خطورة الشائعات


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الشائعات إما أن تكون موجهة ضد شخص، أو أسرة، أو مجتمع، أو أمة بأسرها. وقد تكون هذه الشائعات مختلقة مكذوبة، أو مبالغاً فيها، بحيث يُجعل من الحبة قُبَّة، ومن الصغير كبيراً، ومن الحقير خطيراً. أو تكون صحيحة واقعة، لكن في نشرها وتداولها مفسدة وضرر، وإساءة وأذية، إما لصاحبها، أو لأسرته، أو للمجتمع المسلم بأكمله.

 

ولا يكاد يخلو مجتمع من هذه الشائعات السيئة التي يتلقفها ويتداولها، أو يختلقها ويروجها أناس فارغون ييحثون عما يشغلون به أوقاتهم ولو كان في طياته ضرر عليهم وعلى غيرهم، أو مغرضون مفسدون ينفثون من خلالها أحقادهم، وينشرون مكرهم ومكايدهم، ويتخذونها سلاحاً لمحاربة خصومهم والإضرار بهم.

 

وهذه الشائعات السيئة، كلها محرمة مذمومة، وصاحبها مأزور غير مشكورº لأنها إن كانت مكذوبة مُزوَّرة، فإن الكذب حرام مُجمع على تحريمه، بل هو من أكبر الكبائر وأشد الموبقات. وهو آفة قاتلة ما انتشرت في مجتمع إلا قوضت دعائم استقراره، وهدَّمت أركان أمنه، ونزعت الثقة بين أفراده، فإن الكذب حين يروج بين العامة، ويذاع في المجتمع، يتفاقم ضرره، ويتعاظم خطره، ويهلك بسببه كثير من الخلق، ولهذا كان جزاء صاحبه عظيماً، وعقابه شديداً أليماً.

 

ففي الحديث المتفق عليه في رؤياً طويلة رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها أنه قال: \"فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى\" ثم قال في آخر الحديث: \"وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق، فيُصنع به هكذا إلى يوم القيامة\".

 

والنصوص في تحريم الكذب، وأنه يهدي إلى الفجور، ثم إلى النار، وأنه ليس من خصال المؤمن الصادق، بل هو من أظهر علامات الدعي المنافق، كثيرة مشهورة.

 

وناقل الكذب والمروج له، سواء علم أنه كذب أو أذاعه من دون تثبت ولا تمحيص، هو أحد الكاذبين، لأنه معين على الشر والعدوان، ناشر للإثم والظلم، ولذلك قال ربنا - عز وجل - ناصحاً لعباده ومحذراً لهم: }يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأٍ, فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهَالَةٍ, فَتُصبِحُوا عَلَى مَا فَعَلتُم نَادِمِينَ{(الحجرات: 6). وإذا كان هذا هو الواجب في خبر المؤمن الفاسق، فكيف بخبر الكافر المحارب، أو المنافق الحاقد، أو الخبر الذي لا يعلم مصدره؟! فليس كل ما يقال صحيحاً، وليس كل ما يعلم يقال، وليس كل ما يُسمع يذاع. ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \" كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع\" (رواه مسلم).

وصح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: \"بئس مطية الرجل: زعموا\" رواه أبو داود وغيره.

وأما إن كانت الشائعة صحيحة واقعة، لكن في إذاعتها مفسدة وأذى، فإن ذلك محرم أيضاً، وليس ذنب ـ بعد الشرك ـ أعظم تحريماً، وأسوأ عاقبة، وأعجل عقوبة من أذية المسلم والإضرار به، والاستطالة في عرضه، وتتبع عوراته.

 

عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته\" حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وأحمد.

 

ويزداد الأمر شناعة وسوءًا، إذا كان في نشر هذه الواقعة إشاعة للفاحشة، وتحريض عليها، وتهوين لشأنها في النفوس، قال الله - تعالى - متوعداً من يفعل ذلك: }إِنَّ الَّذِينَ يُحِبٌّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدٌّنيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمُونَ{(النور: 19).

وإذا كان مجرد الرضا بشيوع الفاحشة بين المؤمنين، والمحبة لذلك موجباً للعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فكيف بمن يخوض فيها، ويعمل على نشرها، وإذاعة أخبارها؟!

 

ذلك أن تداول هذه الأخبار، ولو كانت صحيحة، يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفاحشة أن جوّ الجماعة كلَّه ملوَّث، وأن الفاحشة فيه ذائعةº فيحرضه ذلك على فعلها بعد أن كان متحرجاً منها، وتهون في حسه بشاعتها وشناعتها بكثرة تردادها وترويج أخبارها، وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها، فتصبح الجماعة وتمسي، وهي تتنفس في ذلك الجو الآسن الموحي بارتكاب الفحشاء والمنكر. وهذا إحدى الحكم التي شُرع من أجلها الستر على المسلم، وأن من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة. ومن هنا تتبين خطورة هذه الشائعات وسوء عواقبها.

 

ومن هذه الشائعات الكاذبة المغرضة: ما حصل لبيت النبوة الكريم من رمي أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بالزنا، وهي منه براء، حيث اتهمها أهل النفاق بذلك، ورموها بهذا الإفك العظيم، وصدَّقهم وروَّج إشاعتهم بعض ضعاف الإيمان من المسلمين، وذلك لضعف بصيرتهم، وقلة توفيقهم، وسوء حظهم. وأصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته والمؤمنين من ذلك بلاء عظيم.

 

وبعد أن برَّأ الله - تعالى - عائشة - رضي الله عنها - بقرآن لا يزال يتلى إلى يوم القيامة، بيّن - سبحانه وتعالى - في تضاعيف هذه القصة المنهج الذي يجب أن يسلكه المسلم تجاه هذه الشائعات المغرضة الظالمة، فقال - سبحانه -: {لَولا إِذ سَمِعتُمُوهُ ظَنَّ المُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بِأَنفُسِهِم خَيراً وَقَالُوا هَذَا إِفكٌ مُبِينٌ} (النور: 12). ثم حذر من تلقي هذه الشائعات والترويج لها، والاستهانة بشأنها، فقال: {إِذ تَلَقَّونَهُ بِأَلسِنَتِكُم وَتَقُولُونَ بِأَفوَاهِكُم مَا لَيسَ لَكُم بِهِ عِلمٌ وَتَحسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ* وَلَولا إِذ سَمِعتُمُوهُ قُلتُم مَا يَكُونُ لَنَا أَن نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبحَانَكَ هَذَا بُهتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ} (النور: 15 ـ 18).

 

 وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب\".

 

ومن الشائعات الخطيرة التي تكثر أوقات الأزمات والفتن: شائعات الإرجاف والتثبيط، التي يراد بها توهين عزائم المؤمنين، وتثبيط هممهم، والفتٌّ في أعضادهم، والإرجاف بهم، وبث الرعب في نفوسهم، وإضعاف قوتهم، والتشكيك في قدرتهم على المواجهة والمصابرة، وتعظيم قوة الأعداء في أعينهم، وتفخيم شأنهم، وتهويل قدراتهم، وأنه لا طاقة لهم بمحاربتهم، ولا قِبَل لهم بهم، وأنه لا سبيل لهم إلا مداهنة هؤلاء الأعداء، والركوع لهم، والسير في ركابهم، والسكوت عن ظلمهم وابتزازهم.

 

وقد بيَّن الله - تعالى -أن هذا هو ديدن المنافقين في المواجهات التي تقع بين المؤمنين والكافرين، وتوعدهم على ذلك بالعذاب الشديد، وحذَّر المؤمنين من السماع لهم وتصديقهم، وإشاعة تخويفاتهم وأراجيفهم، فقال - سبحانه -: { لَئِن لَم يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ وَالمُرجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغرِيَنَّكَ بِهِم ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلعُونِينَ أَينَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقتِيلاً} (الأحزاب: 60ـ 61).

 

والمرجفون: هم الذين ينشرون الشائعات الكاذبة التي يقصد بها تخذيل المؤمنين، وتخويفهم من أعدائهم، وقد لعنهم الله وتوعدهم بأن يسلط عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيستأصل شأفتهم ويقطع دابرهم.

 

وقال - عز وجل - كاشفاً حقيقة هؤلاء المنافقين وأثرهم في الإرجاف والتخويف، والتعويق والتخذيل، ونشر الفتنة بين المؤمنين: {قَد يَعلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُم وَالقَائِلِينَ لِإِخوَانِهِم هَلُمَّ إِلَينَا وَلا يَأتُونَ البَأسَ إِلَّا قَلِيلاً} (الأحزاب: 18). وقال: {لَو خَرَجُوا فِيكُم مَا زَادُوكُم إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوضَعُوا خِلالَكُم يَبغُونَكُمُ الفِتنَةَ وَفِيكُم سَمَّاعُونَ لَهُم}(التوبة: 47).

 

فبين أن وجودهم في صف المؤمنين لا يزيدهم إلا شراً وفساداً، وضعفاً وهواناً، وفتنة وفرقة. ويعظم البلاء حين يكون في المسلمين جهلة بسطاء، يسمعون لهؤلاء المنافقين المفتونين، فيتأثرون بإشاعاتهم، ويصبحون أبواقاً لهم، وببغاوات يرددون أراجيفهم، وينشرون فتنتهم، فيتولد من سعي أولئك المنافقين، وقبول هؤلاء الساذجين، من الشر والبلاء وتوهين عزائم المؤمنين وإرعابهم ما هو من أعظم البلاء على أمتهم، وأكبر المدد لأعدائهم.

وقد أرشدنا الله - تعالى - إلى ما يجب علينا تجاه هذه الشائعات التي تخل بالأمن، وتجلب الوهن، وتحقق مراد الأعداء في تركيع المؤمنين واستضعافهم، وكسر شوكتهم، وتيئيسهم وتبئيسهم، وقتل روح المقاومة في نفوسهم، فقال - سبحانه -: {وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدٌّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم}(النساء: 83).

فأنكر الله - تعالى -عليهم خوضهم في الأمور العامة المتعلقة بالأمن والخوف، وتعجلهم بنشر أخبارها، قبل أن يتبينوا حقيقتها، ويتأكدوا من ثبوتها وصحتها، ويتأملوا في آثارها وعواقبها، ثم حثهم على رد الأمر إلى أولي الأمر من العلماء الراسخين، أهل الرأي والرزانة، وبعد النظر وسعة الأفق، فهم بحسب فقههم بالشرع ومعرفتهم بالواقع أقدر على إدراك الحقائق، والنظر في عواقب الأمور ومآلاتها، وما ينبغي نشره وإعلانه، وما يحسن السكوت عنه وكتمانه.

والإنسان لا يخسر بالسكوت شيئاً، كما يخسر حين يخوض فيما لا يحسنه، أو يتدخل فيما لا يعنيه، والسلامة لا يعدلها شيء، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت\" رواه البخاري ومسلم.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply