مقامات أبي الطيب (1) المقامة العزمية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

حدَّثنا أبو الطيِّبِ الوائليٌّ، قال: اعتراني في سحرٍ, من الأسحارِ، ما ألزمني بالاضطرارِ، أن أسيرَ هائمَ الوِجَهَةِ في الدروب، عائمَاً في همٍّ, الكروب، لا ألوي على أحدٍ, من الخِلان، و لا أطوي السيرَ لمنادمة الأخدان، إذ سربَ مني كلٌّ معلومٍ,، و عَزَبَ عنِّي كلٌّ مفهومٍ,، و ما أقبحَ الهمَّ بالفتى، و ما أشيَنَ الكربَ مُقتنى، حيثُ فتَرَ بي عن الكمال العزمُ، و ضعُفَ مني نحو المراقيَ الجَزمُ (1)، و ما كان ذاك يوماً من خُلُقي، و لا معلوماً في خَلقي.

فبينا أنا في الطرقِ المسلوكة، بين المباني المسبوكة، انتهى بي المطافُ، و حطَّني التطوافُ، في مجمعٍ, كبيرٍ,، و محفلٍ, وفير، تعتلي رؤوسَ جالسيه العمائمُ البيض، يتبادلون نثرَ القريض، و يتصدَّرُ مجلَسَهم عظيم المقام، بليغُ الكلام، يأخذُ قلبَك بلفظه، و يُحدِّقُ فيكَ بِلَحظِه، يُحسِنُ سَبكَ العبارات، و يُتقِنُ حبكَ الأحرفِ المرصوفات، فجلستُ حيثُ انتهيتُ، و أدركتُ من كلامه ما وَعَيتُ، و إذا بِه مُسهِبٌ في إيضاحِ الأشعار، مُبِينٌ دقائقها بالآثار، فأدهشني و سحرَني، و أعجبني و بَهَرَني، فأصغيتُ بالقلبِ و الأذنُ في شُغُلٍ,، و أنصَتٌّ بالفؤادِ و العينُ في وَجَلٍ,، خوفَ الفِطنَةِ لما حلَّ بي، و رهبَةَ المجلسِ الأدبي، فكان مما قالَ المُقدَّمُ، و ما فاهَ بِه المُفَخَّمُ:

 

إن العزمَ بضاعةُ أهل الكمالِ، و صنعةُ أفذاذِ الرجالِ، يَعزمون أمورهم بقوةِ اليقين، و يَحزمون أنفسَهم بجودة التمكين، فيسيرون في نيل المآربِ سَيرةَ الواثقِ، و ينشُدُونَ المطالبَ بالحقائقِ، لا يعتري سبيلَ السائرِ منهم صغيرٌ حقيرٌ، و لا يحجبهم عن مرادٍ, تنفيرٌ و تثبيرٌ، فبقدرِ ما هُم فيه مِن الهمِّ و الهمةِ، أدركوا كلَّ حاجةٍ, و مهمة، و درأوا عن أنفسهم الملماتِ، و أزاحوا موجباتِ الملامات، و النهوض بالعزائمِ في النفوسِ، و الارتقاءُ بها من مواطنِ البُوس (2)، حالُ راغبي الكمال، و طالبي الاتصال، و أمرُ ذلك سهلٌ هيِّنٌ، و يسيرٌ ليِّنٌ، و إنما العيبُ في نظرِ أعينِ الناسِ إليه، و عدمِ الإقبالِ عليه، و الصادقُ الساعي، و النابِه الواعي، يُدركُ من نفسِه أسراراً، و يكشفُ أمرها سراً وجهاراً.

ثم أدرِكوا بقلوبٍ, واعية، و آذنٍ, مُصغِيَة، إلى ما أشارَ إليه الحكيم، و ما أومأ إليه ذو الخطبِ الجسيم، إذ مدارُ الأمور صِغراً و كِبَراً، على ما بدا للنفسِ مُظهرا، فَمن استكبَرَ الحقيرَ استكان لهوانٍ,، و من استحقرَ الكبيرَ علا لَهُ الشان (3)، فكم من كبيرِ همةٍ, و عزيمةٍ,، أودَتهُ مخاوفُه السقيمة، حيثُ لا يرتضي من المنازل، و لا يَرغََبُ من المحافلِ، و لو أدرك في فقاهةِ عقلِهِ، و درى بكياسةِ نُبلِهِ، أنَّ الأمورَ ليست كما هي في الظاهرِ، و أنَّ اعتبارَها بما في المخابرِ، لَحظيَ بالمضمون الطيِّب، و شمخَ له العلَمُ اللهيِّب، و لكنَّهُ استعظمَ في باطنه المُحَقَّرات، و ادعى لها شأنَ المُعظَّمات، و اللائقُ بأهلِ السعاية الكاملة، و ذوي الرعايةِ الشاملةِ، استسهال كلِّ صعبٍ, شديد، لِدَركِ المُنَى المجيد، و لقد سرت النَّقلةُ لأشعارِ العربِ، و أبلغتنا الرواةُ من أهل الأدبِ، قولَ الأولِ القديم، في شعرِهِ الحكيم:

 

لأستَسهِلَنَّ الصَّعبَ أو أبلُغَ المُنى *** فَما انقادَت الآمالُ إلا لصابرِ

و يا تُرى كم راءٍ, الجميعُ في أحوال الناس، و دارٍ, الكلٌّ في مختلَفِ الأجناسِ، مِن أقوامٍ, لا يُؤبَهُ بِهم في مظاهرهم، و إنهم الأكملون في مخابرهم، قد أدركوا ما عجزَ عنه الغَيرُ، و نالوا ما تغَنَّت به الطيرُ، فليس الشأنِ بالأشكالِ و الألوان، و إنما باليقين و صمودِ الجَنانِ، و صِدقِ الرغبةِ في المطالبِ، و اغتنامِ فُرَصِ المآرِبِ.

 

و مُحصَّلُ ما نثرناهُ، و خلاصةُ ما رُمناه، أنَّ يعلمَ السائرُ في دربِ الكمالات، و السالكُ طرائقَ الولايات، أن استعظامَه الأمورَ حجابٌ منيع، و خُلُقٌ وَضِيع، و أنَّ الضِّدَ أكملُ، و العكسَ أجملُ، فيستصغِرَ ما يَريدُ، ليبلَغَه و يُجيدَ.

فالصبرُ وًَصفُ الرجالِ، و نعتُ أهل الكمالِ، فالزموا غَرزَهُ، و افقهوا رَمزَه، و إياكم و الضجرُ، و السيرورةُ من الهمِّ في السَّحرِ.

و عليكم بجادةِ العزمِ المُسَدَّد، فإنه النهجٌّ المُمَجَّد، و الآفةُ في الاضطرابِ، و العيبُ في الانقلاب، و انشد الأوائلُ، الأكارمُ الأفاضلُ:

 

إذا كُنتَ ذا رأي فَكُن ذا عزيمةٍ, *** فإنَّ فسادَ الرأي أن تتردَّداَ

 

و إن رابَ ذا العزمِ خَوَرٌ، و اعتراهُ فَتَرٌ، فلينظُر إلى ذاتِهِ، و ما كمُلَ مِن صِفاته، فإنَّ المرءَ بالصفاتِ الكماليةِ تمامُه، و بالنعوتِ الجماليةِ التئامُه، و ما الأمورُ إلا عوارضُ، العزائم و الهممُ لهنَّ نواقضُ، فإياكَ أيها الحاضرُ النبيهُ، أن تُرعيَ سمعكَ لهالكٍ, سفيه، فيأخذَك نحوَ مراتعِ الدٌّناةِ، فتنأ عنك الكُمَّلُ الأباةُ، و اسلُك مراداتِك بقوةٍ, اليقين، بنعتِ القوي الأمين.

و ليعلَم العازمُ، ذو الهمة الحازم، أنه ليس من عزيمته، التقصيرُ في مِشيَتِه، فذو العزيمةِ آخذٌ أمورَه بالكمالِ، و آتياً به بها دون إخلالٍ,، و التقصيرُ ضعفٌ و عجزٌ، و همزٌ و لَمزٌ، و لقد أنشدَ الحكيم قائلاً:

لَيسَ عزماً ما مرَّضَ المرءُ فيهِ *** ليس همَّاً ما عاقَ عنه الظلامُ

فليَسع كلُّ في حاجته على إتمامها، و إكمالِ تمامها، أدام ربي عليكم نِعَمَه، و وقاكم شرَّ نِقَمَه.

فَنحاهُ (4) امرؤٌ بالسؤالِ، مفتتحاً بُحسنِ الاستهلالِ، سيدي الأمجد، و مولاي الأحمد، آنستنا بحديثكم الممتع، و أطربتنا بقولكم المقنِع، و إني قاصدٌ جنابَكم بسؤالٍ,، خالجني منه إشكالٌ، فإنَّ العزمَ في الأمورِ مقام العِليَة، و هو خير حليَة، فأبِن أبا الفَهمِ، عن محالِّ العزمِ.

فرأيتُ نواجِذَ الأستاذِ بادية، و عَلَتهُ بسمةٌ صافية، فأطرَبَه السؤالُ المورود، و أعجبَه السائلُ المحمود، فأطرَقَ الرأسَ في حالِ طَرَبٍ,، و حدَّقَ العينَ بِحُسنِ أدبٍ,، فقال للسائل الفتي، أيها الذكي الألمعي، إن لسؤالِكَ شأناً، و جوابَه أبَنَّا، فإليكَهُ مُقرَّراً، و دونَكَهُ مُحرَّراً، فأصغِ إليَّ بالسَّمعِ، منحك الله تمامَ النفعِ، إنَّ للعزمِ محلَّين اثنين، ظاهرين بِلا مَين، أولُهما: قَبلَ البَدءِ بالأمورِ، يُظهرُ الصادقَ من المغرور، تدفعهُ الهمةُ دفعاً، و ترفعهُ المقاصِدُ رَفعاً، و ثانيهما: في البقاءِ و الدوام، حتى الإنجازِ و الإتمامِ، و هذا مُعتَرَكُ أهل الكمال، و موطنُ مخابَرَةِ الرجال، فإنَّ الأمرَ كما قيلَ:

 

لِكُلٍّ, إلى شأوِ العُلاَ وَثَبَاتُ *** و لكِن قليلٌ في الرِّجالِ ثباتُ

ثُمَّ ختمَ الأستاذُ، و كلامه الأخاذُ، ذاك المجلسَ البديع، و المجمَعَ المنيع، بالحمد للهِ، و الشكرِ على ما أولاه، و الصلواتِ الطيبات، على أكمل القُدوات، وَ وعدَ بلقاءٍ, قريبٍ,، معَ شِعرٍ, رَطيبٍ,، و استودعنا الرحمن، و استأمننا بالأمان.

انتهى كلامُ الخبير، و أبلغَ في النعتِ و التصويرِ، و لقد أجادَ و أفادَ، و أحسنَ الإرشاد، و آليتُ على النَّفسِ أن أكون مُلازماً مجلِسَه، و أن أرعى حُرمَتَه و أونِسَه، فقلد أزال عني كُربَةً مُستَعصِيَة، و أزاحَ ظلمةً مُستَولِيَة، فلما همَّ بالخروج، قاصداً بابَ الولوج، يمَّمتُ وجهي إليه، و امتثلتُ بين يديه، فسلمتُ عليه سلامَ الأكابر، فردَّ بأجملِ العبائرِ، فقلتُ: أحسن ربي مقام الأديب، و رفع مكانةَ الخطيب، سرَّني كلامكَ المنوَّرُ، و لفظك المُحبَّرُ، و إني سائلٌ مقام أهل الشرفِ، مستمنحاً أسنى التٌّحَفِ، عن الحكيم الذي أبنتَ عن قريضه، و اكتفيتَ عن التصريحِ بتعريضهِ، هل إلى كشفِ اسمه من سبيل، و إلى نعتِ رسمه من دليلٍ,، فإنني واثقُ الخطى نحوه ديوانه، فمضمون الكتاب يبينُ من عنوانه.

فأجاب بكلِ لطفٍ,، بصوتٍ,ِ مُطرِبٍ, كالدٌّفِّ، ذاك أحمدُ بن الحسين، المشهورِ في كلِّ أذنٍ, و عين، أعني به المتنبي الكندي، أجلَّ الشعراءِ عندي، و بيتُه في مدحِ سيفِ الدولة، ذي الصولة و الجولة:

 

على قدرِ أهل العزمِ تأتي العزائمُ *** و تأتي على قدر الكرامِ المكارِمُ

و تعظُمُ في عين الصغيرِ صغارها *** و تصغُرُ في عين العظيم العظائمُ

فاستودعته الله، و أوكلته لمولاه، و رجعتُ حيثُ أتيتُ، و أثبَتٌّ فيما قرأتم ما وعيتُ، و دمتم في الرعايةِ، و أمنتم بالعناية.

 

---------------------

(1) الجزمُ: القطعُ، و المعنى: ضَعُفَ مني القطعُ في المسيرِ و العزيمةِ.

(2) مخفَّفَةٌ مِن: البُؤس.

(3) مخفَّفَةٌ من:الشأن.

(4) نَحاهُ، أي: قَصَدَهُ.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply