الطريق إلى الله


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

هذه القصة مستوحاة من أحداث واقعية أتمنى أن تكون همسة في أذن كل شبابنا مؤكدة لهم أن الحياة هي الأمل والسعادة وهي النجاح والتفوق إذا كانت تُرى بقلب مطمئن بالإيمان، عامر بحب الله - تعالى -جاعلين نصب أعيننا في كل وقت وحين قول الله - عز وجل - في الآية 51 من سورة التوبة: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)·

 

كان نبيل يسير بخطوات تائهة، تعبة فوق الرصيف الطويل غير آبه بما يحيط حوله، والإحباط والأسى يملآن كيانه، إنه لا يريد أن يعود إلى بيته، ولا يريد أن يواجه أمه التي تتطلع إليه كل مساء بتساؤلها المعتاد: هل من جديد يا بني؟ فيجيبها بالنفي، لقد ملَّ هذه المسرحية التي تتكرر أمامه، ملَّها وطفح به الكيل، ولكن ما حيلته، لا أحد يقبل به ولا أحد يرغب في توظيفه، فمن يقبل بشاب حاصل على الإجازة في التاريخ والجغرافية·

 

عندما كان طالباً، كان متفوقاً وكان ممتلئاً بالآمال والأحلام، كان يتمنى بلوغ ذلك اليوم الذي يحصل فيه على الإجازة ليجد عملاً ويساعد أمه التي تحملت من أجله كل الصعاب، كانت تعمل في منازل الأثرياء لتوفر له لقمة العيش، أو كراساً تشتريه له، رفضت أن يترك الدراسة للعمل، فهي تريد ابنها رجلاً محترماً ومتعلماً، لكن هيهات، شتان بين الحلم والواقع، لقد تعلَّم نبيل، لكنه لم يعد محترماً، فهو لا عمل له ومازالت أمه تعمل، وما كان يدمي قلبه أنه منذ أن حصل على الإجازة لم يستطع أن يجد بها وظيفة، حاول أن يجرب أعمالاً أخرى كإصلاح السيارات أو النجارة، لكنه لم يفلح، لقد كان في كل مرة يطرد في الأسبوع الأول، فالكل يريد شخصاً متعلماً في هذا الميدان وذا تجربة لا مبتدئاً، وهكذا سدت في وجهه كل الأبواب، ولم يعرف ماذا عساه يفعل وإلى أين يذهب؟ ··· كانت الهواجس تملأ كيانه، والأحزان تلفه من كل جانب كانت خطواته لا تعرف طريقاً معيناً، إنما يسير على غير هدى·· وجد نفسه في شارع خالٍ, من الناس يطل على البحر الأزرق الذي شكل لوحة رائعة الجمال بامتزاجه مع الشفق الأحمر معلناً غروب الشمس، لم يكن ليأبه بجمال المنظر، بل كان صوت المدير الساخر الذي استقبله اليوم في آخر شركة توجه إليها حين أخبره أنه حاصل على الإجازة في التاريخ والجغرافية يرن في أذنيه بشكل فظيع: ماذا، تريد أن تعمل بهذه الإجازة، اذهب وابحث في مكان آخر ولا تبدد وقتي فهو ثمين، التمعت عيناه بالدموع حين تذكر الموقف، فتملكه الغضب والتمرد، فصرخ وهو يتطلع إلى البحر: لماذا أنا؟ لماذا؟ أنا لا أساوي شيئاً، أنا لا شيء وبينما هو يصرخ ويصرخ انتابته فكرة مجنونة، لماذا لا يضع حداً لحياته البائسة، الموت السريع أرحم من الموت البطيء، إنه يموت وببطء·· تراءى أمامه وجه أمه الحزين هل يتركها؟ ولوحدها، ستموت حزناً عليه، ولكن ماذا تفعل الآن إنها تحزن كل مساء عند عودته خائباً، إنه بموته على الأقل ستقل مسؤوليتها، لابد أن ينهي كل مشاكله وفوراً، لا رغبة له في الحياة، لا يريد أن يعيش··· ومن دون وعي وبإصرار غريب رفع جسده ليقفز، لكن يداً قوية سحبته إلى الوراء قاوم بعنف تلك اليد، لكنه لم يفلح فاستدار إلى صاحبها قائلاً بهستريا: لماذا لا تتركني أموت؟، لماذا!؟ أتسمعني أريد أن أموت لا قيمة لحياتي! انفجر باكياً بعد كلماته الأخيرة، وبحنان غريب مسح الرجل دموع نبيل وربت على كتفه برقة وقال بصوت يقطر عذوبة: ألا تخجل يا بني من نفسك، تريد أن تنزع النفس التي وهبها الله - عز وجل - لك فتخسرها وتصبح عليها من النادمين · تطلع نبيل للمرة الأولى إلى وجه الرجل الذي أنقذه، كان شيخاً، وجهه سمح تزينه لحية بيضاء وعيناه تشعان طيبة، انتابته راحة غريبة وقال وهو يمسح دموعه: تقول هذا لأنك لا تعيش ما أعيشه، أنا يائس، ما قيمتي لقد أصبحت بلا فائدة، أمي هي التي تنفق عليَّ وهي في أرذل العمر وأنا الشاب القوي، لا أستطيع أن أعمل شيئاً، سدت كل الأبواب في وجهي وردتني خائباً ابتسم الشيخ وقال برقة: وهل طرقت باب الله - عز وجل - الذي لا يرد أحداً خائباً، هل دعوته؟ هل فكرت في الالتجاء إليه؟ صمت نبيل ولم يجد جواباً، وماذا سيقول، إنه لم يفكر في هذا من قبل، لم يكن يوماً مؤمناً ملتزماً··· لما لاحظ الشيخ صمته قال: لهذا سُدَّت الأبواب في وجهك يا بني، لأنك لم تتوكل على ربك - سبحانه -، والآن أردت أن تفعل ما هو أفظع كثيراً، أردت أن تضع حداً لحياتك، هذه ليست هي الطريق، الطريق التي تسلكها طريق الشيطان لا فلاح فيها، أما طريق الله فكلها فلاح ونور، أجابه نبيل بحزن: ولكني لم أكن يوماً رجلاً مجرماً أو مؤذياً، كنت مسالماً وصاحب أحلام، لكنها تحطمت على صخرة الواقع، الواقع كله ظلام حالك··.

 

أشرق وجه الشيخ بابتسامة نورانية وتطلع إلى غروب الشمس وقال وهو يشير إليه: أترى هذا الغروب يا بني؟ تطلع نبيل بدوره إلى المنظر وقال بيأس: الغروب يذكرني بأحزاني·· أخذ الشيخ بيد نبيل وقال بحنان: إن غروب الشمس ليس دليلاً على الأحزان ونهاية العالم، لأنه يأتي بعده الشروق، فإن كانت حياتك الآن يلفها الغروب والظلام، فسيأتي الصبح (أليس الصبح بقريب) وإذا أردت إشراقة هذا الصبح لابد لك من طرق باب خالقك باب ربك العظيم، فهو لا ينسى عباده، فلا تنساه أنت فتشقى في حياتك الفانية وحياتك الدائمة، فلا تنساه··· استمر نبيل يحدق في الغروب وقد اخترقت كلمات الشيخ وجدانه فاجتاحه إحساس غريب بالأمان، نعم إن الله لا ينسى عباده، فلماذا اليأس والإحباط، أحسَّ بدم جديد يجري في عروقه فحدق في السماء وفاضت عيناه بالدموع، لقد نسي الله - عز وجل -، لقد نسي أن يدق بابه، فكيف كان يأمل بالفلاح؟ استدار ليواجه الشيخ فانتابته دهشة عارمة، لم يجد أحداً، فصاح وهو ينادي: أيها الشيخ الكريم أين ذهبت؟ لقد فهمت كلامك أيها الشيخ؟ لكن لا أثر للشيخ لقد اختفى من دون أن ينتبه هو لذلك لكن صوته الحنون لم يفارقه، إنه نعمة أرسلها الله - عز وجل - لينقذه من الهلاك، لا يهمه من يكون، لكنه نجا، نجا من نفسه الأمارة بالسوء، علت وجهه للمرة الأولى ابتسامة مشرقة كلها أمل، فعاد أدراجه متوجهاً نحو بيت الله نحو المسجد، وقد أحس أنه قد ولِّد من جديد، إنه ليس وحيداً بل هناك الخالق العظيم يرعاه ولا ينساه·

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply