القادة الجدد .. فن تحويل القيادة الإدارية إلى علم نتائج


 

بسم الله الرحمن الرحيم

إذا كان العالم الإسلامي قد تخلى منذ زمن بعيد عن قيادته للبشريةº فإن ذلك يعني الحقيقة المؤلمة وهي أنه غير مؤهل للقيادة، لكنه أصبح ـ فقط ـ مؤهلاً للتبعية، فقد تجاوزه الغرب بمراحل كبيرة وازدادت الفجوة عمقًا بينه وبين العالم المتقدمº لأن الغرب منذ أراد أن يتقدم أخذ ينظر ويتجه بل ويقفز إلى الأمام بسرعات مذهلة، أما نحن فلا زلنا نقف في مكاننا، ننظر تحت أرجلنا، وربما ننظر إلى الخلف!!

وإذا كان هذا الملف يعني الاهتمام بأزمة القيادة في العمل الإسلامي، فلا بد إذن أن يسلط الضوء على تطور الفكر القيادي والإداري في العالم الغربي، هذا الفكر الذي يستأهل النظر فيه بعمق، باعتباره نموذجًا إيجابيًا حيًا في الكثير من جوانبه، بلغ مبلغًا كبيراً في مسيرة الحضارة القائمة.

ويعتبر الكتاب الذي بين أيدينا نموذجًا شيقًا متميزًا في هذا الجانب من الفكر الغربي يستحق الدراسة والاستفادة منه، وقد قال المفكر الألماني المسلم [مراد هوفمان]: \'دعونا لا نرفض الحضارة الغربية من الألف إلى الياء، فهناك الكثير الذي يمكن أن نتبناه منها، ولكن أستحلفكم بالله.. دعونا نأخذ منها أفضل ما فيها\'.

وتأتي أهمية هذا الكتاب في ثلاثة جوانب:

1 ـ حداثة الكتاب: إنه يمثل أحدث ما وصل إليه الفكر الإداري والقيادي من أبحاث وتجارب حية في عالم يهتم بهذا النوع من الفكرº فالكتاب لم تمر عليه السنة إلا ورأيناه مترجماً إلى العربية، الأمر الذي يقلص الفارق الفكري بين المستفيدين منه بلغته الأصلية والمطلعين على ترجمته العربية.

2 ـ حيوية الموضوع: فقد تم تأليف هذا الكتاب بسبب ردود الأفعال المتحمسة والضخمة من القراء، والتي لم يسبق لها مثيل، حول مقالات [دانيال جولمان] ـ أحد مؤلفي الكتاب الثلاثة ـ في مجلة \'هارفارد بيزنس ريفيو\' وقد تجاوز هذا الكتاب هذين المقالين بشكل كبير ليقدم مفهومًا جديدًا عن فكر القادة الجدد. وهذا يعني توافر الحيوية والاتصال بين مؤلفي الكتاب والقراء، بالإضافة إلى ما يشير إليه هذا الاهتمام من أثر الفكر القيادي والإداري في حياة الغربيين، واستفادتهم بكل ما يكتب في هذا المجال.

بالإضافة إلى ذلك فإن المؤلفين أصحاب تجارب حية في هذا المجال. فليست كتابتهم في هذا الموضوع تشبه كتابات الأكاديميين في الشرق التي كثيراً ما تتسم بالبرودة وعدم التفاعل مع الواقع المعاش، ومحاولة تنميته.

3 ـ حاجة الأمة: فأزمة القيادة التي يعيشها العالم الثالث عمومًا وعالمنا الإسلامي على وجه الخصوص تمثل حجر عثرة في وجه التنمية بكافة أنواعها: بشرية كانت أو مادية، ومن هنا وجب الالتفات إلى مثل هذه الأبحاث لنشر قيم التقدم المختلفة، والتي لا تتعارض مع ثوابت الأمة ومبادئ الإسلام.

ماذا يريد الكتاب:

إن هذا الكتاب الذي اتخذ عنوان [القادة الجدد.. تحويل فن القيادة الإدارية إلى علم نتائج]، والذي يتكون من أحد عشر فصلاً مركزاً، استغرقت فصوله أكثر من 350 صفحة، يعتبر وجبة دسمة جدًا، قدمها ثلاثة من المتخصصين في مجال القيادة الإدارية في جامعات الغرب.

والكتاب [مجملا] يحاول الإجابة على عدد من التساؤلات المهمة مثل:

ـ ما الذي يعطي القائد القوة الداخلية ليكون صادقًا وأمينًا حتى فيما يتعلق بالحقائق المؤلمة؟

ـ ما الذي يمكن القائد من حث ودفع الآخرين ليقدموا أفضل ما لديهم وليظل لديهم الولاء للمنظمة عندما تعرض عليهم وظائف أخرى؟

ـ كيف يمكن للقادة أن يوفروا جوًا عاطفيًا يمكن من خلق ورعاية الإبداع والإنجاز الذي يستخدم كل الطاقات في المنظمة، أو بناء علاقات حميمة ودائمة مع العملاء؟

من هم القادة، وما هي وظيفتهم:

يرى الكتاب أنه يوجد في الحياة العديد من القيادات وليس ثمة قيادة واحدةº فالقيادة موزعة بين الأفراد وهي ليست حكراً على الفرد الذي يتربع على القمة في المنظمة أو الشركة، ولكنها كامنة في أي فرد وعلى أي مستوى لأولئك الذين يتصرفون كقادة لتابعيهم، ومهما يكن موقع هذا الشخص في المنظمة، سواء كان موظفًا بمتجر، أو رئيس مجلس إدارة فإن هذا الكتاب يقدم هذه الرؤية العميقة للقادة أينما كانوا.

ويفترض الكتاب أن المهمة الأساسية للقادة هي شحن الأحاسيس الطيبة في نفوس أولئك الذين يقودونهم، وذلك عندما يخلق القائد شكلاً من أشكال الرنين ـ والذي هو عبارة عن مخزون من الإيجابية تؤدي إلى تحرير كل ما هو خير في الناس ـ وبالتالي فإن جذور وظيفة القيادة هي في أساسها عاطفية.

وبالتالي فإن تعلم اكتساب مهارات القيادة هذه ستكون ممارسة يومية، وستكون المنظمة ككل مكانًا يزدهر فيها الأفراد الذين يعملون معًا.

وفي أحيان كثيرة عندما نعمل مع قادة لمساعدتهم على تكريس مدى أكبر أو أعمق فيما يتعلق بكفاءات الذكاء العاطفيº فإن هؤلاء القادة يقرون بأن المقابل الذي يحصلون عليه يتجاوز دورهم كقادة ليؤثر في حياتهم الخاصة والأسرية، حيث يجدون أنفسهم يتصرفون في بيوتهم من خلال مستويات عالية من الوعي والتفاهم العاطفي والانضباط والعلاقات المتناغمة والمتناسقة.

الذكاء العاطفي وأثره:

ويذهب المؤلفون إلى أن المهمة العاطفية للقائد تعتبر مهمة أساسية ـ بما يعني أنها تمثل العمل الأصلي، وكذلك العمل الأكثر أهمية في القيادة. \'فقد لعب القادة دومًا دوراً عاطفيًا أساسيًا ـ ولا ريب أن قادة البشرية تبوءوا مناصبهم إلى حد كبير بسبب أن قيادتهم كانت ملزمة عاطفيًا، فعبر التاريخ، وفي الثقافات في كل مكان، كان القائد في أي مجموعة بشرية هو الشخص الذي يرجع إليه الآخرون بحثاً عن الطمأنينة [طمأنينة النفس]، والوضوح [وضوح الرؤية] عندما يواجهون عدم تأكد أو تهديد، أو عندما يكون هناك عمل يجب القيام به، فالقائد يعمل بمثابة الدليل العاطفي للجامعة.

أنواع القادة:

في أحد فصول الكتاب وعنوانه [القيادة المتناغمة]، يؤكد الكتاب على أن من علامات القيادة المتناغمة وجود مجموعة من الأفراد الذين يهتزون مع تفاءل القائد وطاقته الحماسية. ومدى نجاح القادة يكمن في إدارة تلك المشاعر وتوجيهها لمساعدة المجموعة لبلوغ أهدافها يعتمد على مستواهم من الذكاء العاطفي، فالتناغم يأتي بشكل طبيعي للقادة الأذكياء عاطفيًا فانفعالاتهم وطاقاتهم الحماسية تجد صداها بين صفوف المجموعة.

ويقول أحد القادة في مجال الأعمال معبراً عن رؤيته التنظيمية: \'نحن نتحرك برشاقة إلى داخل مستقبل معقد، نقود صناعتنا ونحن نطمح إلى آفاق جيدة، قادتنا يبحثون عن فرص عند كل منعطف، ومدراؤنا ينسفون روح المنافسة، ونستمتع بتحقيق رضا عملائنا\'.

ومن جانب آخر إذا ما افتقر القائد للرنين [التناغم]، فإن الأفراد قد يتحركون في مكان عملهم في حدود إنجاز العمل، ولكنهم لا يبذلون ما في وسعهم فبدون جرعة صحية للقلب، فإن القائد المفترض قد يكون قادراً على الإدارة، لكنه لا يقود.

وقد استعرض الكتاب شكلين من أشكال القيادة الأخرى غير المتناغمة: وهما القيادة المتنافرة، والقيادة الديماجوجية.

القيادة المتنافرة:

هناك أعداد لا تحصى من القادة المتنافرين، الذين لا ينقصهم التقمص العاطفي فحسب [ولذلك فهم غير منسجمين مع المجموعة] بل ويشيعون أمزجة عاطفية تدلي في غالب الأحيان بسجل سلبي، ولقد وجدنا أن أغلب هؤلاء القادة لا يقصدون أن يكونوا بهذا التنافر، بل إنهم فقط يفتقرون إلى قدرات الذكاء العاطفي الضرورية التي من شأنها أن تساعدهم على التناغم.

وقد يبدو القادة المتنافرون أحيانا فعالين على المدى القصير فقد يحصلون على ترقية مرغوبة ـ مثلاً ـ وذلك بالتركيز على إرضاء رب العمل ـ لكن السمية التي يتركونها وراءهم تتناقض مع نجاحهم الظاهري، وحيثما ذهبوا في تنظيم ما فإن إرث توليتهم منصبًا كثيراً ما يترك أثراً ينم عن الإحباط واللامبالاة، والغضب والرفض. وبإيجاز فإن القادة المتنافرين هم الرؤساء الذين يخاف الناس العمل تحت إمرتهم.

الديماجوجي:

وهذا النوع من القادة يندر وجوده في مجال الأعمال، في حين تبدو السياسة بيئة ملائمة له.

ومقارنةً بالقادة المتناغمين فإن الديماجوجيين ينشرون رسائل عاطفية مختلفة جداً، بعضها يبين العواطف السلبية خاصة، مزيجاً من الخوف والغضب: تهديدهم لنا، والخوف من إنهم سيستولون على ما عندنا، فرسالاتهم تستقطب الشعوب بدلاً من أن توحدها لقضية مشتركة ـ قادة كهؤلاء يشيدون قاعدة تصرفاتهم وأفعالهم على إيقاع رنين سلبي، أي على عواطف البقاء حسب المبدأ المزعج: إما القتال أو الفرار، والتي تتدفق عبر المخ عندما يحس الناس بأنهم مهددون أو ساخطون، فالزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش ـ مثلاً ـ كان بارعًا في إلهاب حماس الحقد العرقي، إذ وحد أتباعه خلف راية الرفض والخوف والغضب مما أضر بشخصه وبشعبه.

إن الديماجوجيين عبر التاريخ، قد استخدموا قدراتهم على هذا النوع من التحريك العاطفي لغايات بائسة، لقد حشد [هتلريو] العالم وطغاته الجماهير الغاضبة حول قضية [رسالة] محركة للمشاعر، ولكنها مدمرة، وهنا يكمن الفرق الجوهري بين التناغم والديماجوجية.

أنماط ومهارات القادة:

وبدقة شديدة يحاول المؤلفون تحديد أنماط ومهارات القيادة، مؤكدين على أن التجاوب لا ينبع فقط من الأمزجة الجيدة للقادة أو قدرتهم على قول الشيء الصحيح، بل ينبع أيضًا من مجموعة كاملة من الأنشطة المنسقة التي تتضمن أنماطًا قيادية خاصة، وعادة فإن أفضل القادة وأكثرهم فاعلية يتصرفون وفقًا لواحدة أو أكثر من ستة أنماط مختلفة للقيادة، ويتحولون بمهارة بين الأنماط المتنوعة حسب الموقف.

أربعة من هذه الأنماط وهي [ذو البصيرة/ المعلم والمدرب/ الاندماجي/ الديمقراطي] تخلق نوع الصدى الذي يعزز الأداء، في حين أن نمطين آخرين وهما [المنظم أو ضابط الإيقاع/ والآمر المسيطر] بالرغم من جدواهما في بعض الحالات المعينة، إلا أنه يجب أن يطبقا بحذر.

ولاكتشاف كيف أن بعض أنماط القيادة تؤثر على تنظيم ما ومناخه العاطفي، فلقد اعتمد المؤلفون على بحث يعتمد على قاعدة بيانات عالمية لعدد 3871 مديرًا تنفيذيًا تم فيه تحديد أهمية العديد من العوامل الأساسية التي أثرت في بيئة العمل.

وباختصار شديد، ومع استبعاد الأمثلة الحية التي ذكرت كاستشهادات لهذه الأنماط، يمكن أن نعرض لأنماط القيادة التي ذكرها الكتاب في النقاط التالية:

القائد ذو البصيرة [الملهم]:

يبني التجاوب العاطفي عن طريق تحريك الناس باتجاه أحلام مشتركة، ويعتبر تأثيره على المناخ

إيجابي لأقصى حد، كما أنه يكون مناسبًا كلما تطلبت التغييرات رؤية جديدة، أو كلما ظهرت الحاجة لتوجه جديد.

المعلم أو المدرب الخصوصي:

يربط ما يريده الشخص مع أهداف التنظيم، فيحدث التجاوب والتأثير على المناخ العاطفي بشكل كبير، وتأتي مناسبته لمساعدة موظف على تحسين الأداء ببناء قدرات طويلة الأجل.

الاندماجي:

يبني التجاوب عن طريق إقامة التفاعلات الاجتماعية، وخلق الانسجام من خلال ربط الناس بعضهم ببعض، ويكون تأثيره إيجابيًا، وهذا النوع يناسب رأب الصدوع في الفرق، والتحفيز في أوقات التوتر، أو تقوية الروابط.

الديمقراطي:

وهو يقدر إسهامات الأشخاص، ويحصل على الالتزام من خلال المشاركة، وهو إيجابي، ويناسب المشاركة في الإجماع، أو الحصول على إسهامات قيمة من الموظفين.

المنظم أو ضابط الإيقاع:

وهذا النوع من القيادة يبني التجاوب عن طريق تلبية أهداف مثيرة وتمثل تحديات، ولأن هذا النوع كثيراً ما ينجز بشكل ضعيف، فهو كثيراً ما يكون سلبيًا جدًا، إلا أنه يكون مناسبًا للحصول على نتائج نوعية راقية من فريق متحفز وكفء

الآمر والمسيطر:

وهو يخفف المخاوف من خلال إعطاء توجيه واضح في حالة طارئة، وكثيراً ما يساء استخدام هذا النوع منن القيادة فيحدث أثراً سليبًا جداً، لكنه قد يكون مفيدًا في الأزمات، لدفع نقلة نوعية، أو مع الموظفين الذين يسببون المشكلات.

والأنماط الأربعة الأولى للقيادة عوامل أكيدة لبناء التجاوب والصدى، فكل واحد منها له تأثيره الإيجابي القوي الخاص به على المناخ العاطفي في التنظيم، أما النمطان الأخيران: المنظم وضابط الإيقاع، ونمط الآمر المسيطر، فلهما أيضًا دورهما ضمن مجموعة أدوات القائد، لكن يجب استخدام كل واحدة منها بمهارة إذا أردنا أن تكون ذات تأثير إيجابي، فعندما يفرط القادة باستخدام نمط المنظم وضابط الإيقاع، ونمط الآمر المسيطر، وباعتماد هذين النمطين كثيراً أو بشكل متهور، فإنهم يحدثون التنافر وليس التجاوب.

والأمر ذاته إذا تم التعامل مع أي من الأنماط الأربعة الأولى بشكل جامد، فعلى سبيل المثال: نجد أن النمط الديمقراطي على الرغم من أنه إيجابي التأثير إلا أنه له سلبياته، فإحدى نتائج إفراط القائد في الاعتماد على هذا المنهج هو كثرة الاجتماعات التي تثير السخط إلى ما لا نهاية له حيث يتم التفكير مليًا في الأفكار، ويصبح الاجتماع في الرأي بعيد المنال، وتصبح النتيجة المرئية هي جدولة المزيد من الاجتماعات فالقائد الذي يؤجل القرارات الحاسمة أملاً في الحصول على استراتيجية جماعية قد يكون عرضة لمخاطر العصبية الشديدة وستكون تكلفة ذلك هي الارتباك والتشويش، وفقدان الاتجاه، مع تأجيلات متواصلة وتفاقم النزاعات الداخلية.

ويبين الكتاب من خلال المقارنة بين الصورة المالية للقيادة والصورة الواقعية أن الإدارة الإنسانية لا تتعارض مع الإدارة العملية للتنظيم، كما يبرهن على أن هذا الطرح الذي يستند بكل ثقة على قدرات الذكاء العاطفي يحول القيادة الإدارية من مجرد موهبة إلى نتائج ملموسة ونجاحات ثابتة تستند إلى الأرقام.

بالإضافة إلى ذلك عالج الكتاب في موضوعاته المركزة والمكثفة بأسلوب رشيق عددًا من الموضوعات المهمة مثل كيفية تطبيق هذه الأنماط المتنافرة، وكيف يصبح الإنسان قائدًا متجاوبًا، كما عالج كيفية بناء مؤسسات ذات ذكاء عاطفي، هذا بالإضافة إلى كل ما يرتبط بهذه الموضوعات الرئيسة من موضوعات فرعية.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply