هل ندع الغد يصنع بدوننا ؟


بسم الله الرحمن الرحيم

 

وسنوات القرن الحادي والعشرين تتوالى مسرعة لا يزال العالم العربي والإسلامي، من خلال مثقفيه، يطرح على نفسه التساؤلات عينها التي كانت مطروحة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي.

 

العالم العربي الذي كان مع محيطه الإسلامي الأوسع مركز الحضارة والأكثر تقدما في القرون الأربعة التي تلت الفتح الإسلامي، بدأ يتأخر في بطء حتى القرن السابع عشر ثم في سرعة حتى أصبح هامشيا بالنسبة إلى تطور الحضارة العالمية ماديا وفكريا.

 

أسلافنا و العصر الذهبي :

لقد شهدت الحضارة الإسلامية عصرا ذهبيا كان فيه للمسلمين قوة لا تقف في وجهها قوة، كان فيه العالم العربي الإسلامي وريثا للحضارات السابقة ومطوراً لها. فقد كانت الرياضيات فيه، في الغالب الأعم، عربية والطب عربيا، وكذلك علم الفلك، وعلم الفيزياء، وعلم الكيمياء، ومعظم الفلسفة...حتى أن البيروني - أحد عباقرة المسلمين في القرن العاشر الميلادي والذي وصفه المستشرق الألماني سخاو بعد إطلاعه على مؤلفاته بأنه أعظم عقلية عرفها التاريخ كان هذا العبقري يقول: إن الهجو بالعربية أحب إلي من المدح بالفارسية.

 

ذلك العصر الذهبي أوجد لدى المسلمين شعورا مشروعا بالانتماء إلى تراث غاب كليا منذ أكثر من ثلاثة قرون وصار إنتاج المسلمين في مجالات العلم والتقنية، وحتى في مجال الفكر، محدودا إن لم نقل معدوما.

 

ومع بداية الاحتكاك بالغرب في بداية القرن التاسع عشر بدا واضحا أن العالم العربي والإسلامي صار هامشيا في مجالات شتى اللهم إلا بعض الأسماء النادرة، والتي برزت في الغرب ومن خلال مؤسساته وهيئاته العلمية. والعلم وتطبيقاته الفنية [التقنية] واحدا من هذه المجالات التي أصبح العالم العربي الإسلامي فيها هامشيا..

 

لقد كان أسلافنا سابقين في ميادين العلوم المختلفة فقد نقلوا المعارف والعلوم المختلفة عن غيرهم من الأمم وأخضعوها لمقاييس عقيدتهم بعقل متفتح وقلب بصير وهم بذلك لم يكونوا مجرد ناقلين منقادين بل استخدموا عقولهم وحكموا منطقهم وخاضوا غمار التجربة فآثروا المعرفة الإنسانية ومهدوا السبيل لتقدم العلوم وازدهار الحضارة.

 

يقول الدكتور علي عبد الله الدفاع في كتابه \'إسهام علماء المسلمين في الرياضيات\':

 

وجه المسلمون عنايتهم للأنشطة الذهنية منذ الأيام الأولى للإسلام بادئين بالعلوم العلمية كالرياضيات والفلك.

 

ولقد كان هناك أساس ديني لحاجة المسلمين للرياضيات والفلك، فبالوسائل الهندسية يمكن تحديد اتجاه القبلة التي يولون وجوههم شطرها في صلواتهم اليومية، كما أن المسلمين كانوا في حاجة إلى علمي الحساب والجبر لحساب المواريث والفرائض، وليعلموا عدد الأيام والسنين، وبالفلك يمكن للمسلمين تحديد غرة شهر رمضان المعظم شهر الصيام، وكذلك تحديد الأيام الهامة الأخرى ذات الصبغة الدينية.

 

من هذا المنطلق برز أسلافنا في علوم الفلك والرياضيات والطب والكيمياء والفيزياء وما حققوه من إنجازات في هذه المجالات كانت هي الأساس الذي قام عليه التقدم العظيم الذي عرفته هذه العلوم في أوربا ثم في أمريكا.

 

لقد وجه أسلافنا عنايتهم إلى إعادة دراسة الكتب العلمية القديمة لدى الشعوب المختلفة وعملوا على تصحيح الكثير منها وتنقيحه وإضافة مكتشفاتهم الخاصة.

 

محنة العلم في بلادنا:

من المتعارف عليه بين مؤرخي الفترة الحديثة أن النهضة العلمية في العالم العربي والإسلامي تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر، وأن أجلى مظاهر هذه النهضة تلتمس في حركات الإصلاح في الأزهر وفي التعديلات الأساسية التي أدخلت على النظام التعليمي في أواسط القرن قبل الماضي تحت تأثير موجة التغريب وتأسيس المدارس التبشيرية الأجنبية.

 

وقد أنشئت مجالس ومراكز للبحث العلمي تحول بعضها إلى مؤسسات وهيئات مما يشير إلى أن النهضة العلمية الحديثة في العالم العربي الإسلامي عريقة، على الأقل من حيث تاريخ بدايتها.

 

ومؤخرا أصدرت منظمة العمل العربية تقريرا متميزا وفريدا بعنوان البحث العلمي بين العرب والكيان الصهيوني وهجرة الكفاءات العربية.

 

كشف التقرير حقائق مذهلة ومرعبة عن الفجوة التكنولوجية والعلمية بين العرب والكيان الصهيوني والتي تجسد تفوقا علميا وتكنولوجيا صهيونياً ساحقا إلى درجة أن التقرير العربي أوصى بضرورة زيادة المخصصات المالية العربية لأغراض البحث والتطوير العلمي إلى 11 ضعفا عن موازناتها الراهنة حتى يمكن للعرب الاقتراب من سد الفجوة العلمية مع الكيان الصهيوني.

 

ومن أبرز الحقائق التي كشف عنها تقرير منظمة العمل العربية عن الفجوة العلمية والتكنولوجية بين العرب والكيان الصهيوني ما يلي:

 

ـ معدل الإنفاق العربي على البحث العلمي لا يزيد عن اثنين في الألف سنويا من الدخل القومي، في حين أنه يبلغ في الكيان الصهيوني 1. 8 في المائة.

 

ـ نصيب المواطن العربي من الإنفاق على التعليم لا يتجاوز 340 دولارا سنويا، في حين يصل في الكيان الصهيوني إلى 2500 دولار سنويا.

 

ـ في حين يأتي الكيان الصهيوني في المرتبة رقم 23 في دليل التنمية البشرية على مستوى العالم والذي يقيس مستويات الدخل والتعليم والصحة، فإن مصر تحتل المرتبة رقم 199 [طبقا لتقرير عام 2002]، وسوريا تحتل المرتبة 111 والأردن المرتبة 92 ولبنان المرتبة 82 وهي الدول العربية المحيطة بالكيان الصهيوني [أو دول الطوق].

 

ـ أما في استخدام الحاسب الآلي ففي حين يوجد في الكيان الصهيوني 217 جهاز حاسب آلي لكل ألف شخص، يوجد في مصر 9 أجهزة فقط لكل ألف شخص، وفي الأردن 52 جهازا و39 جهازا في لبنان.

 

وكشف التقرير أن مصر وحدها فقدت 450 ألف عالم وباحث ومتخصص من أفضل الكفاءات العلمية بهجرتهم إلى الغرب، وأن نسبة العقول العربية تزيد بين العلماء والتكنولوجيين في أميركا وكندا على 2 %.

 

وفي تقديرنا، فإن هذه الفجوة العلمية والتكنولوجية بين العرب والكيان الصهيوني هي التي أدت إلى هذا الخلل الاستراتيجي الخطير في موازين القوى في المنطقة لمصلحة الصهاينة، وجعلها قادرة على تحدي العرب كافة وجعلهم في موقع الهزيمة وهو ما يفسر في أحد جوانبه عجز العرب عن دحر عدوهم على مدى أكثر من نصف قرن بسبب استمرار حالة التخلف العلمي العربي، التي جعلت الكثرة العددية العربية غير قادرة على تحقيق التفوق للعرب في صراعهم مع الكيان الصهيوني، وجعل الكيان الصهيوني يتفوق رغم القلة العددية السكانية في مواجهة العرب، لامتلاكه تفوقا نوعيا في القدرات البشرية والإمكانات العلمية انعكست تفوقا استراتيجيا في القدرات العسكرية والصناعية والتكنولوجية.

 

وفي تقديرنا، فإن هذا التفوق العلمي والتكنولوجي الصهيوني النوعي المدعوم أميركيا يوفر للكيان الصهيوني فرصا متعاظمة لفرض هيمنته الإقليمية على منطقة الشرق الأوسط، كما يساعدها على التشدد في مفاوضات التسوية مع العرب، ويدفعه إلى التطلع دائما لفرض تسويات سياسية بالشروط والإملاءات التي يريدها.

 

إن فشل العرب في معارك التنمية والنهضة العلمية والتكنولوجية على مدى أكثر من نصف قرن كان عاملا مركزيا وراء سلسلة الانكسارات والاحباطات العربية في الصراع مع الكيان الصهيوني. وفي المستقبل المنظور، لا توجد إمكانية لتعديل هذا الخلل الاستراتيجي في غياب جهود عربية حقيقية ومتسارعة لسد هذه الفجوة العلمية والتكنولوجية أمام الكيان الصهيوني. فإحدى أكبر المشكلات التي تواجه المستقبل العربي وتهدده باستمرار هي أوضاع التخلف والعجز والتدهور التنموي والاقتصادي والإخفاق العلمي والتكنولوجي، واستمرار ظاهرة نزيف الأدمغة، أو هجرة العلماء العرب إلى الخارج وخاصة إلى الغرب الأوروبي والأميركي.

 

أسباب تخلفنا العلمي والتقني:

ولكن ثمة سؤال يفرض نفسه هو: لماذا لم تثمر حتى اليوم هذه النهضة العلمية في مؤسساتنا وهيئاتنا ثمرتها المرجوة برغم ما يزيد على القرنين على هذه النهضة؟

 

هل السبب موقف ديننا الإسلامي من العلم؟ أم هو نظامنا التربوي والتعليمي؟ أم هو الضياع والقلق الذي يشل الإبداع والتفكير العلمي؟

 

لنحاول مناقشة هذه التساؤلات لنتبين ماهو السبب الحقيقي في تخلفنا العلمي والتقني؟

 

ولنبدأ بموقف الإسلام من العلم والعلماء.

 

لقد بات من المسلم به لدى مفكري الشرق والغرب على السواء أن الحضارة العربية الإسلامية والتي قامت دعائمها على أسس من الدين الإسلامي قد أولت العلم اهتماما وشأنا لا ينازعه أي نشاط آخر في المجتمع الإسلامي، وليس من نافلة الحديث القول إن العلم احتل مكانة في الحضارة الإسلامية تعادل مكانة العبادات.

 

فالعلم صفة من صفات الله - تعالى -، وطلب العلم عبادة، والعلماء ورثة الأنبياء، والعلم جهاد، والانصراف للعلم فضيلة لا أعظم ولا أشرف منها، وأهل العلم أعلى شأنا من أصحاب السلطان، وأثرهم أبعد منهم في توجيه الجماعة.

 

إن القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وما أثر عن السلف، وما يروى من الوقائع، كلها تشير إلى ما للعلم وأهله من مكانة مرموقة في المجتمع الإسلامي، منذ نشأة هذا المجتمع نفسه، والشواهد التاريخية على ذلك تكاد لا تحصى وقد شهد بذلك أساطين الفكر الغربي والفكر الشرقي على السواء... فهل نحن اليوم أوفياء لموقف ديننا الإسلامي من العلم والعلماء؟

 

والواقع إن نظرة المجتمع العربي الإسلامي الحديث للعلم والعلماء نظرة تقدير وإجلال ولكنها نظرة ما تزال فردية لا جماعية، فالأفراد يبذلون في سخاء من أجل تعليم أولادهم، غير أنهم لا ينفقون بمثل هذا السخاء على المؤسسات والهيئات العلمية والمشاريع البحثية مما يدل على أن الوعي العلمي في مجتمعنا الإسلامي ما يزال سطحيا لا يتعدى حدود المصالحة الفردية، بل إن الاتجاه السائد في مجتمعنا هو أن إنشاء الجامعات والهيئات العلمية من شئون الدولة فهي التي ترعاها وتوجه سياستها مما يجعلها لا تتمتع بالاستقلال التام والحرية وما يعرقل مسارها من نظم بيروقراطية تسيطر على مجتمعنا العربي الإسلامي.

 

فكان يجب علينا أن نحصر دور الدولة في تقديم الأوقاف والهبات لهذه المؤسسات دون التدخل في توجيهها. وما تاريخ الأزهر عنا ببعيد يوم أن كانت له أوقافه وممتلكاته مما يجعل لبعض شيوخه الحق في عزل الحاكم أو توليته.

 

أما عن مؤسساتنا العلمية والتربوية فالدارس لتاريخنا الحديث والمعاصر يرى أن النظريات العلمية والفلسفات التربوية مأخوذة بلا تبديل أو تحوير يذكر من الفكر الغربي.

 

فمن المحزن أن نقول إنه لا يوجد لدينا حتى الآن نظريات علمية أو تربوية نابعة من تراثنا وفكرنا. إن البحث العلمي في المنطقة العربية الإسلامية يعاني من مشاكل عديدة تعود إلى عدد من العوامل أدت بالنهاية إلى نتاج فكري منخفض إن لم يكن منعدما وهذه العوامل منها ما هو عام كالعوامل السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ومنها ما هو خاص كضعف التكوين العلمي والثقافي للباحث، أو سيطرة الاعتبارات الشخصية على علا قات البحث العلمي، أو عدم وجود جزاءات رادعة عن السرقات العلمية.

 

 خاتمة: الكيان الصهيوني مصدراً للإنجازات العلمية:

من المخجل والمحزن أن يصبح الكيان الصهيوني قوة إنتاج علمي ومصدرا للإنجازات العلمية التقنية. فعلى سبيل المثال زادت صادرات الكيان الصهيوني من المنتجات الإلكترونية من حوالي مليار دولار أمريكي في عام 1986 إلى قرابة الستة مليارات دولار أمريكي في عام 1999 وبلغ حجم الإنفاق على التعليم من الناتج القومي الإجمالي عند الصهاينة 6، 6% عام 1999 في حين بلغ في العام نفسه 5. 3 % بالولايات المتحدة الأمريكية و 3. 8% باليابان و 3. 7 بجمهورية كوريا و 2. 8% بالصين وقد بلغ الناتج المحلى الإجمالي في العام نفسه 91965 مليون دولار في الكيان الصهيوني و 6952020 بليون دولار بالولايات المتحدة الأمريكية و 5108540 مليون دولار باليابان و 455476 مليون دولار بجمهورية كوريا و 143669 مليون دولار في الصين. ويدل ذلك على أن إنتاجية البشر في الكيان الصهيوني شديدة الارتفاع بالمقارنة بمحيطها العربي.

 

ويلاحظ أن نصيب الإنفاق على التعليم من الناتج القومي الإجمالي في معظم البلدان العربية ارتفع بدرجة ملحوظة بين عامي 1980 و1985 على حين كان أدنى في عام 1995 منه في عام 1980 فقد بلغ الإنفاق العام على التعليم من الناتج القومي في مصر على سبيل المثال 5. 7% عام 1980 وانخفض إلى 5. 6% عام 1995 وفى المغرب 6. 1% عام 1980 وانخفض إلى 5. 6 % عام 1995.

 

إن التنمية الشاملة لأية دولة تتوقف على عناصر ثلاثة: أولها الوعي بمشكلة التخلف وأبعادها، وثانيها الوعي بضرورة القضاء على مشكلة التخلف والتخلص منها، وثالثها الوعي بضرورة القضاء على ظاهرة التخلف. وقد أدرك الصهاينة حتى قبل قيام الدولة أهمية هذه العناصر الثلاثة مما جعلهم ينشطون في تأسيس المنشآت العلمية البحثية وينتجون كما متجددا من العلم والمعلومات والمعرفة. وبلغت نسبة العلماء- والتقنيين عندهم 76 لكل 10000 شخص عام 2000 لذا فإنهم يتمتعون بعدد يفوق غيرهم كثيرا في نشر البحوث في مجالات العلوم الطبيعية والهندسة الوراثية والمجالات البيولوجية عموماً، مما أسهم في إيجاد بيئة علمية اعترفوا فيها بالباحث المتفرغ كعضو في المجتمع له دوره المهم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply