الإبداع ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في الإبداع سبق ومبادرة، والقرآن الكريم يدعونا لذلك:{ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم}، { فاستبقوا الخيرات}.. ويمتدح المسارعين السابقين من رهط الأنبياء والمرسلين { أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}.

وفي الإبداع قيادة وإمامة، والله - جل وعلا - حثنا على طلب ذلك عندما جعله مطمح عبادة المتقين، عندما يدعونه مبتهلين { ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً}

 

ومبدأ الإبداع الفكر والتفكير، والقرآن الكريم مملوء بالدعوة إلى إعمال العقل بالتدبر والتفكر: { قل سيروا في الأرض فانظروا}، { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها}، { قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون}، { أولم يتفكروا في أنفسهم}، { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا}.

والدقة والتحري من متطلبات الإبداع، وأداتهما الدليل والبرهان، والقرآن ينادي: { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}، وطريقهما اليقين لا الظن، وينعى على أهل الظنون:{ إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين}، وأساسهما التثبت، والمبدأ القرآني:{ فتبينوا} مشهور ومعلوم، وغايتهما الحق، وإن خالفه الأكثرون:{ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}.

 

والمقارنة والقياس من مهارات الإبداع، والقرآن ينبه على ذلك: { وما يستوي الأعمى والبصير* ولا الظلمات ولا النور* ولا الظل ولا الحرور* وما يستوي الأحياء ولا الأموات} .. { مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلاً}.

وفي الاعتبار بالنظر في مآلات الأمور، وقياس الأشباه والنظائر يقول الحق - جل وعلا - في شأن بني النضير: { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار}.

والتقليد والتبعية من ألد خصوم الإبداع، وقد عابها القرآن الكريم، وجعلها من صفات الذم:{ وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون* قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون}، وقد نعى الله ذلك الفعل على الكافرين في قصة إبراهيم الخليل:{ إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون* قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين* قال لقد كنتم وآباؤكم في ضلال مبين}. والمصطفى - صلى الله عليه وسلم - أعلنها صيحة تحذير: ( لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا) [ الجامع الصحيح ].

 

والخوف من الفشل، والخشية من الإخفاق، من عوائق الإبداع، وفي فسحة الاجتهاد ما يبدد المخاوف، ويزيل القلق، فأعمل الفكر، واجتهد في النظرº فإن أخطأت فلك أجر، وإن أصبت فلك أجران، وابتهل بالدعاء: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}.. وقد ( رفع عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم- الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).

والنمطية والروتين معارضان للإبداع، والقرآن يلفت النظر إلى التأمل الواعي المتدبر فيما هو ثابت دائمº لئلا يتبلد الحس، ويركن إلى الإلف، ويستسلم للعادة:{ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون* قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون}، والمصطفى- صلى الله عليه وسلم - كان يتخوّل أصحابه بالموعظةº مخافة السآمة عليهم، وابن عباس كان يدرّس في التفسيرº فإذا شعر بكفاية الدارسين، عمد إلى تجديد نشاطهم فقال: \" أحمضوا بالشعر أو هاتوا كتب الشعر\".

 

وإن من أكثر معطيات الإبداع، أهمية الفكاك من أسر الواقع المستحكم، وإطلاق أعنة الخيال، وإحياء روح الأمل، وتصور الأحوال في غير أنساقها الآنية، وظروفها الوقتية، فعندما ضاقت الأمور واشتد الأذى جاء خباب بن الأرت ينادي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: \" ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا \" فذكّره الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم - بمن كان قبلهم ممن عذبوا عذاباً شديداً إذ قال له: ( كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون) [ الجامع الصحيح].

 

وفي يوم الخندق، يوم اجتمع إلى شدة الجوع شدة البرد وشدة الخوف، وأحكم الحصار:{ إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم}، وعند حفر الخندق أخبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم- بأن أمته ستملك قصور الحيرة والبصرة وصنعاء، فاطمأنت النفوس وسرحت الخيالات في الآفاق البعيدة.

لم تكن هناك خطوات محددة، ولا كيفية موصوفة، ولكنها الآفاق الرحبة، تنطلق في ميادينها النفوس والعقول، فتتأمل وتفكر، ثم تنظر وتخطط، ثم تعمل وتنفذ، ثم تبدع وتبلغ، ويوم كان سراقة يطارد المهاجرين الكريمين، بشرّه الرسول- صلى الله عليه وسلم- بتاج كسرى وسواريه، فما أعجبها من بشرى، وما أعظمه من منهج وهدي.

 

بعد تلك الومضات من الآيات والأحاديث، والقصص والوقائع، ألا ترى معي أن متطلبات الإبداع مذخورة في ثنايا القرآن والسنة، ومفاتيحها بين أيدينا لو تأملنا وأقبلنا!، ألا ترى أن كل ما يحد من ملكة الإبداع، ويعوق انطلاقها، قد وجب التحذير منه والتنبيه عليه! ثم من بعد ذلك، ونحن في عالم اليوم الذي اختصرت فيه المسافات، وتضخمت حتى الانفجار ثورة الاتصالات والمعلومات، وصارت المستجدات تحسب بالثواني لا بالساعات، هل يسوغ أن نظل نراوح في أماكننا ونعيد باليوم ما قلناه بالأمس، ونفعل هنا عين الذي فعلناه هناك، دون إعمال فكر، ولا شحذ ذهن، ولا دراسة تاريخ، ولا استخلاص عبرة، ولا نظرة لمستقبل، ولا نهضة في واقع؟ كلا! فليس هذا شأن المبدعين.

 

  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply