قصة واحدة من نجومنا الزاهرات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

امرأة تبدو ككل النساء وهي وراء النقاب، قد تبدو عادية مثل الملايين أو على الأقل عشرات الآلاف من النساء الملتزمات في مصر كما في غيرها من البلاد الإسلامية ولكن وراء هذه الملامح التي تبدو غير مميزة هناك قصة كفاح كبيرة لم تسلط عليها الأضواء ولم تتحدث بها ثرثرة سيدات النوادي ولا داعيات النسوية اللواتي يحولن أية سيدة أو فتاة إلى بطلة لا لشيء فيها بل على العكس، قد تكون فيها كل العيوب والمثالب التي ترفضها الإنسانية وهذا هو ما يجعلها في نظرهم تستحق التمجيد ربما على سبيل النكاية في الإسلام والمسلمين.

أما بطلة حكايتنا فهي تسير بين الناس بدون دعاية أو تفاخر أو تظاهر ولا تستوقف أحداً ولا تتحدث مع الإعلام لتحكي عن بطولاتها أو معاناتها وصبرها في وقت يتحدث فيه الكثيرون عن التفاهات والسيئات التي يعتبرونها أمجادا..هي تخفي في صدرها كل ما مرت به راضية صابرة محتسبة وتكاد تعتبره أمرا عادياً لا يستحق القيمة بينما هو في مقياس الإسلام كفاح عظيم وصبر على مكاره لو تعرض لها كثيرون لسقطوا في الاختبار.

إن كثيراً من الإسلاميين ممن يشار لهم بالبنان وتروى حكايات عن نضالهم وكفاحهم قد لا يكونون قد تعرضوا لمثل ما تعرضت له السيدة منى صالح.. إلا أنهم ما زالوا يتصدرون الصحف كأبطال وقد يكونوا يستحقون ذلك.. ولكن بطلة حكايتنا الحقيقية هذه تستحق أن نتوقف عندها كنموذج للمرأة المسلمة المحتسبة الصابرة في صمت وجمال لا تسأل الناس جزاءً ولا شكوراً وإنما تقوم بما تراه واجبها نحو زوجها وشريك حياتها ونحو أولادها.. فهي مشدودة للإسلام منذ صغرها، فالأب تاجر مشغول بعمله طوال الوقت ولديه الكثير من الأولاد والبنات والأم سيدة بسيطة لكنها شديدة التعلق بمنى لما تبديه من طاعة والتزام خلقي تجاه كل أفراد البيت الذي كان يعيش في مستوى اقتصادي فوق المتوسط.

وهي تواظب على الصلاة منذ صغرها ودون أن يأمرها أحد من البيت.. فالبعض قد يصلى والآخر لا يصلي.. ولكن عندما أصرت على ارتداء الحجاب الكامل وهي في سن السادسة عشر رفض الأب ذلك واعتبر هذا الزي نشازاً عن الإطار الاجتماعي لتلك الأسرة التي تكتفي نساؤها بغطاء الرأس فقط.. وبرفق وأدب استطاعت منى أن تلتزم بما أرادت واعتقدت أنه يقربها إلى الله.. وخصوصا أنها تتمتع بقدر كبير من الجمال.

وفي منتصف السبعينات كانت القاهرة تعج بشباب وفتيات الصحوة الإسلامية وشاءت إرادة الله أن تتزوج من أحد الشباب الذي كان يعمل مهندسا وكان أحد قيادات التيار الإسلامي في هذا الوقت.. تزوجته بعد انتهائها من دراستها الثانوية وقضت معه عدة شهور قليلة.. لكن لم يمهلها القدر.. فما لبث زوجها أن اعتقل في العام1981 بتهمة انتمائه لأحد التيارات الإسلامية.. وأبعد عن أسرته.. ووجدت العروس الصغيرة نفسها وحيدة بغير زوجها.. وحيل بينها وبينه لفترة طويلة.. إلا أنه كان يسمح لها بين الحين والحين أن تزوره وربما اختلى الزوج السجين بزوجته لدقائق كل شهور ليقدر الله بينهما ذرية رغم تلك الظروف.. والله غالب على أمره..

و تبدأ رحلة كفاح وصبر طويلة مدتها أربعة وعشرين عاما وزيادة.. فعندما التقيت بها أول مرة في منتصف الثمانينات لكي أكتب عن أحوال أسر المعتقلين والتقيت بالمئات من تلك الأسر كانت منى مختلفة عن الكثيرات.. قابلتني برضا وترحاب كأننا قد تعارفنا منذ سنوات فهي من الذين يألفون ويؤلفون.. جلسنا سويا نتناول طعاما بسيطا ومازلت أتذكر طعمه حتى الآن كأنه أشهى الأطعمة

[خبز وباذنجان].. صغارها الذين أنجبتهم من زوجها وهم أربعة أبناء معظمهم حولها تحنو عليهم وتبث فيهم معاني العزة وحب الإسلام.

كان زوجها قد بنى منزلا متواضعا في إحدى قرى الجيزة القريبة من جامعة القاهرة، وكان أهل زوجها يسكنون بعضاً من طوابق هذا المنزل.. كانوا لا يهتمون كثيرا بأحوالها وكيف تعيش وهي لا تطلب منهم مالا يطيقون.. وكذلك أبوها وأمها اللذان طلبا منها في بداية الأمر أن تترك زوجها، لكنها تمسكت به بل وجعلتهم يحبونه بعد ذلك ويقومون بزيارته ويساهمون معها في بعض نفقات الأولاد بقدر متواضع وراضية هي بأي عطاء ولا تطلبه مطلقا من أي أحد مهما كانت احتياجاتها، فهي منذ البداية وحتى الآن كيفت حالها على معاش متواضع تحصل عليه من نقابة المهندسين قد لا يكفي إطعام فرد واحد لكنه معها ومع قناعة أولادها يصبح كثيرا لأنني لم أرها طوال أكثر من عشرين عاما تتبرم من أية أوضاع مادية أو معنوية ولا تشكو مطلقا ضيق ذات اليد كما تفعل الكثيرات.

ويموت الأب الذي كان يشاركها رعاية أبنائها والسؤال عنهم، وتبقى لها الأم لتقوم بدور الأب ولكن لم يمهلها الأجل هي الأخرى ولقيت ربها تاركة منى تصارع الحياة وحدها بلا عائل وبلا مصدر للدخل تنفق منه على أبنائها.

ورغم أنه في البداية كان هناك رفقاء من الأسر المبتلاة بهذا الشأن يتزاورون مع بعضهم البعض.. لكنهم بعد سنوات قليلة انفض كل إلى حاله.. بل هناك كثير من الأهل والأصدقاء القدامى قد تجاهلوها حتى أقارب زوجها ضاقوا بها في المنزل الذي شيده زوجها وعندما دب خلاف بين نساء المنزل مع بعضهن البعض.. أثرت منى أن تسكن بأولادها في دار لجدتها كانت مهجورة ومكونة من حجرات بالطوب اللبن في إحدى الحواري الضيقة.

وقد تقبلت هذا الوضع برضا تام وهي التي تمتعت في بيت أبيها بحياة رغدة.. وهي في كل أحوالها تواظب دائما وبشكل أسبوعي أو كما يسمح لها بإعداد الطعام لزوجها وحمله مسافات طويلة من خلال الحافلات العامة، لا تخلف له موعدا ولا تعصي له أمراً، وتحرص على رضاه وتظهر له كل الود والاحترام.. بل قد تبث فيه السكينة والطمأنينة وترعى له الصغار الذين صاروا أمثلة نموذجية للشباب المسلم الملتزم دينيا وخلقيا.

ففي العائلة يقولون لها دائما إنه بالرغم من وجود الأزواج والمال لديهم إلا إنها أكثر حظا من الكثيرات منهم، فالأب والأم قد توفاهم الله وهم راضون عنها لحسن خلقها مع الجميع وكذلك زوجها راض عنها... فأي سعادة هذه.. !

أما الأولاد فيختلفون كثيرا عن شباب هذا الجيل.. فعبد الرحمن قد أتم حفظ القرآن الكريم منذ الصغر وهو حريص على القراءة والاطلاع الديني بعمق وتخرج في كلية الشريعة والقانون ويواصل دراساته العليا.. أما سارة فهي الأخرى أتمت حفظ القرآن الكريم وتحتل المركز الأول بامتياز في كلية الدراسات الإسلامية.. وعبد الله ومنة الله ما زالا في مراحل التعليم العام.. وجميعهم قائمون على طاعة والديهم.. وفضل من الله ورحمة بأن لديهم قناعة ورضا رغم أنهم لا يمارسون أي من الرفاهية التي يغرق فيها شباب هذا الجيل.

ومن المفارقات التي لا أنساها في معرض حديثي عن منى صالح أنها قد زفت لي يوما خبرا حكت لي عنه وهي في قمة السعادة والسرور لأنها على حد قولها سارت مع زوجها يدها في يده في الشارع ولمدة عشر دقائق بدءا من باب المستشفى وحتى حجرة كشف طبيب الأسنان[حيث جاء من السجن إلى المستشفى].. هكذا الأشياء البسيطة والقناعة تملأ حياتها على مدى خمسة وعشرين عاما لم تكل فيها ولم تمل وتسير وحيدة في دربها لا تلتفت لشيء إلا رضا ربها ورعاية زوجها وأولادها متحملة مالا يطيقه كثير من البشر.. وفي حياة منى وشخصيتها تفاصيل كثيرة متفردة ولا تسع السطور القليلة لذكرها.. لكنها دائما تستحق بجدارة أن تكون إحدى نجماتنا الزاهرات.

وفي هذه الأيام، يستعد زوجها للخروج من معتقله لكي يرى أبناءه وقد رعاهم الله ورباهم على عينه ويتسلم منها المهمة وقد أدتها على خير ما يكون.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply