الاستشفاء بالقرآن الكريم دراسة ميدانية ( 2 -2 )


 
بسم الله الرحمن الرحيم
 

المحور السادس

ظواهر نفسية معلومة في الطب

تشير هذه الدراسة إلى وجود تطابق تام بين الأعراض الطبية وتلك التي تنسب للجان وتعالج بالإيحاء بوسائل الطرد كالإيهام بالصعق الكهربائي، فتتشابه الأعراض تماما مع أمراض عضوية ونفسية يجهلها المعوذون فيبسطون الأمر بنسبة كل الحالات إلى الجان، وقد أكدت هذه الدراسة قوة الجانب الديني في البيئة الإسلامية، فإذا استثنينا تأثير الإيحاء نجد الانفعال الديني يفسر كثير من حالات الانفعال والاهتزاز والصراخ التي تصيب بعض المرضى عند سماع القرآن الكريم ويظن الحاضرون أنها أفعال الجني والشخص نفسه غير مسئول حتى لو اتهم آخر بجريمة في تلك الحال فهي شهادة لا ترد من جني بالواقعة، والحالات المرضية مثلا التي يشخصها المعوذون على أنها مس أو سحر تتشابه إلى حد التطابق مع تشخيص الطب النفسي، وقد تجد من المعوذين من يطلب وقف دواء طبي ضروري فتستفحل الحالة، وأكثرهم لا يأبهون بالطب النفسي بل إن منهم من يستهزئ بالأطباء اعتقادا منه أنه يمتلك علاجا لجميع الأمراض المستعصية، وبعضهم قد لا يتحفظ في مس الأجنبيات ومنهم من يقوم بضربهن أو خنقهن أو الضغط على بطونهن بيده ورجله مما قد يضطر بعضهن لمجاراته بالاعتراف الزائف بوجود الجني والتحدث بلسانه والتصريح بالراحة بعد خروجه تهربا من الأذى، والأنثى أكثر ضعفا في القدرة على التكيف والتوازن العقلي والنفسي مما يجعلها أطوع للإيحاء ميالة للمغالاة في قدرات المعوذ خاصة الأميات، وقد يتحدث جني على لسانها مخبرا بحالة عشق أو مس وإن لم يخرج الحديث عن ثقافتها ولغتها، والإحساس بالذنب قد يتضاعف فيؤدي إلى كراهية الذات والوقوع في أسر الوهم مما يجعل المصابة أقرب للتأثر بالإيحاء، ويقلد أكثر الرقاة بعضهم وقد يتحول بعض المرضى إلى رقاة أو معاونين فهي إذن ثقافة شعبية سائدة أكثر منها دعاء بالرقية الشرعية.

وانفصام الشخصية Schizophrenia مثلا هو أحد الأمراض الذهنية (العقلية) ويعاني فيه المصاب من اضطراب في التفكير والوجدان والإدراك والسلوك وضعف الإرادة، فينسحب من المجتمع ويغلق باب حجرته على نفسه كثيراً، ويقع ضحية ضلالات لا يقتنع بعدم صحتها وتشمل ضلالات الاضطهاد والعظمة كأن يعتقد أنه زعيم أو مخترع أو أنه مراقب ومضطهد، وكثيراً ما يعانى من هلاوس غالبا ما تكون سمعية كأن يسمع أصوات غير موجودة في الواقع قد تعقب على تصرفاته أو تأمره، وتتسم أفكاره بالغرابة ويقفز إلى استنتاجات مفاجئة لا علاقة لها بالمقدمات ويتطرف في الآراء ويتحذلق في الحديث ويعاني من عدم اهتمام بالمظهر ويتدهور أدائه ومهاراته الاجتماعية والذهنية والوظيفية مع جمود وبرود في العاطفة والوجدان، وقد يأخذ وضعاً غريبا يظل متجمداً فيه لفترة طويلة مع ذهول أو هياج شديد بدون سبب واضح، وكثيراً ما يقاوم المريض فكرة الذهاب إلى الطبيب النفسي فتطوف به الأسرة على الدجالين والمشعوذين فيتأخر الشفاء وتزداد المضاعفات،

ومرض الاكتئاب Depression هو شعور بالحزن والضيق واليأس وقد يصاحبه شعور بالذنب والتقصير والعجز مع فقدان الاهتمام وصعوبة التركيز وكثرة السرحان واضطراب في النوم كالأرق خاصة عند كبار السن وكثرة الكوابيس واضطراب الشهية وتعذر المتعة بأي شيء، ومن علاماته الكسل والإجهاد لأي نشاط عضلي أو عقلي وربما العصبية الزائدة والهياج لأدنى سبب، وقد يصاحب سن اليأس عند المرأة أو بعض الأمراض العضوية، وقد تزيد نسبته عن 5% من مجموع السكان، وتنشط أفكار سلبية في ذهن المريض تدفعه باستمرار إلى اليأس والحزن والتشاؤم والرغبة في الموت قد تؤدي إلى الانتحار في حوالي 15% من الحالات، وقد يعلن الاكتئاب عن نفسه في صورة أعراض جسمانية مثل آلام في أجزاء مختلفة من الجسم أو فقد القدرة الجنسية أو الشكوى من أعراض أمراض عضوية رغم أن الفحوصات الطبية تثبت عدم وجودها، وفي بعض الحالات الشديدة قد تظهر هلاوس hallucinations مثل سماع أصوات تحقر من شأنه أو تحثه على التخلص من حياته أو ضلالات وأفكار ثابتة خاطئة لا تستجيب إلى الإقناع مثل ضلالات الإحساس بالذنب أو ضلالات اعتلال الصحة، وتلك هي نفس الأعراض التي يتكرر سماعها في العيادات الشعبية للمعوذين ويتكرر نسبتها جميعا لأنشطة الجان في إيذاء الإنس، ولكن تلك الحالات تستجيب غالبا للعقاقير أو الصدمات الكهربية في الحالات الشديدة، وقد ثبت أن الالتزام بالصلاة وقراءة القرآن والصحبة الصالحة والتشاغل بأعمال البر ومعاونة المحتاجين يساعد العديد من الحالات بالسيطرة على الأفكار السلبية ونبذ الشعور باليأس والإحباط مع احتمال استرداد نسبة مادة السيروتونين Serotonin كمؤشر معملي إلى معدلها الطبيعي.

 

المحور السابع

اجتهادات للعلماء استغلها المعوذون

 

قال الشيخ فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث: \"اختلف العلماء اختلافاً كثيراً في مس الشيطان للإنسان هل يتعدى ذلك إلى البدن فيصيبه بالسقم والمرض والأوجاع والآلام الشديدة حتى يصل إلى حالة الصرع والجنون كما هو متداول بين الناس اليوم بقولهم (فلان قد لبسه شيطان)، فذهب بعض العلماء إلى الجواز، وذهب البعض الآخر إلى عدم الجواز معللين بأن الشيطان لا يستطيع ذلك ولا قدرة له عليه ولا يملك إلا الوسوسة، واستندوا إلى أدلة منها قوله - تعالى -: \"إِنّ كَيدَ الشّيطَانِ كَانَ ضَعِيفاً\" [النساء: 76]، وقد استدل المجيزون لإمكان دخول الجن جسم الإنسان إلى أدلة كذلك منها قوله - تعالى -: \"وَاذكُر عَبدَنَآ أَيّوبَ إِذ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الشّيطَانُ بِنُصبٍ, وَعَذَابٍ,\" ص 41، فاعتبروا أن ما أصاب النبي أيوب - عليه الصلاة والسلام - في بدنه من فعل الشيطان وهو صريح الآية عندهم، ومنه ما أصابه في ماله وولده حيث هلكوا جميعاً، ولكن العلماء الذين منعوا أن يكون ذلك من الشيطان قد فسروا الآية تفسيراً ينسجم مع الآيات الأخرى والأحاديث الصحيحة والتي تبين أن الشيطان لا سبيل له على المؤمنين المخلصين، قال - تعالى -: \"إِنّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَانٌ إِلاّ مَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ\" [الحجر: 42]، فمن باب أولى أن لا يتسلط الشيطان على الأنبياء في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وهو ما جزم به ابن العربي ونقله عنه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (ج 15ص 209) عند تفسير الآية الكريمة، ومنهم من فسر الآية على أن ما حصل لأيوب - عليه الصلاة والسلام - من الابتلاء في البدن والمال والولد إنما هو من الله - تعالى -وأضيف إلى الشيطان تأدباً مع الله - سبحانه وتعالى -..، كما قال الفخر الرازي (ج26ص213) أن ما أصابه في بدنه وذهاب ماله وولده وذهاب الخيرات عنه ونعيم الدنيا من الله - تعالى -وحده لكن الشيطان كان يذكره بالنعم التي كانت والآفات التي حصلت وكان هو يعمل على دفع تلك الوساوس الشيطانية فلما قويت في قلبه خاف وتضرع إلى الله قائلا: \"أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيطَانُ بِنُصبٍ, وَعَذَابٍ,\"..، وأما قوله - تعالى -: \"إِنّ الّذِينَ اتّقَوا إِذَا مَسّهُم طَائِفٌ مّنَ الشّيطَانِ تَذَكّرُوا فَإِذَا هُم مّبصِرُونَ\" [الأعراف: 201]º فهو ظاهر في أن وسوسة الشيطان وغوايته عن بعد دون الدخول في أبدانهم كما قال الفخر الرازي (ج15ص98)، وقال القرطبي (ج7ص350): (والمعنى أن الذين اتقوا إذا لحقهم شيء تفكروا في قدرة الله - عز وجل - وفي إنعامه عليهم فتركوا المعصية)، وأما قوله - تعالى -: \"الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيطَانُ مِنَ المَسّ\" [البقرة: 275]º فقد نقل الفخر الرازي (ج7ص88) عن الجبائي قوله بأن الصرع إنما يحدث عند وسوسة الشيطان من ضعف الطباع بحيث يخاف الإنسان فيصرع كما يصرع الجبان من الموضع الخالي ولهذا لا يوجد هذا الخبط في الفضلاء الكاملين، وقد أبطل أن يكون للشيطان مدخل على الإنسان إلا من جهة الوسوسة مستشهداً بالمعقول والمنقول، وكذلك أنكر القفال من علماء الشافعية دخول الجن جسم الإنسان وقال بأن الناس إنما يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن فخوطبوا على ما يعرفون كما في قوله - تعالى -\"طَلعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ\" [الصافات: 65]º فإن من عادتهم أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان، وقال الزمخشري (ج1ص399): (كما يقوم الذي يتخبطه الشيطانº أي المصروع، وتخبط الشيطان من زعمات العرب يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرعه، والخبط الضرب..العشواء، فورد على ما كانوا يعتقدون، والمس الجنون، ورجل ممسوس.. أيضاً من زعماتهم أن الجني يمسه فيختلط عقله، وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن.. ولهم في الجن قصص وأخبار وعجائب وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات)، وقال أبو السعود (ج1ص399): (وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع من المس وهذا أيضاً من زعماتهم أن الجني يمسه فيختلط عقله)، بينما قال القرطبي (ج3ص355): (في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن)، وقال الألوسي: (المرابي في الدنيا لا يقوم يوم القيامة إلا كما يقوم المتخبط المصروع في الدنيا)..، ونقل عن ابن عطية أن المراد تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن أسرع بحركات متعجلة في كل اتجاه قد جن، ثم رد عليه بقوله: (ولا يخفى أنه مصادم لما عليه سلف الأمة)، واعترض على من أنكر دخول الجن جسم الإنسان بقوله: (قالت المعتزلة والقفال من الشافعية إن كون الصرع والجنون من الشيطان باطل لأنه لا يقدر على ذلك كما قال - تعالى -حكاية عنه \"وما كان لي عليكم من سلطان\".. على ما يزعمه العرب ويعتقدونه من أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع وأن الجني يمسه فيختلط عقله، وليس ما قالوه حقيقة وليس بشيء بل هو من تخبط الشيطان بقائله ومن زعماته المردودة بقواطع الشرع فقد ورد (ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخاً)، وفي بعض الطرق (إلا طعن الشيطان في خاصرته) ومن ذلك يستهل صارخاً إلا مريم وابنها لقول أمها: (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم)، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: (كفوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشياطين)، وقد ورد في حديث المفقود الذي اختطفته الشياطين وردته في زمنه - عليه الصلاة والسلام - أنه حدث من شأنه معهم فقال: (فجاءني طائر كأنه جمل.. فاحتملني على خافية من خوافيه) إلى غير ذلك من الآثار وفي (آكام المرجان في أحكام الجان) كثير منها، واعتقاد السلف وأهل السنة أن ما دلت عليه أمور حقيقية واقعة كما أخبر الشرع عنها والتزام تأويلها كلها يستلزم خبطاً طويلاً لا يميل إليه إلا المعتزلة ومن حذا حذوهم، والآية التي ذكروها في معرض الاستدلال على ما ادعوه لا تدل عليه إذ السلطان المنفي فيها إنما القهر والإلجاء إلى متابعته لا التعرض للإيذاء والتصدي لما يحصل بسببه الهلاك، ومن تتبع الأخبار النبوية وجد الكثير منها قطعاً بجواز وقوع ذلك من الشيطان..، وخبر (الطاعون من وخز أعدائكم الجن) صريح في ذلك وقد حمله بعض مشايخنا المتأخرين على نحو ما حملنا عليه\"(1).

وقال الشيخ إبراهيم عبد الرحمن الموسى: \"شاع بين بعض الرقاة الاستعانة بالجن في تشخيص أو علاج الحالات..، وبعضهم يستند إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه في مشروعية الاستعانة بالجني المسلم في العلاج، وقد فهموا كلام شيخ الإسلام خطأ، فكيف تعرف أيها الراقي أن هذا الجني مسلم أو كافر خاصة أن الجن من عالم الغيبيات فهم يرونا ولا نراهم؟.. فالاستعانة بالجن حتى ولو ادعوا الإسلام لا تجوز، ومما يدل على ذلك عدم ورود الاستعانة بالجن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.. (و)في الاستعانة بالجن تشبها بالسحرة والمشعوذين..، (و)لو كان شيخ الإسلام قد أفتى بمشروعية الاستعانة بالجن فإنما هو بشر يخطئ ويصيب والعمدة في ذلك بما جاء في الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة..، (ولكنه) لا يقصد مشروعية الاستعانة بالجن..، قال - رحمه الله - (أعرف من يخاطبه النبات بما فيها من المنافع وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها ومنهم من يخاطبه الحجر والشجر.. وأعرف منهم من يقصد صيد الطيور فتخاطبه العصافير.. ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنسي)..، (و)إذا ذهب المريض إلى الراقي الذي يرقي بالطرق البدعية التي تتضمن استعانة بالشياطين سرعان ما.. يقتنع المريض بهذا الراقي الخرافي ويترك الراقي الشرعي وهذا أعظم مقصود للشيطان..، وفي ذلك أيضاً إضلال للراقي واستدراجه إلى الطرق البدعية والخرافة فتجده يتحول من الرقية الشرعية المشروعة إلى الرقية المحرمة وينتقل من السنة إلى البدعة.. وأعظم من ذلك قد يرتد عن الإسلام لخدمة الشياطين.. حتى.. تساعده..، (و)تجد أكثر من يستعين بالجن ممن قل حظهم في العلم فهم للجهل أقرب..، (و)الراقي الجاهل فإنه وإن نفع الناس في باب إلا أنه يضر نفسه والآخرين بجهله، وقد صدرت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (برقم: 20361 في: 1441419هـ) تضمنت سؤالاً عن حكم الاستعانة بالجن في معرفة العين أو السحر وكذلك تصديق الجن المتلبس بالمريض بدعوى السحر والعين والبناء على دعواه فأجاب العلماء الفضلاء بما نصه: (لا تجوز الاستعانة بالجن في معرفة نوع الإصابة ونوع علاجها لأن الاستعانة بالجن شرك، قال - تعالى -: \"وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ, مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوهُم رَهَقًا\" [الجن: 6]، وقال-تعالى -: \"وَيَومَ يِحشُرُهُم جَمِيعًا يَا مَعشَرَ الجِنِّ قَدِ استَكثَرتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَولِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا استَمتَعَ بَعضُنَا بِبَعضٍ, وَبَلَغنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثوَاكُم خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ\" [الأنعام: 128]، ومعنى استمتاع بعضهم ببعض أن الإنس عظموا الجن وخضعوا لهم واستعاذوا بهم، والجن خدموهم بما يريدون وأحضروا لهم ما يطلبون، ومن ذلك إخبارهم بنوع المرض وأسبابه مما يطلع عليه الجن دون الإنس وقد يكذبون فإنهم لا يؤمنون ولا يجوز تصديقهم)..، (و)أختم بكلام جميل.. (لأحدهم): (أطرح هنا تساؤلا لمن يستعين بالجن قد يزيل الغشاوة..: من أنت حتى تنقاد لك الجن تأمرها وتنهاها تنفذ طلباتك وتسارع إلى مرضاتك؟ هل أنت نبي وهذه معجزتك؟ أو ولي وهذه كرامتك؟ أم ساحر أو كاهن وهذه مخرقتك؟ أم أنك مريض وتحتاج من يعالجك؟..، أخشى أن تكون مريضاً ممسوساً وأنت لا تعلم أو أنه استدراج من الشيطان)\" (2).

وفي كتاب (تحذير الداعية من القصص الواهية) في قصة ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - للمجنونº قال الشيخ علي حشيش (ج1ص201): \"هذه القصة التي صارت أصلاً لمخالفة عصرية جديدة ألا وهي التعامل مع الجن بضرب المجنونº فقد بينت من قبل.. فرية إحضار الجان وبطلان ما نسبوه إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدّد آيات عند قراءتها في أذن المجنون يحضر الجان وبينت أن القصة واهية..، (و)هذه الأصول الواهية (هي) التي بها احترفت مهنة التعامل مع الجان وانتشرت من جديد العرافة والكهانة بصورة جديدة، وكانت هذه المرة وراء ادعاء العلاج بالقرآن الكريم حتى يظلوا يمارسون هذا التعامل في حماية اسم القرآن الكريم وكي تزداد قوة تأثيرهم في عامة الناس، والعامة لا يفرقون بين الرقى الشرعية الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين هذه المخالفة العصرية.. (و)الرقى الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة.. يلجأ الناس (فيها) إلى الله.. لا يلتفتون إلى أشخاص فيحقق الله لهم وعده في قوله - تعالى -: \"وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون\" [البقرة: 186]، وقوله - تعالى -: \"وقال ربكم ادعوني أستجب لكم\" [غافر: 60]، (و)متن قصة ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - للمجنون: (رُوِي عن أُم أبان بنت الوازع عن أبيها أنَّ جدها الزارع انطلق إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فانطلق معه بابن له مجنون أو ابن أخت له، قال جدي: فلما قدمنا على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - المدينة قلت: يا رسول الله إنَّ معي ابنًا لي أو ابن أخت لي مجنون أتيتك به تدعو الله - عز وجل - له، فقال: (ائتني به)، فانطلقت به إليه وهو في الركاب فأطلقت عنه وألقيت عنه ثياب السفر وألبسته ثوبين حسنين وأخذت بيده حتى انتهيت به إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (ادنُهُ مِني اجعَل ظَهرَهُ مِمَّا يَليني)، قال: فأخذ بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله فجعل يضرب ظَهرَهُ حتّى رأيت بياض إبطيه وهو يقول: (اخرج عدو الله)، فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس بنظره الأول ثم أقعده رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بين يديه فدعا له بماء فمسح وجهه ودعا له فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يفضل عليه)، (و)الخبر الذي جاءت به هذه القصة أخرجه الطبراني في المعجم الكبير..، (و)هذه القصة واهية والخبر الذي جاءت به لا يصح وهو غريب لا يروى عن الزارع إلا بهذا الإسناد، وعلة هذا الخبر أم أبان بنت الوازع بن زارع، أوردها الإمام الذهبي في الميزان فقال: (تفرد عنها مطر الأعنق)..، (وبالمثل) بعد أن أورد الإمام الهيثمي الخبر.. في مجمع الزوائد قال: (أم أبان لم يرو عنها غير مطر)..، (إذن) انفرد راو واحد بالرواية عنها..، (ولهذا) أهميته عند علماء أصول الحديث..، قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: (إن سمى الراوي وانفرد راو واحد بالرواية عنه فهو مجهول العين)، (و)بالتحقيق نجد أن أم أبان لم يوثقها أحد من علماء الجرح والتعديل.. (فهي إذن) مجهولة العين لم يوثقها أحد وهذا الخبر الذي جاءت به القصة غريب مردود حكمه عدم القبول..، (وقد) استنبط بعضهم من هذه القصة الواهية دليلاً واهيًا على ضرب المرضى والمجانين، وهذا الاستنباط كان له أثره السيئ حيث تمادى المعالجون ومنهم جهلة قاصرون فاعتبروا كل الأمراض تَلَبٌّسًا من الجان واعتبروا أنفع الوسائل هي الضرب المبرح أو الخنق أو إيذاء المريض بحجة أنه يؤذي الجن المتلبس، وقد حدثت مآسٍ, بل حالات قتل.. (و) إزهاق النفس التي حرم الله بغير حق فيا ويل هؤلاء القتلة من إثم هذا القتل، ولقد بينت عدم صحة هذه القصة المستخدمة في إحضار الجان وأنها باطلة ومنكرة ولم يعمل بها أحد من الصحابة وهي من الأمور المحدثة..، من أجل هذا عندما سُئل الشيخ الألباني - رحمه الله - عن التعامل مع الجن.. أجاب قائلاً: (التعامل مع الجن ضلالة عصرية ولا يجوز لمسلم أن يزيد على الرقية الشرعية كما هي ثابتة في الكتاب والسنة وأدعية الرسول - صلى الله عليه وسلم -)\" (3).

 

المحور الثامن

مغالاة الرقاة ودجل المعوذين في منظور الشريعة

 

في فتاوى الأزهر (ج8ص10) أجاب الشيخ عطية صقر على السؤال: (هل يجوز أن تكتب بعض آيات القرآن يعلقها المريض أو يمحوها بالماء من أجل الشفاء)º فقال: \"أما أن القرآن شفاء فذلك أمر لا شك فيه، قال - تعالى -: \"وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين\" [الإسراء: 82]، وقال - تعالى -: \"يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما فى الصدور\" [يونس: 57]، وقد حمل كثير من العلماء الشفاء على ما يعم الشفاء من الأمراض العقلية والنفسية والخلقية والجسمية، حيث لا يوجد ما يمنع ذلك، فهو يصحح الفكر والعقيدة ويهذب النفس ويمنحها الأمن والطمأنينة ويقوم السلوك بالأخلاق الحميدة ويزيل العلل والأمراض التي تعترى الأجساد، وقد روى البخاري ومسلم حكاية سيد الحي الذي لُدغ ورقاه المسلمون بفاتحة الكتاب فشفاه اللّه وأخذوا على ذلك أجرا أقرهم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله تعالى)، والحديث بطوله موجود فى زاد المعاد لابن القيم (ج3ص121)، وذكر أن ابن ماجه روى في سننه من حديث على قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (خير الدواء القرآن)، ووضح تأثير العلاج بالقرآن توضيحا كبيرا..، وقال بعض العلماء أن المراد بشفاء القرآن هو ما عدا شفاء الأجسام بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن (لكل داء دواء إلا الموت) أو (إلا الهرم) وأمر بالتداوي عند المختصين كالحارث بن كلدة وعالج بالفصد والحجامة وشرب العسل وبغير ذلك مما وضحه ابن القيم في كتاب الطب النبوي، والحق أن علاج الأمراض البدنية مطلوب عند المختصين والقرآن هو الذي أرشد إلى ذلك بسؤال أهل الذكر وبالأمر بالتعلم والإفادة مع الإيمان بفاعليته في العلاج الفكري والنفسي، وقد ذكر السيوطي في الإتقان (ج2ص163) طرفا من خواص القرآن فى العلاج العام وأورد حديث ابن ماجه عن ابن مسعود (عليكم بالشفاءين العسل والقرآن) وحديث اللديغ سيد الحي وعلاجه بفاتحة الكتاب الذي رواه البخاري ومسلم وذكر حديث الطبراني عن على قال: (لَدَغَت النبي - صلى الله عليه وسلم - عقربٌ فدعا بماء وملح وجعل يمسح عليها ويقرأ: \"قل يا أيها الكافرون\" والمعوذتين)، ثم ذكر السيوطي أن النووي قال في شرح المهذب: (لو كتب أحدهم - القرآن في إناء ثم غسله وسقاه المريضº قال الحسن البصري ومجاهد وأبو قلابة والأوزاعي: لا بأس به وكرهه النخعي.. )، قال الزركشي: (وممن صرح بالجواز فى مسألة الإناء العماد النيهي مع تصريحه بأنه لا يجوز ابتلاع ورقة فيها آية، لكن أفتى ابن عبد السلام بالمنع من الشرب أيضا لأنه يلاقى نجاسة الباطن وفيه نظر)، هذا ما نقل عن العلماء في جواز العلاج بالقرآن.. فهو نافع إن شاء اللّه - تعالى -وبخاصة إذا كان القارئ صالحا ترجى بركته أو دعا اللّه بعد قراءة القرآن فقد يستجيب الله الدعاء، وقد رأينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في علاج لدغة العقرب أخذ بالوسائل المادية مع قراءة القرآن، ورأينا اختلاف العلماء في كتابة القرآن الكريم ومحوه بالماء وشربه للاستشفاء ما بين مجيز ومانعº مع تحرزهم من تعرض القرآن الكريم للنجاسة أو الإهانة\"(4).

وسئل فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي: \"شاعت في هذا العصر ظاهرة لم تعرف بهذا الوضوح والانتشار في عصر من عصور الإسلام التاريخية وهي ظاهرة المتخصصين في العلاج بالقرآن الذين يزعمون أنهم يستطيعون أن يعالجوا أي مريض يأتيهم عن طريق قراءة آي معينة من القرآن عليه، وقد يستجيب بعض الناس فيشفى بينما آخرون لا يؤثر فيهم هذا العلاج، فما حقيقة هذا الأمر؟ وما وجهة نظركم فيه من الناحية الشرعية؟ نرجو بيان الرأي الصحيح بالأدلة الموثقة\"، فأجاب فضيلته قائلا: \"لا شك أن هذه ظاهرة قد شاعت في كثير من البلدان، وتحدث عنها الخطباء في خطبهم والكتّاب في مقالاتهم، وعرضت لها الإذاعات والتليفزيونات، بل عرضت لها القنوات الفضائية في بعض البرامج، هذه الظاهرة هي ظاهرة العلاج بالقرآن. فهناك أُناس زعموا أنهم متخصصون في العلاج بالقرآن، بل فتحوا عيادات علنية للعلاج بالقرآن، يذهب الناس إليهم في هذه العيادات كي يعالجوهم بالقرآن الكريم، ونحن نؤمن بأن القرآن هدى وشفاء كما قال - تعالى -: \"وَلَو جَعَلنَاهُ قُرآناً أَعجَمِيّاً لَّقَالُوا لَولَا فُصِّلَت آيَاتُهُ أَأَعجَمِيُّ وَعَرَبِيُّ قُل هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤمِنُونَ فِي آذَانِهِم وَقرٌ وَهُوَ عَلَيهِم عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَونَ مِن مَّكَانٍ, بَعِيدٍ,\" [فصلت: 44]، وقال - تعالى -: \"وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحمَةٌ لِّلمُؤمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً\" [الإسراء: 82]، ولكن ما معنى الشفاء هنا؟ هل هو الشفاء العضوي على معنى أن الإنسان إذا أوجعه بطنه أو أوجعته عينه أو أحس بألم في جسده، فماذا عليه أن يفعل؟ هل يذهب إلى عيادة القرآن أم يذهب إلى الطبيب المختص الخبير في شأن هذا النوع من المرض؟ الذي رأيناه من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه أنه شرع الطب والدواء كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الشفاء في ثلاث: في شربة عسل أو شرطة محجم أو لذعة بنار)، فذكر الأنواع الثلاثة للدواء الذي يتناول عن طريق الفم والجراحة وهي شرطة المحجم أو المشرط والكي وذلك هو العلاج الطبيعي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - تداوى وأمر أصحابه بالتداوي، وكان يقول لبعض أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين: \"اذهبوا إلى الحارث بن كلدة الثقفي\" وهو طبيب مشهور منذ الجاهلية عرفه العرب فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينصحهم بالذهاب إليه، بل جاءه رجلان يعرفان الطب من بني أنمار فقال لهما: (أيكما أطب؟)، يعني أيكما أحذق وأمهر في صنعة الطب؟ فأشاروا إلى أحدهما فأمره أن يتولى هو علاج المريض، يعني أن الإنسان يبحث عن أمهر الأطباء وأفضلهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وقال أيضًا - صلى الله عليه وسلم -: (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله)، وهذا أعطى كل مريض أملاً في أن يجد لدائه علاجًا وأعطى الأطباء أنفسهم أملاً في أن يجدوا لكل داء دواء، فليس هناك داء عضال بمعنى أنه لا علاج له لا في الحال ولا في الاستقبال بل كل مريض له علاج موجود ولكن لم نعثر عليه بعد فإذا أصاب دواء الداء برئ بإذن الله، ولما سُئل - صلى الله عليه وسلم -: (يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها وتُقاة نتقيها؟ هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال: هي من قدر الله)، يعني أن الأمراض من قدر الله والأدوية من قدر الله، لماذا إذن نعتبر المرض من قدر الله ولا نعتبر الدواء من قدر الله؟، هذا من قدر الله وهذا من قدر الله فنحن ندفع قدرًا بقدر ونرد قدرًا بقدر، هذه سنة الله أن تدفع الأقدار بعضها البعض، ندفع قدر الجوع بقدر الغذاء وقدر العطش بقدر الشرب وقدر الداء بقدر الدواء هذه هي السنة الإسلامية، ومن أجل هذا شاع الطب بين المسلمين وتقدم الطب تقدمًا هائلاً في الحضارة الإسلامية وكان المسلمون أئمة العالم وأساتذته في الطب وعُرف منهم أسماء لامعة على مستوى العالم مثل أبي بكر الرازي وابن سينا وابن رشد والزهراوي وغيرهم من المسلمين، وكُتب هؤلاء انتشرت في العالم مثل (الحاوي) للرازي و(القانون) لابن سينا و(الكليات) لابن رشد و(التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوي، بل وجدنا من علماء المسلمين الفقهاء مَن يجيد الطب، فابن رشد نفسه كان فقيهًا ألّف كتابه (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في الفقه المقارن، وفخر الدين الرازي صاحب الكتب الشهيرة في التفسير والأصول وعلم الكلام وغيرها، قالوا: كانت شهرته في علم الطب لا تقل عن شهرته في علوم الدين، وابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى يُعدٌّ من فقهاء الشافعية وترجم له تاج الدين السبكي في كتاب (طبقات الشافعية) على أنه أحد فقهاء هذا المذهب، ولأن المسلمين اعتمدوا سنة الله في الكون فقد اعتمدوا الطب ولم يعتمدوا على الشعوذات التي انتشرت بين الأمم من قبلهم ولم يعتمدوا على الأحجبة والتمائم وغيرها التي اعتبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - ضربًا من الشرك، صحيح أن الإسلام شرع لنا الأدوية الروحية مثل الاستعاذة بالله والرقى والدعاء، فالإنسان يرقي نفسه أو يرقي مريضه بقول: (اللهم رب الناس أذهب البأس اشف أنتَ الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقمًا)، أو (أرقيك والله يشفيك)، أو كما كان - عليه الصلاة والسلام - يرقي الأطفال الصغار مثل الحسن والحسين (أعيذك بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامّة)، فالرقى والتعاويذ والأذكار والأدعية مشروعة ولكن بجوار الأسباب المادية التي تكملها وتقويمها الأسباب الروحية، ولكن لا يكفي المسلم أن يذهب الإنسان إلى شخص يقول له أقرأ عليك القرآن أو المعوذات أو آية الكرسي ويكتفي بهذا، كيف ذلك إذا كان يعاني من مرض عضوي؟ فلا بد من علاج هذا المرض العضوي وإذا كان مصابًا بفيروس لا بد من علاج هذا الفيروس فهذا هو الذي شرعه الإسلام وعاشه المسلمون، فنحن لم نرَ في الصحابة مَن فتح بيته وقال (أنا متخصص في العلاج بالقرآن)، حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد المعالجين وسيد أطباء الروح لم يفعل هذا وإنما شرع الطب وشرع التداوي بما يعهده الناس، وقد أشار القرآن الكريم إلى أن بعض الأغذية فيها شفاء ودواء مثل عسل النحل بقوله - تعالى -: {يَخرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مٌّختَلِفٌ أَلوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَومٍ, يَتَفَكَّرُونَ} النحل69، أما هؤلاء الذين فتحوا عيادات كما سمعنا في القاهرة مثلاً أن فلان الفلاني يعالج بالقرآن ويذهب المغفلون والذين يصدقون كل ما يُقال ولا يمتحنون الأمور بعقولهم، أرى هؤلاء يذهبون إليهم زرافات ووحدانا ويدفعون النقود للشيخ وبركة الشيخ الذي يزعم علاج هؤلاء بالقرآن أو بإخراج الجن من أجسادهم، وأحيانًا رأيت مناظر فظيعة مثل شخص يُضرب ضربًا مبرحًا أو أشياء من هذا النوع، وقد نشرت الصحف ووكالات الأنباء أن بعضهم مات من الضرب في يد واحد من هؤلاء وقدم للمحاكمة، كل هذا لا أعتبر أنه من الإسلام الصحيح في شيء، إنما يمكن إذا سحر الإنسان أو نحو ذلك أن نعالجه بالاستعاذة والأذكار والرقى، وهذه الأشياء على أن تكون معروفة ومفهومة، ولذلك اشترطوا في الرقية أن تكون باللغة العربية لا بلغات غير مفهومة أو بحروف مقطعة لا نعرف ماذا فيها وبذكر الله - تعالى -وصفاته وألا تشتمل على شيء من الشركيات، فهذا هو الذي شرعه الإسلام، أما هذه الظواهر التي ابتدعها الناس فليس هذا من هدي الإسلام ولا من عمل الصحابة ولا من عمل سلف الأمة في خير قرونها وإنما هي بدعة اخترعها الناس في هذا العصر وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، إن الإسلام شرع لنا أن نذهب في كل أمر إلى خبرائه نسألهم عنه ونستفتيهم فيه سواء أكان في أمور الدين أم أمور الدنيا كما قال - تعالى -: \"ولا ينبئك مثل خبير\" [فاطر: 14]، وقال- عز وجل -: \"فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون\" [النحل: 43]، ففي أمور الهندسة نرجع إلى الخبراء من المهندسين وفي أمور الطب والدواء نرجع إلى الصيادلة والأطباء وإلى كل طبيب في اختصاصه، وفي أمور الدين نرجع إلى علماء الدين الثقات، إذن، فما معنى أن القرآن شفاء؟ وهنا نقول: إن القرآن نفسه قد بين معنى الشفاء المذكور بإطلاق في بعض الآيات فقد قيدته آية أخرى، يقول الله - تعالى -فيها: \"يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين\" [يونس: 57]، بيَّنت الآية أن القرآن شفاء لما في الصدور من الشك والحيرة والعمى وما فيها من الهم والحزن والخوف والقلق، ولذا كان من أدعية النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم اجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي)، وكل هذه الأمور المدعو لها أمور معنوية لا مادية تتعلق بالقلب والصدر لا بالجسد والأعضاء، إن القرآن الكريم لم ينزله الله - تعالى -ليعالج الأمراض العضوية وإنما يعالج الناس أمراضهم بحسب السنن التي وضعها الله في الكون والتي بيَّن القرآن أنها سنن لا تتبدل ولا تتحول\"(5)، وحول دخول الجن جسم الإنسان قال فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي: \"هناك ادعاءات كثيرة برؤية الجن والعلاقة بالجن والزواج بالجن وتلبس الجني بالإنسي ومعظم هذه الدعاوى باطلة، وكثير من الناس ممن يدّعي أنه ركبه الجني أو العفريت أو نحو ذلك هم يعانون أمراضا عصبية ونفسية مثل (ازدواج الشخصية) ونحو ذلك ولا علاقة للجن بهذه الموضوعات\"(6).

واعتبر د. محمد سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر أن فتح عيادات تتخصص في العلاج بالقرآن الكريم يعد نوعا من الدجل وأن الكلمة الأخيرة في العلاج تكون للأطباء، وقال في المؤتمر السنوي الرابع عشر لكلية طب الأزهر 2004م: \"إن ظاهرة العلاج بالقرآن هي قضية خطيرة لا بد من مناقشتها والوصول فيها إلى ضوابط تحد من تلك الظاهرة خاصة أن هناك عيادات لهذا النوع من العلاج بكثرة..، (و)ما يحدث في عيادات العلاج بالقرآن الكريم من قيام أحد الأشخاص بالكشف على المرأة وهو ليس بطبيب تحت دعوى أنه من أهل الكشف وصاحب ولاية وسيقوم بعلاجها عن طريق قراءة القرآن الكريم عليها هو أمر باطل ونوع من الدجل\"، وصرح بأنه لا يعلم من العلاج بالقرآن سوى: \"الدعاء للمريض وهو ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -\"، وقد شدد على أن: \"كل ما يتعلق بالطب يجب أن تكون الكلمة الأخيرة فيه للأطباء\"(7).

 

المحور التاسع

مغالاة الرقاة ودجل المعوذين في المنظور الطبي

 

قال د. لطفي عبد العزيز الشربيني: \" يرجع الاهتمام بالعوارض النفسية إلى قرون بعيدة فقد وصفت بردية إيبرس Ebers Papyrus على سبيل المثال بعض الاضطرابات النفسية وطرق علاجها في عهد قدماء المصريين، وقد كان العلاج في مصر القديمة يتم عن طريق الإيحاء بواسطة الكهنة مع اللجوء للترويح والموسيقى واستخدام الأعشاب، أما في العصور الوسطى فقد كان المرضى العقليين يعاملون بقسوة نظراً للاعتقاد بأن أرواحاً شريرة تتلبس أجسادهم فكانوا يتعرضون للضرب والحرق والإغراق، ولم تنشأ المصحات والمستشفيات العقلية إلا حديثا حيث تغيرت أساليب المعاملة وبدأ استخدام الأدوية الحديثة في العلاج، والطب النفسي Psychiatry تخصص حديث لا يزيد عمره عن عقود قليلة أواخر القرن العشرين، وهو يهتم باضطرابات الوظائف العقلية مثل التفكير والسلوك والوجدان، وبخلاف الأمراض العضوية التي امتدت دراستها لفترة أطول واشتهر الكثير من حقائقها بين الناس مازالت الأمراض النفسية تنسب في الأوساط الشعبية إلى المجهول\"(8).

وقال د. إسماعيل الدفتار: \"إن الله - تعالى -قد أخبرنا في القرآن الكريم في عدة آيات عن الحسد كما أخبرنا الرسول - عليه السلام - في عدد من الروايات بأن العين حق، ولكن بعض المعالجين يطلقون الأحكام ويدعون أن هذه حالة عين (حسود) بعينها، فهذا رجم بالغيب لأن العين من العلم الذي لا يعلمه إلا الله - تعالى -وحده وعلي المعالج أن يرقي أو يقرأ علي الحالة دون تعيين، والسحر أيضا من الغيبيات.. (ولكن) أصبح معظم المعالجين يطلقون كلمة السحر علي كثير من المرضي دون علم، والرسول ذاته عندما سحر (وفق ما ذكره المحدثون) لم يكن يعلم بما هو عليه، ولما جاءه الملكان ووقف أحدهما عند رأسه والآخر عند قدميه، فقال أحدهما لصاحبه: ما بال الرجل؟، فقال مطبوب، فقال من طبه؟ أي من سحره، قال لبيد ابن الأعصم.. في بئر.. وكان الرسول صلي الله عليه وسلم يستمع إليهما فأمر نفرا من الصحابة أن ينزلوا البئر ويخرجوا منه السحر..، فهذا رسول الله الكريم بعث الله له الملائكة لتخبره أنه مسحور فمن يخبر أمثالنا بما حل به من مرض!، أما قضية المس فقد خاض فيها المعالجون وتوسعوا فيها لدرجة أن بعضهم من جهلهم بالرقية الشرعية يعتبر كل ما يلم بالإنسان يكون بسبب الجن وهذا يعد عبثا بالمفاهيم..، ويبدأ المعالج بقراءة القرآن وبطبيعة الحال عندما يسمع المرضي القرآن فإنهم يتأثرون.. (و)هذه الأفعال.. يراها الدين والعقل الواعي دجلا وافتراء وأكاذيب.. (وتذرع) باطل بكتاب الله وسنة رسوله\"(9).

وقال د. محمد المهدي: \"كثيرا ما يجزم الطبيب بثقة بأن حالة مرضية ما هي نفسية الأصل بينما يتوهم الراقي أنها حالة مس من الجن علاجها القراءة وإخراج الجن ووضع التمائم..، فإن أنكر الطبيب.. يصطدم بمعتقدات المريض وأهله وإن وافق فهو يثبت نوع من التفكير السحري تضيع في سراديبه الحقائق الطبية والدينية معا..، وقد ثبت أن 70-80% من المرضى النفسيين في المجتمع المصري يترددون على المعالجين الشعبيين طلبا للعلاج، وطبقا لتقارير المركز القومي للبحوث (سبتمبر 2003) فإن في مصر وحدها حوالي مليون مواطن يعتقد أنه ممسوس بالجن وثلاثمائة وخمسون ألف شخص على الأقل يعملون في مجال العلاج بإخراج الجن ويطلق على كل منهم لقب شيخ ابتداء بلا حاجة لدراسة شرعية، ولم يعد الأمر يقتصر على المستويات الشعبية وإنما امتد ليشمل مستويات تعليمية عالية تصل إلى مستوى أساتذة الجامعات خاصة حين يصطبغ العلاج الشعبي بالصبغة الدينية أو يتستر وراءها..، (و)اختلطت الحقيقة بأضعافها من الخيالات والأوهام وعلق كل شيء في عقول العامة ونسبة غير قليلة من الخاصة على الجن والسحر والحسد.. حتى أصبح الإيحاء بالتخ

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply