما، ففي صباح اليوم التالي جاء مدير الفندق ليطمئن على الوضع، وسأل عن غلة البار في الليلة السابقة، وكم دهش بل صعق عندما قالوا له: صفر!

هو يعلم عن نهم هؤلاء العرب وإقبالهم على البارات والحانات، لكن، يبدو أن هناك خطأً ما، أقرب الظن أنهم ربما لم يعلموا عن مكان البار، نعم، نعم، لابد أن هذا هو السبب، وأعطى مدير الفندق تعليماته بوضع لافتة جذابة للأنظار كبيرة الحجم تدل على موقع البار، وأسهم إرشادية في كل مكان، وقال في ختام حديثه: لا بأس! لقد خسرنا ليلة واحدة فقط وسنعوض خسارتنا في الليالي القادمة.

ودت آنا لو أن موقع البار بقي مجهولاً فتستريح من عبث هؤلاء الغرباء، وأخذت تنظر في حنق إلى اللافتات الإرشادية، ثم أشارت إلى صديقتها بالتحية ونزلت إلى البار.

كانت جيني ترقب الوضع باهتمام شديد، يبدو أن هؤلاء العرب ليسوا كغيرهم، إنهم يتعاملون معها بأدب جم، ويلقون التحية كلما مروا بها باحترام.

ولليلة الثانية على التوالي لم ينزل منهم أحد إلى البار.

الأمر يثير فضول جيني إلى حد بعيد، ترى ما الأمر؟!

وحضر في الصباح مدير الفندق يتوقع أن يكون البار قد حظي الليلة برواد كثر، لكنه صعق ثانية عندما سمع النبأ، لم ينزل أحد مطلقاً من الضيوف حتى لو لشرب كأس!

هناك خطأ ما.. أخذ يردد، بل هناك شيء ما، وجه كلامه لموظف الاستقبال قائلاً: رتب لي موعداً مع أحد المسؤولين عن هذا المؤتمر، أريد أن أعرف ما الحكاية.

وفي المساء حرصت جيني على الاقتراب جهد طاقتها من طاولة الرجلين.

اقتربت منهما متظاهرة بالتنظيف، وهي تحاول استراق السمع، فهي أيضاً تريد أن تعرف ما الحكاية!

بدأ الحديث عادياً، كيف حالكم؟ هل لكم ملاحظات على الخدمة؟ ثم قال وهو لا يستطيع إخفاء دهشته: ما قصتكم؟

قال المسؤول العربي مبتسماً: وما قصتنا؟ كل ما في الأمر أننا أعضاء اتحاد الطلبة المسلمين في الولاية، ورغبنا أن نعقد مؤتمرنا في فندقكم، فأي شيء تنكره علينا؟

قال: ألستم عرباً؟

قال في تبسم: معظمنا من العرب.

قال: فلماذا لم تنزلوا إلى البار؟ أضاف وهو يحاول الحفاظ على لباقته: ليس هذا ما نعرفه عن العرب في بلاد الغرب.

تبسم الرجل وقال: أفهم ما تعنيه يا سيدي، نحن عرب ولكننا مسلمون.

قال: مسلمون! وماذا يعني ذلك؟

قال: ألم تعلم أننا طلبنا من مسؤول المطعم ألا يقدم لنا لحم الخنزير، ديننا يحرمه كما يحرم الخمر، قال: وماذا عن الفتيات؟؟

رد وابتسامته لا تفارق وجهه: إننا مسلمون، والمسلم يكتفي بزوجته ولا يبتغي وراءها، وهذه العلاقات خارج إطار الزوجية، كلها محرمة في ديننا.

إلى هنا لم تستطع السيدة جيني السيطرة على نفسها، ألقت آلة المسح من يدها وأقبلت تسعى وهي تنادي آنا، أدركي يا آنا، آنا، هنا بوابة الجنة، والله إنها بوابة الجنة، ثم توجهت للرجل العربي بالسؤال: المعذرة يا سيدي، ما اسم هذا الدين الذي يحرم الخمر والنساء؟

قال: الإسلام.

قالت:فاشهدوا منذ اللحظة أني على دينكم، إني مسلمة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply