هل مشكلتنا في عدم إجادة الإنكليزية فقط ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ليس أشد إيلاماً للنفس من منظر طفل محروم من الطفولة. تحفل ذاكرتي بصور عديدة أغلبها مفرط في البؤس وأقلّها ما ينعش النفس. من النوع الأخير تلك الفتاة الأفغانية ذات الثلاثة عشر ربيعاً والتي رأتني واقفةً على باب المستشفى بمعطفي الطبي الأبيض فعرضت علي شراء اللبان منها وتوسلت إلي قائلةً: أنتَ حمار يا دكتور. ولما نظرت إليها بدهشة وعلى وجهي ابتسامة، تنبهت إلى خطئها وقالت: أنتَ رحيم يا دكتور. وفرق كبير بين الكلمتين رغم أن الحروف متشابهة!

 

من الصور البائسة والموغلة في أعماق الذاكرة ما يعود إلى عمري عندما كنت بسنّ صديقتي الفتاة الأفغانية، وهي صورة طفل يحمل على كتفه كيساً ثقيلاً ينوء به. كان وجهه قد اكتسى بتجاعيد كهولة مبكرة كأن ماء الحياة كاد ينضب من جداوله، ولم أستطع منع نفسي من التساؤل: لماذا كُتب على هذا الطفل تلك المعاناة، ولماذا لا يستمتع بطفولته كباقي الأطفال؟ لم أجد جواباً لتساؤلي الذي لم أُشغِل به أحدا آنذاكº وبعد ثلاث سنوات طرق باب منزلنا طفل كرديّ يطلب الصدقة. كانت أمارات البؤس ترتسم على وجهه، وأخبرني أنه أكبر إخوته وقد توفي أبوه أثناء الحرب التي أصابت أمه بالشلل أيضاً، فأعطيته حقّه من مالي القليل وأنا لا أجد جواباً لتساؤل آخر: لماذا اخترع الإنسان الحرب إذا كانت لا تحمل إلا الدمار لأخيه الإنسان؟

 

دخلت كلية الطب بعد ذلك بثلاثة أعوام، واصطحبتني صديقتي التي تكبرني بأربع سنوات إلى مستشفى الأطفال حيث كان عليها أن تتابع حالة طفل مريض. هناك رأيت الأطفال المصابين بالشيخوخة لكنها شيخوخة جسدية وليست نفسية كالطفلين السابقين، وهي حالة ينعدم فيها النسيج الشحمي تحت الجلد فيبدو منظر الطفل كالشيخ. كان أولئك الأطفال يستطيعون الابتسام رغم مرضهمº أما الطفل الذي لم يكن قادراً على الابتسام ولا يتمكن من النوم فقد كان مصاباً بالتهاب السحايا، فما إن يضع رأسه على سريره من شدة النعاس حتى يرفعه مكرَهاً بسبب ارتفاع ضغط السائل الدماغي الشوكي في جمجمته نتيجة الاستلقاء. يومها أدركت أن النوم نعمة كبيرة، وهذه المرة وجدت إجابةً وليس كالمرتين السابقتين أعلاه- على سؤال طالما طرحته على نفسي وهو أي فرع من فروع الطب يناسبني، وعلمت أنه لن يكون طب الأطفال بأية حال.

 

أقلّب أوراق صحيفة الوطن.. صورة لطفل جَلده معلم الفصل 50 جلدة، وطفل آخر أبوه لا يعرف أسلوباً للحوار إلا الهراوة، وإحصائية حديثة للأمم المتحدة أن عدد الأطفال الذين يعيشون في فقر مدقع يبلغ 650 مليون طفل، وأكثر من 250 مليون طفل يعملون في أعمال خطرة، و300 ألف طفل يحملون السلاح في الحروب.

 

أتصفح المطبوعات الأخرى.. صور لأطفال فلسطين وراء الأسلاك الشائكة. في عيون كثيرة ثمة شكّ بوجود شيء اسمه المستقبل، وفي عيون أخرى خوف من الهمج المدججين بالسلاح. في بعض العيون دموع حزن على قريب عزيز قد يكون أحد الوالدين وفي بعضها الآخر ترتسم سعادة حل الواجبات رغم أن الكراسي ليست إلا أكوام منزل متهدم. ماذا عن الصور الآتية من العراق؟

 

هذه صورة أطفال يشمون التانرº يضعونه في أكياس ويستنشقونه فيختلط بحويصلات الرئة ويسبب مرضاً غير قابل للشفاء وقد يتحول إلى المرض الخبيث. ليس لي خبرة بدور التانر في الدهان، هل ليسهل استخدامه أو ليعطيه اللمعان المطلوب، لكن لي خبرة بالإدمان فهو أسوأ دمار للحياة. كيف لو كان الإدمان على مادة مسرطنة كالتانر؟ ثم كيف إذا كان المدمن طفلاً؟

 

أطفال قتل آباؤهم وهدمت منازلهم وتشردوا في الشوارع.. لا أحد يؤويهم من متاهة الزمان ودمار المكان. هذه نتيجة الحروب.. يُتم وجوع وتشرد. لكن أن تصل الأمور إلى حد الإدمان على التانر فهذا مؤلم جداً، ومع ذلك هو ألم نسبي إذا قورن بالصورة التي وصلتني عبر البريد الالكتروني من ثلاثة مصادر في نفس اليومº كان أحدها مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) وهي أكبر منظمات الحقوق المدنية المسلمة الأمريكية، وفي الرسالة تطالب كير البنتاجون بإجراء تحقيق فوري في حقيقة صورة يتم تداولها على شبكة الإنترنت، يسخر فيها جندي أمريكي من طفل عراقي. وتصوِّر الصورة جندي أمريكي يشير بإبهامه بعلامة الفخر يقف بجوار طفلين عراقيين يحمل أحدهما لوحةً مكتوبةً بخط اليد تقول باللغة الإنجليزية \"لقد قتل الجندي واسم الجندي الأمريكي مكتوب- والدي واغتصب أختي\".

 

الجندي الأمريكي يبتسم ويرفع إبهامه مفتخرا بجريمته، والطفل يحمل اللوحة دون أن يفهم معناها، وهو يبتسم أيضا ويرفع إبهامه. لا أستطيع وصف مشاعري عندما رأيت الصورة، هل هي حالة من ذهول العقل أم غصة في القلب أم دوامة من اليأس؟ الطفل بعمر يقارب الثانية عشرة أي أنه بمقاييس أعمار الأطفال ينبغي أن يدرك ما حصل. هل الجندي الأمريكي قتل أباه حقاً؟ إذا كان لا يعلم أنه يقف بجانب قاتل أبيه أفلا يعرف أن أباه قد قُتل على أيدي الجنود الأمريكيين؟ فكيف يقف مع أحدهم مبتسماً وينفذ له طلبه بحمل اللوحة دون أن يدري ما كُتب فيها؟

 

يدل شكل الجندي الأمريكي وتصرفه على ثقافته الهمجية وبلادة إحساسه وانعدام إنسانيته. ولا عجب، فأمريكا بلد بلا تاريخ وثقافتها تعتمد على العنف إلى حد كبير وحضارتها مبنية على جماجم الهنود الحمر، وجنتها التي تَعِد بديموقراطية وارفة الظلال لا يعرفها إلا من عاش بأمريكا في أحياء السود حيث يُعتبَرون والقمامة شيئاً واحداً.

 

لن أطيل في عزف ألحان اللوم لأمريكا فأتيحَ الفرصة لبعض بني يعرب كي يطربوا بكلماتي، وهم أولئك الذين يناصبون أمريكا العداء ليس من أجل أن تحيا الشعوب، بل من أجل أن تحيا بذلّ، كالذل الذي عاشه الشعب العراقي في زمن المجرم صدام، فالصورة تثير استفساراً حول الثقافة التي أتى منها هذا الطفل العراقي. قبل أن نسأل: لماذا يستغل هذا الجندي الأمريكي ذلك الطفل العراقي ويسخر منه، يجب أن نسأل: ما السبب الذي جعل هذا الطفل يخضع للاستغلال؟ ولماذا انعدمت في هذا الطفل ردات الفعل تجاه من قتل أبيه واغتصب أخته؟ هو طفل فوق سن العاشرة بالتأكيد أي تجاوز سن التمييز، فلماذا يقف إلى جانب عدوه وقاتل أبيه كصديق له؟

 

أحد التعليقات التي وردت مرافقةً للصورة من مصدر آخر تقول: وماذا كنتم تتوقعون غير هذا؟ أعتقد أن المقصود بكلمة (تتوقعون) هو توقع أن الأمريكي سيفعل هذا أي سيقتل ويغتصب، لكن هل كان المتوقع أن ينعدم رد الفعل الغريزي لدى طفل مميِّز تجاه جندي أمريكي قاتل لأبيه؟ هل المتوقع أن تكون فطرة القصاص معدومةً في الإنسان حتى لو كان طفلاً؟ الله هو القائل: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) فالنفس المثلومة بقتل عزيز لا تشفى جراحها إلا بقتل القاتل، هذه هي الطبيعة البشرية اللهم إلا من عفا وسامح. كيف إذا كان المقتول هو الأب؟ وما بال هذا الطفل العراقي يقف مبتسماً إلى جانب القاتل أو شبيه القاتل على فرض أنه لا يعرف أي الجنود الأمريكيين قد قتل أبيه؟

 

كان على (كير) أن تطلب إرسال محلل نفسي مع المحقق الدولي، فكلاهما يعملان على أرضية متشابهة، وكلاهما يقع عليه حل جزء من لغز الصورة المفرطة في البشاعة. لا أقترح وجود المحلل النفسي ليعرف دوافع الجندي الأمريكي للقتل فهي معروفة، ولا ليتحرى أسباب تباهيه بجريمته أو استغلال الطفل والسخرية منه فهي مفهومة. أريد المحلل النفسي ليفسر لي سبب امتثال الطفل لقاتل أبيه والابتسام ورفع الإبهام. هل السبب هو تساوي الحق والباطل لدى هذا الطفل؟ أم أن السبب هو تفضيله الشر على الخير؟ لا يبدو الطفل شريراً فهل كان يكره أباه فوجد في هذا الجندي محرّراً له من سطوته كما وجد أغلبية الشعب العراقي في الجنود الأمريكيين محرّرين لهم من بطش صدام؟! ثقافة الطفل التي تدل عليها الصورة هي ثقافة التربية على الخضوع والخنوع والذل كما هي ثقافتنا في معظم بلادنا العربية!

 

ذكرتني هذه الصورة بحادثة أخرى كان فيها ابتسامة تأنف منها الفطرة السليمة. كنت أمارس عملي كطبيبة مقيمة في طب النساء، فاستدعيت للقيام بعملية كحتٍ, للرحم بعد إجهاض. قرأت ملف المريضة فإذا هو لفتاة تم اغتصابها من قبل أخيها. سألت امرأةً تقف إلى جانب سرير الكشف عن قرابتها للفتاة فردت بابتسامة بلهاء: أنا أمها. لم أجد معنىً لابتسامتها إلا معنىً واحداً هو أن اغتصاب الأخ لأخته أمر عادي بالنسبة لهاº فهل اغتصاب صدام لحرية شعبه وقتله لكرامته هو سبب تقبل هذا الطفل لقاتل أبيه ومغتصب أخته؟ وهل ندرك مغزى الصورة الحقيقي وأنه مطابق لقول بنجامين فرانكلين: إن الذين يتنازلون عن حرياتهم الأساسية من أجل قليل من السلامة المؤقتة لا يستحقون الحرية ولا السلامة؟!

 

هل أجبت على سؤال المصدر الثالث للصورة والذي كان صحيفةً عربيةً علّقت بما يلي: ترى هل مشكلتنا في عدم إجادة الإنكليزية فقط؟!

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply