شاعر المليون !


 

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد كان الأدب غطاءً كبيراً لكثير من الصراعات السياسية في غابر الأزمان، يجد ذلك من يقرأ في التاريخ، ويسبر غوره، ويدرك حركيّته، ويتأمل مراحل نشوء الدول، وما يعترض طريقها من أخطار محدقة، وفتن متطاولة، وخلافات مستشرية على جميع الأصعدة العامة والخاصة وخاصة الخاصة بين أهل السلطة وأرباب الولاية، وكم مرة كان فيها الأدب ناصراً ومعيناً يؤجج النفوس، ويستثير النخوة ويوحّد الكلمة، وينصر الحكم، وكم مرة كان فيها الأدب ملعباً يغري السابلة، ويصرفهم عن شؤون الحياة، ويبعدهم عن الواقع السياسي، ويلهيهم عما يحدق بالأمة من أخطار، وما يلفها من خلافات، وما حادثة النقائض الشهيرة بين شعراء الدولة الأموية إلاّ حسنة من حسنات الأدب على الناس والدولة..وفي التاريخ الإسلامي والغربي ما يملأ صفحات النفس والحياة من القصص المشابهة والأحداث المتقاربة والتي كان فيها الأدب السفير الذكي لصرف الألباب عن التفكر في الواقع أو الذهاب به في مسار محدد يُراد منه نصرة شخص أو مذهب أو ملة... !

واليوم يطرق أسماعنا برنامج يقوم على هذه الفكرة، ويتناول هذه الأغراض، ألا وهو برنامج (شاعر المليون)، وهو برنامج يهدف في صورته القريبة إلى نصرة الشعر (النبطي) الجميل، وعرضه على المتلقي، وأخذ رأيه فيه، ومن يصل إلى قلوب الناس، ويلامس عواطفهم، وينتصر في مشواره فإنه يحصل على جائزة مالية مقدارها (مليون درهم)... هذه الرسالة وصلت إلى أذهان الملايين من عشاق شعرنا (النبطي)، وأشغلتهم عن كثير من البرامج الأخرى الفاسدة المفسدة القائمة على إثارة العواطف، ودغدغة المشاعر، وتحويل الحياة إلى بضاعة تتحكم فيها الأهواء، كما هو حال البرنامج الشهير (ستار أكاديمي).

ولكنني عندما أتأمل مثل هذا البرنامج الشعري أجد فيه رائحة عتيقة تصطدم بعقلي لتثير فيه أفكاراً قديمة، وتنبش تاريخاً قد عفا عليه الزمن أيام كان للشعر أثره البالغ في ملامسة القلوب، واستجلاب النصرة، واستنصار القبيلة، والاستعداء على المخالف، مما كان له أعظم الأثر في تفتيت كيان الدولة المسيطرة، وإضعاف قوتها، وهزّ مركزها لتنتظر من بعد الفتنة الكاسحة والكيان الآخر.

يقول ابن خلدون: \"في الأمصار التي يكثر فيها وجود القبائل، وتتنوع فيها المجتمعات يصعب إنشاء دولة قوية مستقرة\". وهذا كلام في مجمله صحيح إذا أخذناه في إطار زمني ومكاني متباعدين ممتدين، ووجد ما يثير هذه القبائل ويشعل فتيل العصبية، ويؤجج الإحن الكامنة كما نجده في أمثال هذا البرنامج القائم على مدح كل شاعر قبيلته، وشحذ هممها لمناصرته، وبيان شيء من تاريخها الذي يمسّ من طريق غير مباشر قبائل أخرى، ولعل للشعراء عذراً فيما فعلوا، لأن القائمين على هذا البرنامج قد كسبوا الحمد والثناء في رعايتهم للفكرة، ثم أرادوا أن ينسحبوا منه بهدوء هذا إذا لم تتقافز الأطماع أمام أعينهم، فجعلوا النسبة العليا (70 %) من تقييم الشاعر بيد الجمهور الذي لا يعترف أغلبه بغير الانتماء إلى القبيلة بالدرجة الأولى، والوطن بالدرجة الثانية، من غير حيادية شعرية تنصر الشاعر القادر المتمكن أياً كانت قبيلته، وأياً كان بلده... وهذا منحى خطير يستوجب على القائمين أن يقفوا عنده، ويتأملوا عواقبه الوخيمة على النفوس والعقول، وعلى الأفراد والمجتمعات، ومما هو معروف عند أقل الناس اطلاعاً أن من وسائل الكيد الظاهر لأعداء الأمة الإسلامية والعربية والخليجية هي إثارة التفرقة، وطعن روح التعاون والأخوة الجامعة، وترويج ثقافة الهمج والرعاع والانتماء الحزبي والعقدي والقبلي، وتوسيع شقة الخلاف طائفياً كان أو قبلياً أو اقتصادياً..

وما نراه في العراق ظاهراً للعيان من فتن تزلزل القلوب، وتورث البغضاء يراه المستبصرون العارفون في الصراعات الخفية مما يدور داخل تيار الحياة، ويوشك أن ينفجر كبركان عنيد، لا يعرف قراراً حتى يجعل الديار بلاقع... !

إن وجود دولة قوية ذات أثر في الحياة لا يتم إلاّ من خلال سلطة مركزية ذات نفوذ شامل، لا تعترف بسيادة عرق على عرق، ولا بأفضلية لون على لون، ولا بأحقية منطقة على أخرى، وبغير هذا لا يتم لأي دولة أن تحقق لها حصانة تمنعها من الضعف والخور والدخول في دائرة الاندثار والزوال.. هذا هو البعد السياسي لأمثال هذه البرامج البادية للعيان مسلية ملهية وتحتها الأعاصير الثائرة، وليس يهم القارئ ولا المفكر أن يكون القصد من إنشائها ودعمها حسناًº لأننا يجب أن ننظر في مثل ظروفنا الراهنة إلى القضايا من خلال ما تعانيه الأمة كلها، وما يُراد لها من تخطيط يسعى إلى تفتيتها وتحويلها إلى ولايات تابعة لأمريكا..

والمطلع على تاريخ الماسونية العالمي يدرك خطر كثير من البرامج التي تُدار بسذاجة من قبل مسؤولين لا يريدون غير شهرتهم، ولا يطمحون إلاّ لإيجاد قاعدة جماهيرية لهم، ولو كانت قاعدة هشة لا توجّهها غير عواطف الغوغائيين الباحثين عن مطامعهم ورغباتهم... يدرك خطرهاº لأنه يعلم أنها تُدار بخيوط غير مرئية عبر عملاء مدربين قد يكونون مفكرين أو أدباء أو شيوخاً أو أمراء.. وعبر مغفلين غرهم البهرج الزائف، واستدرجهم الكرم الحاتمي، ولوت أعناقهم الشهرة الإعلامية، والصيت الكاذب.

لا بد أن نعي ما يُدار في عالمنا القبيح القائم على المصالح والخطط الإستراتجية البعيدة المدى، وأن تكون نظرتنا ذات أبعاد دينية عالمية لا تنتمي إلى قبيلة معينة أو بلد خاص، أو قومية منتنة، وإلاّ فسيأتينا الزمن الذي أطاح بمن هم أشد منا قوة وإعماراً للأرض.. !

وعندما نريد أن نصنع برنامجاً يحقق نجاحاً في حياة الناس، ويثري عقولهم، ويرفع من قدرهم لا بد أن يكون برنامجاً حيادياً ذا ضوابط واضحة، وأسس معرفية يتفق عليها العقلاء، ومعايير نقدية محترمة تخدم الأدب والعلم والحياة، ولا بد أن تكون اللجنة المنظمة والمحكمة على قدر من العلم والمعرفة والأدب والأخلاق ممن لهم مشاركتهم الفاعلة في دنيا الناسº لأن وجود أفراد لا يتمتعون بمعرفة كافية وحيادية علمية وأدب واسع في مثل هذه المحافل يجعلنا نستريب في صحة الحياة السياسية التي نحياهاº ففي المجتمع الصحيح الواعي لا يسود غير الصالحين العالمين، وفي المجتمع الفاسد المريض لا يسود غير الرعاع ممن تنقصهم المعرفة، وتكثر عندهم الصفاقة والسفاهة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply