قبل الغروب


 
 
بسم الله الرحمن الرحيم 

قبل الغروب، استيقظت من نومها متكاسلة..نظرت إلى الساعة: أوه، لم يبق على آذان المغرب سوى دقائق..قامت مسرعة، وتوضأت على عجل، وصلّت العصر، نقرتها كالعادة نقر الغراب.. وما إن فرغت منها حتى أُذن لصلاة المغرب!..

جلست قليلاً في مصلاها ثم قامت متثاقلة لتصلي صلاة المغرب نقراً كما فعلت بصلاة العصر..

وما إن فرغت منها حتى تنفست الصعداء وكأنها ألقت عن كاهلها حملاً ثقيلاً، وصدق الله ((وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين))..

 طوت سجادتها، ثم جلست تفكر ماذا تصنع.. آه، تذكرت، إنها اليوم مدعوّة إلى حفل عشاء تقيمه إحدى صويحباتها بمناسبة تخرج أخيها من إحدى الجامعات الغربية!..

انطلقت إلى غرفتها، لتستعرض كل ما لديها من ثياب وحلي و(إكسسوارات).. ثم وقفت أمام المرآة طويلاً لتختار التسريحة المناسبة، والألوان المتناسقة من أنواع المكياج والأصباغ، حتى إن بشرتها لتكاد تصرخ من الضيق، لكثرة الأصباغ التي أغلقت جل مسام وجهها!..

 وفي هذه الأثناء ارتفع صوت المؤذن منادياً لصلاة العشاء.. نظرت إلى الساعة.. أوه، ما أسرع الوقت، ثم قالت في نفسها: أصليها آخر الليل بعدما أعود..

 وحان وقت الخروج، فلبست عباءتها الناعمة المخصرة، ونقابها الواسع الذي اختارته بعناية، وامتطت سيارتها الفاخرة مع السائق الأجنبي، ترافقها أختها التوأم.. لقد كانت تتطلع إلى قضاء ليلة ممتعة صاخبة مع صويحباتها..

 وفي الطريق.. يا إلهي، ما الذي حدث.. طلبت من السائق أن يتوقف قليلاً ويتنحى جانباً.. ! سألتها أختها في دهشة: هل استجدّ أمر، أم أنك نسيتِ شيئاً في البيت؟!.. لكنها لم تجب.. وقد اغرورقت عيناها بالدموع، ووضعت يدها اليمنى على قلبها..

 سألتها أختها للمرة الثانية بصوت مرتفع: ما بالك يا أختاه، هل تحسين بشيء؟.. قالت بصوت ضعيف مرتعش ـ وقد ألقت برأسها على فخذ توأمها ـ: لا أدري، ولكني متعبة.. وصمتت برهة.. ثم قالت: إنني يا أختاه أخاف الموت.. هل سنموت حقاً؟.. هل سأفارقك وأدفن وحدي يا من شار كتيني الرحم وساعة الولادة..

 طلبت منها أختها أن تكف عن هذا الكلام.. فهي ما تزال في عز شبابها..

 وفجأة.. صرخت، وقالت: آه.. سأموت الآن، إني أرى ما لا ترين، إني سأبتعد عنك وأنا بجوارك، وسينخلع ثوبي من جسدي، وأنا التي لبسته للتو..

 فبكت أختها بكاءً هستيرياً، وباتت مشلولة الفكر.. مسلوبة الإرادة، لا تدري ماذا تصنع، وأقبل السائق مسرعاً ليستطلع الأمر، ويستفسر عن سبب البكاء، فلم يجد جواباً..

 وفي اللحظات الأخيرة، نظرت إلى توأمها نظرة مودع، وقالت بصوت متحشرج: أخيتي.. رغم عنجهيتي وتكبري عليك إلا أني أطلب منك طلباً.. فكما تعلمين أني مقصرة في صلاتي، متساهلة في أمر ديني، فأكثري لي من الدعاء عسى ربي أن يرحمني.. فشهقت شهقة، ودعت بعدها الحياة.. وصرخت أختها باكية: أخيتي، أخيتي.. لكن البكاء لا يغني شيئاً..

 وفي اليوم التالي، جيء بها وهي محمولة على الأكتاف لتوارى في بيتها الجديد، فلم تغرب شمس ذلك اليوم إلا وهي ـ وحدها ـ رهينة التراب.. قد فارقت الأهل والأحباب..

 وغابت الشمس (1).

 

ــــــــــــــ

(1) أصل هذه القصة كتبتها لي منذ زمن إحدى الأخوات من دولة البحرين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply