زواج على درهمين


بسم الله الرحمن الرحيم

 

حدث هذا الزواج أواخر القرن الأول الهجري، وهو عصر التابعين.

تعالوا بنا لنقرأ هذا الحدث، ونتعرّف على شخصياته، ونستفيد منه الدروس والعبر:

أما والد العروس ووليٌّها في العقد فهو: سعيد بن المسيب، أبو محمد القرشي المخزومي، سيد التابعين في زمانه، وإمام أهل المدينة علماً وعملاً، كان يقال له: عالم العلماء، وفقيه الفقهاء.

رأى جمعاً من الصحابة، وسمع الحديث من عثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وعائشة، وأم سلمة، وغيرهم، وأكثر روايته المسندة عن أبي هريرة وكان زوجَ ابنته.

وكان يفتي والصحابة أحياء، وكان ابن عمر يقول: هو أحد المفتين.

قال سعيد عن نفسه: إن كنتُ لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد. 

وقال أيضاً: ما فاتتني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة. 

 

وإليكم قصة  تزويجه ابنته: 

كانت بنت سعيد قد خطبها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان لابنه الوليد، فأبى  عليه ولم يوافق، فلم يزل يحتال عبد الملك عليه حتى ضربه مئة سوط في يوم بارد، وصبَّ عليه جرَّة ماء، وألبسه جُبَّة صوف!

يقول كثير بن المطلب بن أبي وداعة، أبو سعيد القرشي المكي: كنتُ أجالس سعيد بن المسيب، ففقدني يوماً، فلما جئتُه قال: أين كنت؟ 

قلت: توفيت أهلي فاشتغلتُ بها، فقال: ألا أخبرتَنا فشهدناها؟ 

ثم قال: هل استحدثتَ امرأة؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟! قال: أنا، فقلت: وتفعلُ؟! قال: نعم. 

ثم حمد الله تعالى، وصلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم، وزوّجني على درهمين - أو قال: ثلاثة -. 

فقمتُ وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرتُ إلى منزلي، وجعلتُ أتفكَّر ممن أستدين؟ 

فصليت المغرب، ورجعت إلى منزلي، وكنتُ وحدي صائماً، فقدمتُ عَشائي أُفطر - وكان خبزاً وزيتاً - فإذا بابي يُقرع، فقلت: من هذا؟ 

فقال: سعيد، فأفكرت في كل من اسمه سعيد إلا ابن المسيب، فإنه لم يُر أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت، فإذا سعيد بن المسيب! فظننتُ أنه قد بدا له - أي: ندم على  تصرفٌّه وتسرٌّعه -. 

فقلت: يا أبا محمد، ألا أرسلتَ إليَّ فآتيك؟ قال: لا، أنت أحقٌّ أن تُؤتى. 

إنك كنتَ رجلاً عزباً فتزوَّجتَ، فكرهتُ أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذ بيدها وأدخلها وردَّ الباب، فسقطت المرأة من الحياء.

فاستوثقتُ من الباب، ثم صعدت إلى السطح فناديت الجيران، فجاءوني فقالوا: ما شأنك؟ فأخبرتهم، ونزلوا إليه. وبلغ أمي الخبر، فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسِستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام. 

فأقمت ثلاثاً ثم دخلتُ بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وأعرفهم بحق زوج. 

فمكثتُ شهراً لا آتي سعيد بن المسيب، ثم أتيته وهو في حلقته، فسلَّمت فردَّ عليَّ السلام، ولم يكلِّمني حتى انفضَّ من في المسجد، فلما لم يبق أحد غيري قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خيرٌ يا أبا محمد، على ما يحب الصديق، ويكره العدو، ولما انصرفتُ إلى منزلي وجَّه إليَّ بعشرين ألف درهم. 

 

هذه القصة الرائعة التي حدثت في القرون الخيِّرة من سلف هذه الأمة، أقدمها هدية إلى كل أب يحب ابنته ويسعى لخيرها وإسعادها، فمنها نستفيد الدروس الآتية: 

1 - أن يكون الاختيار في الزواج على أساس الدين، فهذه وصية الحبيب - صلى الله عليه وسلم - أولاً: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)، (فاظفر بذات الدين تربت يداك). 

وهذا سعيد يقوم بتطبيق هذه الوصية خير قيام، فليست ابنته بالأقل من غيرها حسناً وجمالاً وبهاء، ولا بالمرأة التي تعاقبت عليها السنون والأعوام وأصبح همٌّ والدها هو تزويجها من أي إنسان كائنا من كان، بل هي التي جمعت الجمال والحسب والنسب والشرف، حتى حرص الخليفة على أن يزوجها لابنه، لكن سعيداً لم يكن مرحِّباً بذلك الزواج، ولا حريصاً عليه، وآثر عليه الزواج من (كثير) الفقير، لأنه الذي جمع الخلق والدين، وهو الكفؤ لها في ميزان الإسلام. 

2 - ألا يكون المهر وتكاليف الزواج تعجيزية، فو الله الذي لا إله إلا هو، لم يكن كثرة المهر في يوم ما سبباً في سعادة الفتاة، ولا قلته سبباً في تعاستها، لكنه سبب في إرهاق الزوج وإثقال كاهله بالديون، وربما كان سبباً في عزوف كثير من الشباب عن الزواج، والكل يعلم الآثار السلبية المترتبة على ذلك. 

وهذا سعيد يزوج ابنته على  درهمين فقط، ثم يقوم بتقديم هدية قوامها عشرون ألف درهم، تعين هذا الزوج الفقير على شؤون البيت الجديد. 

3 - إن تجسيد هذه القصة واقعاً، يتطلّب الإعداد الجيد له من خلال التربية للبنات على مبادئ الإسلام، فهذه ابنة سعيد إنما رضيت بهذا الزواج لما تربَّت تربية حسنة فكانت - كما وصفها زوجها - أحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعرفهم بحق الزوج. 

اللهم ارحم الله سعيداً وابنة سعيد وصهر سعيد، وارزقنا العلم النافع والعمل الصالح، آمين. 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply