التقنية الحديثة مطلب من مطالب التغيير الإداري


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في عالم اليوم، يضطر العديدون أن يسلّموا بأن الفتوحات التقنية الجديدة المهمة قد غيرت مؤقتاً ميزان القوى العسكرية والاقتصادية.

وحتى بقاء كوكبنا نفسه أصبح موضوع بحث. ومع ذلك فالعديدون منا يفترضون أنه مهما غيرت التقنية الوسائل التي تمارس الأمم بموجبها مصالحها السياسية الجغرافية، فإن تلك المصالح نفسها تظل على حالها، على أن هذا الرأي لا يصدق دائماً.

إن التطورات المضافة في العلم والتقنية التي غالباً ما نلخصها بعبارة: \"ثورة المعلومات\" غيّرت شكل واتجاه الأحداث الوطنية والدولية بطرق أساسية.

فنحن نشهد ثورة في العلاقات بين الدول ذات السيادة وفي العلاقات بين الحكومة والمواطنين وبين هؤلاء المواطنين وأقوى المؤسسات الخاصة في المجتمع.

إن ثورة المعلومات تشكل تهديداً عميقاً لبنى القوى في العالم، ولسبب وجيه. فطبيعة الدولة وسلطاتها ذات السيادة تتغير بل تتعرض للخطر بطرق أساسية.

كما أن خريطة العالم السياسية الجغرافية يعاد رسمها. فعناصر توازن القوى التي سيطرت في الأربعين سنة الماضية قد أصابها الخلل بصورة دائمة.

كما أن مؤسسات أخرى في عالمنا، وعلى رأسها شركات الأعمال، تواجه تحديات بنفس القوة لأسلوب عملها، وستخضع لتغييرات عميقة مؤثرة.

ولا تزال ثورة المعلومات - رغم كونها أكثر الثورات ذكراً في التاريخ - تفهم فهماً قليلاً، فالكثير من التجديدات التي أعلن عنها بأعلى الأصوات لم يتحقق حتى الآن: المجتمع بلا شيكات، والمكتب بلا أوراق، والجرائد التي تصل عبر تلفزيون الكوابل، وطائرة حوّامة (هليكوبتر) في فناء خلفي لكل بيت.

يقول ولتررستون في كتابه: \"أفول السيادة\": ينظر إلى ثورة المعلومات عادة على أنها مجموعة تغييرات تحدثها تقنية المعلومات. وأهم تغييرين اثنين منها: تقنية الاتصالات الجديدة لبث المعلومات وأجهزة الحاسوب لمعالجتها.

فالمعرفة في واقع الأمر تعني الإطلاع على الوقائع والحقائق، أو المبادئ عن طريق الدراسة أو البحث. كذا بالإمكان اعتبار المعرفة تعبيراً منطقياً لما نطبقه على العمل في إنتاج الثروة، فالمعرفة هي المصدر النهائي لقيمة في عمل.

إن أرنباً يركض طليقاً في حقل ليس ثروة. بل يصبح ثروة نتيجة لمعلومات تطبق على عمل صياد: معلومات عن مكان الطريدة، وكيفية مطاردتها، وكيفية رمي حربة أو إطلاق سهم وطريقة صنع السهم أو القوس أو الحربة، إن ما سبق من المعلومات إذا أخذت وطبقت على عمل الصياد، تنتج قيمة، أي غذاء للصياد ولعائلته أو للمجتمع كله.

وتجدر الإشارة إلى أن لدى الاقتصاديين اسم للعمل الذي يقوم به الصياد لتحويل الأرنب إلى شواء: القيمة المضافة.

وحتى في العصور القديمة، كان قسم كبير من تلك القيمة المضافة عملاً فكرياً: معرفة الصياد ومهارته.

ومع ذلك، كان معظم القيمة المضافة - مادياً - أياماً طويلة في الحقل لمطاردة الأرنب، وجهوداً شاقة طويلة الأمد في تشكيل حربة أو قوس، وشحذ سهم أو رأس حربة. وبالطبع، كان الأرنب يوفر القيمة الأصلية للصفقة.

إن التقدم الاقتصادي، بصورة كبيرة، هو عملية زيادة المساهمة النسبية للمعرفة في إيجاد ثروة.

فقيمة سنبلة من حبوب برية يحصدها صيادون كانت مادية بشكل تام تقريباً، هبة من الخالق - سبحانه -.

وبمجيء الثورة الزراعية، تصبح سنبلة من القمح المهجن مزروعة في حقول مسيجة وخاضعة لدورات زراعية ومسمدة ومروية بعناية، تصبح إلى حد كبير جداً إنتاجاً مستمداً من العقل.

كما أن الثورة الصناعية طورت العملية أكثر عندما زاد الناس من قدرتهم على معالجة المادة وتشكيلها طبقاً لاحتياجاتهم.

 

وفي زماننا هذا، ازدادت أهمية مكونات المعرفة لكل التقنيات زيادة واسعة.

وكما أشار جورج جلدر فإن تقنية عصر المعلومات والشريحة الدقيقة ومكونات كل الاتصالات العصرية الأساسية وتقنية الحاسوب تتألف تقريباً بالكامل من معلومات.

إن لتقنيات المعلومات التي وفرتها الشريحة تأثيراً عميقاً على معدل التقدم في معظم العلومº إذ إن الحسابات التي كانت تستغرق سنوات، يمكن القيام بها في دقائق.

والمعرفة العلمية تتضاعف حالياً كل خمسة عشر عاماً تقريباً. وهذه الزيادة الكبيرة في المعرفة تجلب معها زيادة ضخمة في مقدرتنا على معالجة المادة بزيادة قيمتها بقوة العقل.

إن عالم العمل ودراما الإنتاج الاقتصادي والأساس الجوهري لوجودنا المادي الذي تسيطر عليه منذ عدة قرون قوى الصناعة العمياء، أصبحت تسيطر عليها الآن تقنيات وعمليات تتألف من العقل أكثر مما تتكون من المادة. وهذه التقنية والعمليات أسرع وأكثر تحركاً، وأقل اعتماداً على موارد طبيعة أو أجهزة مادية أو عمل بشري مما كانت عليه في الماضي القريب.

نحن الآن وسط ثورة تقنية واقتصادية هائلة ومع ذلك، فنحن معتادون على استعمال المقاييس الاقتصادية والاجتماعية التي طورت العالم نحو العالم الصناعي والعصر المتقدم الحديث.

حتى إننا قلما نتوقف لنفكر بأن المقاييس القديمة للتقدم والانحلال والنجاح والفشل آخذة في فقدان فائدتها.

فالكثير من الهستيريا الاقتصادية أصبحت خلفية متواصلة لمناقشات مقاييسنا الاقتصادية.

ويبدو أن الفائدة المتناقصة لهذه المقاييس هي أحد الأسباب التي جعلت العديد من اقتصاديينا الجيدين جداً مخطئين بشأن اتجاهات الاقتصاد المستقبلية.

إن اقتصاد المعلومات هو اقتصاد عالمي بصورة لا يمكن التحكم به، ويعود هذا جزئياً إلى أن التجارة بالمعلومات التي تقيدها الجغرافيا أو تثقلها المادة قليلاً هي عالمية.

واقتصاد عالمي حقيقي جديد، على عكس اقتصاد الماضي القريب، متعدد الجنسيات، يتطلب تنازلات من السلطة الوطنية.

اقتصاد كهذا، لا يمكن احتواءه حقاً أو السيطرة عليه باستراتيجيات تجارية أو وقائية.

لقد حولتنا التقنية إلى مجتمع \"عالمي\" بالمعنى الحرفي للكلمة سواء كنا مستعدين لذلك أم لا، فإن لدى الجنس البشري الآن سوقاً مالياً ومعلوماتية دولية متكاملة قادرة على تحويل الأموال والأفكار إلى أي مكان على هذا الكوكب خلال دقائق.

فرأس المال سيذهب إلى حيث توجد حاجة إليه، ويبقى حيث يعامل جيداً.

كما أن تدفق المعلومات لن يختفي، بل سيزداد، فسلسلة جديدة من الابتكارات في أجهزة البث التليفزيوني تحول العالم كله إلى سبق صحفي محلي.

فقد أصبحت أخبار التليفزيون طريق معلومات ذات كفاءة عالية، حتى إن التليفزيون تطور ليصبح قوة في الشؤون الدولية وسلاحاً في الدبلوماسية.

ورغم ما كتب وقيل عن ثورة المعلومات، إلا أن العديد من الناس لم يواجهوا حتى الآن كيف غيرت هذه الثورة الاقتصادية في الوقت الذي يدركون فيه أن أجهزة الحاسوب والاتصالات السلكية واللاسلكية قد أصبحت قوى اقتصادية فعالة.

إن العالم يتغير، ليس لأن مشغلي أجهزة الحاسوب حلوا محل الكتبة الطابعين وأصبح بإمكانهم إنتاج عمل أكثر في وقت أقل، بل لأن الكفاح البشري للبقاء والازدهار يعتمد الآن على مصدر ثروة جديد كلياً، ألا وهو المعلومات.

إذن الفرق بين الاقتصاد الصناعي القديم واقتصاد المعلومات الجديد هو فرق كمي، وليس مجرد فرق نوعي.

ومن ثم، فإن تقنيات المعلومات قد أوجدت اقتصاداً جديداً بصورة كلية، اقتصاد معلومات يختلف عن الاقتصاد الصناعي، بنفس درجة اختلاف الاقتصاد الصناعي عن الاقتصاد الزراعي، وعندما يتغير مصدر ثروة الأمم تتغير سياساتها، كذلك.

لقد غيرت الثورة الصناعية مصدر الثورة، فحولت أكوام الصخر والمواد الخام إلى ثروات من الفولاذ والبخار.

وحتى عندما أعطت قوة الدولة الوطنية، ليس فقط بزيادة إيراداتها، بل بتوسيع سلطتها التنظيمية والأسلحة اللازمة للسيطرة على هذه الموارد والمناطق التي تضمها أيضاً.

ختاماً أقول: إن العالم بحاجة ماسة إلى نموذج من اقتصاد معلوماتي ستخطط أشكاله ووظائفه.

فقد أصبحت الآن القواعد والعادات والمهارات والمواهب اللازمة لكشف وتصيد وإنتاج وحفظ واستغلال معلومات، أهم قواعد وعادات ومهارات ومواهب الجنس البشري...

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply