الاستشفاء بالقرآن الكريم دراسة ميدانية (1-2)


بسم الله الرحمن الرحيم 
 
 
 
 

انتهت الدراسات النفسية إلى وجود علاقة وثيقة بين وظائف المخ وبين المشاعر والسلوك الإنساني وفق نظم وآليات بتقدير مسبق يؤيد مبدأ الخلق في الدين مثلها في ذلك كمثل الفلك والفيزياء وبقية العلوم الطبيعية، والمدهش أن تحقق تلك الدراسات النفسية رغم حداثة عهدها السبق على العلوم الطبيعية بتقديمها شواهد في مجال النفس على العلاقة بين الإيمان والوظائف البدنية خاصة مع الاكتشاف المذهل لمراكز بالمخ تنشط بالإيمان والعبادة لتستعيد توازن وظائف النفس والبدن مقرةً لمبدأ الخلق بأن الإيمان فطرة مغروسة بالنفس وفي نشاطها شفاء للنفوس والأبدان بآليات تبدو وشيكة الاكتشاف، والاستشفاء بالقرآن الكريم إذن ليس مجرد ترديد كلمات فحسب بلا وعي وإنما هو تحفيز لعوامل الشفاء الذاتي وإصلاح شامل للنفوس والأبدان فيقتضى تدبر معانيه والعمل بتعاليمه وإقامة أركانه باعتباره منهج حياة أو نظام تشغيل لكافة البرامج.

 

وقد ثبت أن للقرآن الكريم قوة شفائية بالتجارب المعملية في مؤسسة العلوم الطبية الإسلامية في مدينة بنما سيتي بأمريكاº قال د. أحمد القاضي: (أثبتت التجارب أن له أثرا مهدئا خفف درجة توتر الجهاز العصبي في 97% من الحالات)\"، ولكن مع إجراء تلك التجارب على غير مسلمين وغير ناطقين بالعربية يمكن الجزم أنها لا تتعلق بدراسة التأثير الإيماني واستنهاض عوامل الشفاء الذاتي وإنما ترجع لتأثيرات مهدئة ثانوية محدودة الأجل مثل الاسترخاء والإيقاع والإيحاء، واحتمال التأثير السحري للقرآن الكريم غير وارد مع إجماع علماء الإسلام على إنكار \"الصرفة\" كتأثير صارف عن استجابة العرب لتحديه، ولذا كان هذا البحث كتجربة ميدانية في البيئة الإسلامية لرصد أي تأثير طويل الأمد يمكن نسبته إلى التحفيز الإيماني واستنهاض عوامل الشفاء الذاتي خاصة مع قصر الشفاء في القرآن الكريم على المؤمنين وحدهمº قال - تعالى -: \"وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحمَةٌ لِّلمُؤمِنِينَ\" [الإسراء: 82]، وقال - تعالى -: \"قُل هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء\" [فصلت: 44]، والكرب والمرض عند المؤمنين تذكرة تدفعهم للدعاء والاستغاثة بمفرج الكروب وتلاوة آيات الكتاب العزيز أو استماعه فتطمئن قلوبهم راضين بالقدر ويسلموا من الانهيار، فينبغي إذن النظر إلى الرقية الشرعية كدعاء يلزمه اليقين بلا تفريط في العمل بالأسباب لا أن تكتب الآيات بالزعفران مقطعة الحروف لتعلَّق كحجاب وتشرب وترش بالأركان لإبعاد النحس مذابة في الماء. ومع اتفاق الجميع أطباء ورقاة بالقوة الشفائية للقرآن الكريم ينحصر الخلاف في تفسير الحالات بالجان وطرق المعالجة، فقد نسبت الأمراض العضوية والوبائية كالطاعون إلى الجان قبل عصر الاكتشاف مع تعذر معرفة الأسباب الحقيقية ولكن مع التقدم الطبي وتطور تقنيات الفحص تراجع التفسير الغيبي، وإذا علمنا بحداثة تصنيفات علم النفس Psychiatry بحيث لا تتجاوز بضعة عقود أدركنا لماذا ظلت نسبة الأمراض النفسية والعقلية للجان مسيطرة في الثقافة الشعبية حتى انتشرت سريعا مع التغير الاجتماعي الحاد عيادات شعبية للمعالجة من تأثيرات الجان وابتدعت أساليب غير الرقية الشرعية، وشملت هذه الدراسة 200 حالة من رواد العيادات الشعبية بفحص كل حالة تفصيليا وإرشاد نخبة دينيا للتغيير ذاتيا، ومع تجنب التفسير بالجان بغير دليل يُعني هذا البحث بملاحظة التأثير الشفائي للقرآن الكريم مع رصد الأساليب المبتدعة بغرض تقنين ممارسة المعالجين الشعبيين، وباستعراض آراء العلماء والأطباء يتناول العرض عشرة محاور على النحو التالي: الإيمان شفاء للنفوس والأبدان، الاستشفاء بالقرآن في منظور الشريعة الإسلامية، الاستشفاء بالقرآن في منظور الطب الحديث، الإيحاء وسيلة المعوذين، خطر المشعوذين، ظواهر نفسية معلومة في الطب، اجتهادات للعلماء استغلها المعوذون، مغالاة الرقاة ودجل المعوذين في منظور الشريعة، مغالاة الرقاة ودجل المعوذين في المنظور الطبي، محصلة الدراسة الميدانية. ويرتكز المنهج العلمي لبلوغ الحقيقة على أساس التفكير التحليلي للتحقق من مصداقية الدليل وحيادية الإدعاء ومدى تطابقه مع الواقع وخلوه من الغرض وسلامته من التحريض الضمني والاستغلال العاطفي وبذلك يسلم الإنسان من الوقوع فريسة للدجل والخرافة، ولا شك أن إمكان عزو جميع الحالات المدروسة بعناية إلى أمراض أو ظواهر نفسية مصاحبة لمشاكل طبية أو اجتماعية لا يحتاج معه إلى تفسير غيبي، وليس هذا إنكارا لوجود الجن وإنما تمسكا بالمنهج العلمي في التوقف عن قبول ادعاء بغير دليل، وإذا ثبت أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قد قام بتشخيص حالات شبيهة وعلاجها فمن يدعي أنه مثل الموصول بالوحي يعوزه الدليل، وأيدت النتائج أن للاستشفاء بالقرآن الكريم تأثير طويل الأمد في الشخصية الإسلامية الواعية يستبعد معه الإيحاء ويقوم على التحفيز الإيماني واستنهاض عوامل الشفاء الذاتي وإصلاح شامل للسلوك ومحاولة إيجاد حلول عملية لجذور المشكلات الحياتية لا التهرب بتفسيرها غيبيا والاكتفاء براحة وهمية بالإيحاء بطرد الجن، بينما الأساليب الإيحائية للمعوذين والرقاة تأثيرها وقتي طالما أنها لم تعالج جذور المشكلات وتستنهض النوازع الإيمانية وتسترد التوازن النفسي بالمساندة الطبية، والتوصية هي اعتماد الاستشفاء بالقرآن الكريم كأسلوب علاجي مساند للعلاج الطبيº خاصة إذا لم تتوفر معالجة تحليلية ولا يجد الطبيب النفسي في عيادته الخاصة وقتا كافيا لتفهم صراعات المريض ومشكلاته، مع ضرورة التزام الجميع بحدود الشريعة وبالتثقف الصحي في مجال الأمراض النفسية حمايةً للمجتمع من الدجل والخرافة.

 

المحور الأول اكتشاف مذهل الإيمان شفاء للنفوس والأبدان

قبل الثورة المحمومة في مجال العلوم التجريبية خاصة في القرون الثلاثة الأخيرة وتوفر الأدوات اللازمة لم يكن لبشر المعرفة بآلية الوظائف العقلية العليا التي تميز الإنسان عن الحيوان وتحديد مواقعها بالمخ، وشيئا فشيئا اكتُشفت المناطق المتعلقة بالحواس والكلام والحركة وبدأت تتضح معالم المنظومة العاطفية ومنظومة الأنشطة اللاإرادية والأساس الكيميائي للنشاط العصبي وأصبح في الإمكان تسجيل كهربية المخ من الخارج باستخدام جهاز رسم المخ وتمييز مختلف الأنشطة الذهنية والتصوير الإشعاعي لكشف تراكيبه وعرفت بعض الفوارق التشريحية والوظيفية مع الحيوان وأمكن تصور آلية بعض الوظائف العليا كالتذكر والتعلم، واليوم ونحن في مستهل قرن جديد يبشر بغزو مجاهل الدماغ واكتشاف إمكانات المخ في التوجيه الفطري تفاجئنا تلك الأبحاث العلمية باكتشاف مذهل يجعل الإيمان بالله - تعالى -وعبادته نزوع فطري وملكة مغروسة بالمخ لها آلياتها ومراكزها، وإذا لم يحسن الإنسان توظيفها فقد أهم ما يميزه عن الحيوان وتعرض لفقدان التوازن النفسي والبدني، والعجيب أن توظيف تلك الآليات يتفق مع التوجيهات الدينية ممثلة في أتم وأشمل وأنقى صورها بالإسلام بالإضافة إلى تضمن القرآن الكريم لكثير من الحقائق المكتشفة التي لم تبدأ معرفتها إلا منذ أقل من نصف قرن.

وقد اهتم علماء النفس بتحديد العلاقة بين نفس وجسم الإنسان وتأثير كل منهما على الآخر، وأصبح من المعلوم حاليا أن الكثير من الأمراض الجسمية يمكن أن تصاحبها مضاعفات نفسية أو تكون لها جذور نفسية، فنشأ فرع الأمراض النفس جسمانية Psychosomatic Disorders، قال د. بدر الأنصاري: \"يفترض بعض الباحثين أن التشاؤم Pessimism يزيد من احتمالات إصابة الإنسان بالأمراض العضوية مثل السرطان، كما يرتبط التشاؤم بعديد من الاضطرابات النفسية كالاكتئاب واليأس والميل إلى الانتحار والوجدان السلبي والفشل في حل المشكلات والنظرة السلبية إلى صدمات الحياة والشعور بالوحدة وارتفاع معدل النبض ومعدل ضغط الدم الانقباضي Systole، وقد بينت بعض الدراسات التي أجريت على مرضى السرطان وجود علاقة ايجابية بين التشاؤم وسرعة انتشار مرض السرطان (Weismen، Warden & Sobell 1980; Morrow & Fetting 1983; Temoshok et.al، 1985; Diclemente & Temoshok 1985; Peterson & Bossio 1991; Scheier، Weirtraub & Carver، 1986)، وقد يؤدى الشعور باليأس إلى سرعة انتشار السرطان في الجسم\"(1)، وفي المقابل قد يفتح ذلك بابا واسعا لبحوث تؤكد التأثير العضوي للإيمان والخشوع والرضا بالقدر مما قد يفسر ظواهر كالشفاء الذاتي في بعض حالات السرطان، ومن البشائر كشف مركز بالمخ ينشط بالتأمل Meditation المصاحب للعبادة ويعيد الوظائف الجسمية الأساسية إلى حالة الاسترخاء Rest State مؤيدا فطرية الإيمان وتأثيره العضوي إيجابيًا.

 

وخلاصة الأبحاث العلمية التي نشرت للمرة الأولى عام 2001 وأجريت على المخ بتقنية جديدة للأشعة السينية(2) وقام بها فريق علمي على رأسه د. أندرو نيوبيرج Andrew Newberg أستاذ علم الأشعة Radiology بكلية الطب بجامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية هي أن: \"الإيمان بالله تصميم داخلي built-in Design داخل المخ\"(3)، وبهذا لا يمكن لأحد التخلص منه إلا تعاميا عن الفطرة السوية التي جعلت الإنسان ينزع للتدين على طول التاريخ وتعطيلا لقدرات هائلة وإمكانات بالغة التعقيد والتطور تمكنه من إدراك قدرة الله - تعالى -بالتفكر والاستقراء للخلق والتحليل والاستنتاج، ويمكن وصف الإنسان وفق عبارات د. نيوبيرج نفسه بأنه: \"موجه بقوة نحو التدين hard-wired for Religion\" وأن: \"التجربة العملية لا يمكنها أن تخبرنا بطريقة مباشرة عن ذات الله ولكنها تخبرنا كيف خلق الإنسانَ لكي يعرفه ويعبده\"، وهي تخبرنا أن: \"عبادة الله وظيفة والإيمان به مطلب طبيعي يماثل الطعام والشراب\"، وأن: \"المخ البشري ليس معدا تشريحيا ووظيفيا فحسب للإيمان بالله وعبادته وإنما هو أيضا مهيأ عند قيامه بوظيفة العبادة لحفظ سلامة النفس والبدن بتوجيه العمليات الحيوية خلال منظومة عصبية وهرمونية متشابكة\"، وبهذا نزداد يقينا في وجود الله - تعالى -وقدرته وإلا فلا فائدة من الملكات الهائلة الممنوحة للإنسان والتي ميزته عن كافة الأحياء الأخرى في الأرض، وهكذا لم يعد الإيمان بالله - تعالى -في الدراسات العملية الحديثة ضربا من الفلسفة والخيال الشعبي كما كان يردد الملاحدة بلا مستند في أوائل القرن العشرين، فقد خاب ظنهم أن الإنسان قد صنع ديانته بعدما تأكد أن: \"الله قد خلقه متدينا بطبيعته ومؤهلا بقدرات كي يعرفه ويعبده\".

 

وكما يصبح الإنسان نظيفا إذا مارس الوضوء حتى ولو لم يكن مسلما كذلك يناله الخير إذا مارس سلوكيات العبادة كالتفكر والخشوع والتأمل Meditation لأنها توظف مراكز أشبه ما تكون بمراكز الإيمان داخل المخ تعمل على الارتخاء والتخلص من المشاعر السلبية مثل الخوف والقلق والاكتئاب، وينتقل الإنسان من حالة الاستنفار والتوتر إلى حالة الراحة والسكينة حتى ولو لم يكن لصاحبها نصيب في ثواب الآخرة، وبإعلان مراكز الإيمان عن نفسها يمكن كشفها إذا وجدت التقنية المناسبة، وباستخدام تقنية خاصة في التصوير بالأشعة السينية تجعل في الإمكان معاينة التغير في نشاط مختلف المناطق الوظيفية بالمخ أمكن تحديد مناطق تختص بالتركيز الفكري بالفص الجبهي (الناصية) يزداد نشاطها أثناء تلك الخبرة التأملية، ولكن تغير النشاط في منطقة الفص الصدغي التي تجعل الإنسان يدرك وجهته بالفراغ كان ملفتا للنظر، ويفترض نيوبيرج أن تغير نشاط تلك المنطقة يفسر إحساس الزهاد الذين بلغوا في صلواتهم درجة استغراق عميقة بانتقالهم بعيدا عن العالم الفيزيائي حولهم إلى حالة روحية لا يدركها غيرهم إلا بمعايشة نفس التجربة، وهم خلال تلك الحالة من التحليق الروحي والتسامي الإيماني يشعرون خلال أداء الأذكار والصلوات بعدم الاهتمام بالعالم الفيزيائي المحيط وأنهم في حضرة جلال أسمى ومعية ذات عليا قاهرة تأسر الفؤاد وتملك الوجدان يتضاءل معها كل شيء ويفقد أهميته.

 

وهكذا تأكد أن الاستغراق في العبادة يفتح آفاقا من الشعور بالتسامي ويقدم عونا على التخلص من آلام ومعاناة النفس والشفاء من الاضطراب كالقلق والتوتر والكآبة وتأثيراتهم البدنية، وتكرر الممارسة بانتظام يجدد القدرات بالانتقال إلى عالم تسترخي فيه النفس وتستريح من الضغوط، وفي تلك الحالة يُفقد الاهتمام بالعالم الخارجي رغم تزايد التنبه والوعي والجلاء أو تزايد الشعور به بل ربما عند درجة ما تزداد القدرة على احتمال الألم العضوي، قال د. لورنس ميكيني عميد المؤسسة الأمريكية لعلاج الاضطرابات الذهنية: \"إن ممارسة التأمل العميق باعتباره صوره من الخشوع قد يساعد في حد ذاته على التغلب على الشعور بالألم النفسي والإحباط ويعيد التوازن في توزيع النشاط في مراكز المخ ويفرغ شحنات الشعور بالتعاسة وفقدان الأمل حتى عند غير المؤمنين\"، وما يهمنا نحن المسلمون هو أن الشريعة الغراء قد سبقت في الحث على ذكر الله وإقامة الصلاة ونوهت بدور الإيمان والخشوع في راحة النفسº قال - تعالى -: \"الّذِينَ آمَنُوا وَتَطمَئِنّ قُلُوبُهُم بِذِكرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكرِ اللّهِ تَطمَئِنّ القُلُوبُ. الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ طُوبَىَ لَهُم وَحُسنُ مَآبٍ,\" الرعد 28و29، ومن توجيهات القرآن الكريم أن الخشوع في العبادة مفتاح السعادةº قال - تعالى -: \"قَد أَفلَحَ المُؤمِنُونَ. الّذِينَ هُم فِي صَلاَتِهِم خَاشِعُونَ\" المؤمنون 1و2، وفي الأثر قول النبي محمد - عليه الصلاة والسلام - آمرا بالأذان: \"أرحنا بها يا بلال\"(4)، ولنا أبلغ الأثر في قصة التابعي عروة بن الزبير عندما أصيبت قدمه بمرض يستلزم بترها أيام الخليفة الوليد بن عبد الملك فطلب ألا يقطعوها إلا أثناء الصلاة تجنبا للألم(5).

 

ووفق ما قاله د. ميكيني قد بدأت \"الدراسات النفسية الدينية\" في الستينيات من القرن الماضي عندما ذهبت مجموعة من الباحثين الأمريكيين إلى الهند لدراسة الموجات الكهربية للدماغ EEG لممارسي اليوجا، وفي عام 1980 أطلق ميكيني ومساعدوه مصطلح \"الدراسات النفسية الدينية Neurotheology\" وأخرج عام 1994 كتابه بنفس الاسم، ويقدم هذا العلم الجديد تأييده التام للحقيقة الجوهرية في الدين وهي الإيمان بالله، قال ميكيني: \"ويكفي أننا قد أوجدنا طرقا عملية لقياس الأنشطة الفكرية ولم يعد الإيمان بالله والمشاعر خلال الممارسات الدينية نشاطا فكريا غير قابل للتجربة والإثبات، ومن تلك التقنيات الجديدة طريقة التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي (MRI) Functional magnetic resonance imaging وقد أكدت نتائج نيوبيرج بالفعل\"، وبالمثل أكدت مجموعات طبية أخرى تلك النتائج منها فريق في بوسطن قام بفحص عدة متطوعين باستخدام تقنية الرنين المغناطيسي MRI فأكد وجود النشاط غير العادي خلال فترات الاستغراق التعبدي والخشوع لمناطق التركيز الفكري، واكتشف تغيرات في نشاط مناطق أخرى بالمخ تتعلق بالإثارة Excitability، ووجد فريق آخر بقيادة د. دوسيك عميد المعهد الطبي للأبحاث الذهنية تغييرا ملحوظا كذلك في نشاط مراكز بالمخ تتعلق بالذاكرة.

 

ويقول د. بليتريني من جامعة بيزا في إيطاليا: \"إن كل شئ نفعله أو نستشعره من نشاط بسيط كحركة إصبع إلى أعمق الانفعالات العاطفية الخبيئة بالنفس أو البادية مثل الغضب والحب يرسم خريطة مميزة المعالم للمراكز المتأثرة بالمخ ويصاحب كل شعور نموذج محدد يمكن تسجيله وتحليله كالتحاليل الطبية العضوية تماما، وهذا المجال الجديد لاستطلاع دخيلة الإنسان من عواطف ومشاعر وأفكار ومدى تأثره بالاعتقاد الديني ساحر حقا، ويدخل فيه الباحثون اليوم بحذر حريصين على المنهج العلمي في البحث والتحليل كبقية مجالات العلوم التجريبية\"، ويقول د. مايكل ماكلوف من جامعة دالاس بالولايات المتحدة الأمريكية: \"يتأثر الوجدان النفسي الروحي بالعالم الخارجي ويؤثر في الجسد ويمثل الإيمان والعبادة صمام أمان لتلك التأثيرات الطبيعية، وقد أفضت دراسته إلى أن الطبيعة البشرية مصممة بحيث تحفظها العبادة في توازن تام وتقيها الاضطراب\"، وفي تحليل شمل 42 دراسة ميدانية واسعة وجد د. ماكلوف أن معدل الوفيات يقل بالاستغراق في الصلوات وبقية العبادات، وهذا التأثير مستقل عن عوامل أخرى مضرة بالصحة كتناول الخمور والتدخين، ولم يفت د. نيوبيرج أن يعلق على تلك النتيجة العجيبة بقوله: \"نحن لا ندري حتى الآن على وجه اليقين كيف يؤدي الإيمان العميق والاستغراق في العبادة إلى الحفاظ على سلامة النفس وصحة البدن ومكافحة المرض وإطالة العمر، ولكن معرفتنا لآليات عمل الجسم البشري خاصة المخ تؤهلنا لتلمس آفاقا جديدة من البحث لنثبت يوما ما بحيادية وجود تأثيرات عضوية للإيمان والعبادة ندرك منها اليوم استقرار عدد ضربات القلب وضغط الدم والتغير الهرموني كماً ونوعاً والميل العصبي لتحقيق حالة من الهدوء نتيجة الخشوع والاستغراق، وقد تؤدي تلك العوامل وغيرها إلى تنشيط جهاز المناعة\"(6).

والتفكر الإيماني والذكر العميق والعبادة باستغراق خاصة في الصلاة ليست ممارسات خالية من التأثير الإيجابي على النفس كما على الجسد، فقد أثبتت الدراسات صحة المشاعر التي يصفها من عايشها في لحظة انفعال إيماني، ولا نجد تعبيرات عن قمة الشعور الإيماني سوى ألفاظ كالنشوة والرضا والسعادة والبهجة والنعيم وراحة البال، وتلك الحالة لا يرتقي إليها إنسان بطريق آخر كإشباع لرغبة عابرة أو تحقيق أمل بعيد المنال، ولذا طمح د. نيوبيرج رصد حالة الصفاء والهناء تلك بلا كدر وخز الضمير وعبء شعور بالذنب ليخصها بالوصف، ولكن بلوغ تلك الدرجة وإمكان تسجيلها صعب التحقيق ولذا اكتفى د. نيوبيرج بعدد من الحالات التي مارست بعض ذلك الشعور ووصفته بأنه حالة من الارتياح والخفة والصفاء رغم التنبه للمؤثرات الخارجية، ويصاحب حالة النشوة أو التحليق الروحي تلك زيادة الشعور بالعالم أو ما يسمى بالجلاء الروحي الذي يتكامل عند بلوغ الخشوع غايته حيث الطهارة والسمو والرفعة الروحية وأنفس متعة يمكن تحصيلها، ووفق ما سجله د. نيوبيرج كان شعور الذين خضعوا للتجارب لما حولهم أكثر واقعية ووضوح وجلاء عما اعتادوا خلال أداء الأنشطة اليومية، وكان صحيا ونقيا لم يصاحبه أي نوع من الخوف أو تشويش الذهن أو فقدان الشعور بالزمان والمكان أو الوساوس والهلوسة كما يحدث في حالة الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية وتعاطي المخدرات والإدمان بالعقاقير، ولم تهدف التجارب في المجال النفسي تلك لتمييز زيف أو صحة الاعتقادات وإنما إلى اكتشاف الآليات حتى عند غير المؤمنين، وهي تبين امتلاك الناس جميعا لأدوات للإيمان تنفعل بالخشوع في العبادة فتحفظ صحة النفس والبدن، وهذه الأدوات تصبح معدومة القيمة ولا عمل لها إذا لم توظفها العبادة مما يؤكد أن الإيمان بالله - تعالى -فطرة مركوزة في النفس البشرية ويؤيد صدق دعوة الأنبياء جميعا إلى عبادة الله الخالق وحده ويدحض ادعاء المغرضين في أن جوهر الدين في الأصل من ابتداع المخلوقين، وخلاصة تجارب د. نيوبيرج وأمثاله تقول: \"إما الرفعة والسعادة والمتعة الحقيقية في العبادة وإما الشقاء والجحيم\"، ولو تأمل الباحثون في ذلك المجال الجديد لوجدوا أن ما توصلوا إليه ليس إلا بعض ذخائر القرآن الكريم بصفته الكتاب الجامع للتعاليم الأصلية للرسل أجمعين والحاوي الوحيد لشريعة عالمية غير قومية تنسجم مع الفطرة السوية.

 

المحور الثاني الاستشفاء بالقرآن في منظور الشريعة الإسلامية

قال د. خالد بن عبد الكريم اللاحم في باب قراءة القرآن بقصد الاستشفاء بكتابه \"مفاتح تدبر القرآن والنجاح في الحياة\" (ج1ص40): \"قال الله - تعالى -: \"يَا أَيٌّهَا النَّاسُ قَد جَاءتكُم مَّوعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُم وَشِفَاء لِّمَا فِي الصٌّدُورِ وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِّلمُؤمِنِينَ\" [يونس: 57]، وقال - تعالى -: \"وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحمَةٌ لِّلمُؤمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا\" [الإسراء: 82]، وقال - تعالى -: \"قُل هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ فِي آذَانِهِم وَقرٌ وَهُوَ عَلَيهِم عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَونَ مِن مَّكَانٍ, بَعِيدٍ,\" [فصلت: 44]، فالقرآن شفاء للقلوب من أمراض الشبهات والشهوات والوساوس كلهاº القهري منها وغيره، وشفاء للأبدان من الأسقام، فمتى استحضر العبد هذا المقصد فإنه يحصل له الشفاءان: الشفاء العلمي المعنوي والشفاء المادي البدني بإذن الله - تعالى -..، والشفاء بالقرآن يحصل بأمرين: الأول القيام به وخاصة في جوف الليل الآخر مع استحضار نية الشفاء، والثاني الرقية به\"(7)، وقال السيوطي في الإتقان (ج1ص423): \"أخرج البيهقي..أن رجلاً شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وجع.. قال: (عليك بقراءة القرآن)\"، وفي سنن ابن ماجة (ج10ص326): \"عَن عَلِيٍّ, - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (خَيرُ الدَّوَاءِ القُرآنُ)\"، وفي حاشية السندي على ابن ماجه (ج6ص434) قال: \"قَوله (خَير الدَّوَاء القُرآن) إِم

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply