مضى نجيب ولا نحيب !


 

بسم الله الرحمن الرحيم

كنت في صباي مولعاً بقراءة الروايات، فلا تعجب إن قلت لك قرأت كفاح طيبة على كثرة ثرثرتها- في يوم واحد، وكان يوم وصول زقاق المدق من خارج البلاد يوم فرحة بكنـزٍ, -كنت أحسبه- ثميناً! وتلك نماذج فلم تكن كفاح طيبة الرواية الوحيدة التي أهدرت بسببها ساعات يوم كامل، ولا زقاق المدق الرواية الوحيدة التي أرسلت في طلبها من الخارج.

وليس ذلك مما يفتخر به، ولكني ذكرته لأقول لست في حاجة لمن ينبيني عن روايات نجيب وقيمتها الأدبية! فليس راءٍ, كمن سمع، ولاينبئك مثل خبير.

وبعد فقد مات نجيب وضج الإعلام المستغرب بالنعي والنحيب، ولم يكن في ذلك ما يدهش فنجيب هو الروائي العربي الوحيد الحائز على جائزة نوبل للآداب، والجائزة كما يرى بعض المعنيين \"جائزة معايير الغرب الثقافية والسياسية، أكثر من أي شيء آخر..وهي أداة النظام العام للغرب، أكثر مما هي أداة ثقافية نزيهة بين نخبة أو نخب سويدية مستنيرة وهي مستمرة في هذا النهج بدليل تاريخها الثقافي الملوث المستمر منذ \"بوريس باسترناك\" والدكتور \"زيفاكو\"، وآخرون فإذا كان عدو الغرب هو الشيوعية، مُنحت الجائزة لمنشق عن الشيوعية يُستحسن أن يكون يهودياً وهذه كانت أحد مؤهلات \"باسترناك\".

 

لا يجتمع الأدب الرفيع الجدير بالتكريم والثناء في مثل روايات نجيب! الذي نحى في الأدب منحى غربياً لم يكن له رواج في عصور ازدهار الأدب الإسلامي إلاّ إبان الاختلاط بالأمم.

 

وإن كان عدو الغرب هم الأصولية الإسلامية منحت الجائزة لمنشق من طراز آخر، ولهذا نالها داعي كامب ديفيد، ورشح لها سلمان رشدي وكاد أن يتناولها!

وكل ذلك يؤكد أن للمنسلخين نحو القيم الغربية شأن خاص مع تلك الجائزة ولا سيما إن كان الانسلاخ نحو قيم تلمودية توراتية وتجد مصداق ذلك في منحها قبل أكثر من عشرين عاماً لكاتب يهودي مجهول يعيش في نيويورك ولا يكتب أدبه إلا باللهجة \"اليديتشية\" اليهودية التي لا ينطق بها سوى أربعين ألف يهودي في العالم فكأنما هذه الجائزة هي بوجه من الوجوه متخصصة بالشذاذ، لا الكبار والشرفاء من كتاب الأوطان وحملة قضاياها، ومما يرسخ ذلك المفهوم نيل الكاتب المجري \"كريتش\" لجائزة نوبل في الأدب عام 2002م وكريتش هذا يهودي غاية همه وجل لَهَجه ذكريات وأخبار عن المعتقل النازي \"أشفيتز\"، فإن كتب في الصحافة العالمية فمقالات عن \"إسرائيل\"، يبدي فيها سعادته الغامرة برؤية نجمة داود على الدبابات \"الإسرائيلية\" المجتاحة، لموافقتها النجمة التي يراها عادة متدلية في طرف سلسلة ذهبية على صدره.. والطريف في الأمر أن القائمين على الجائزة لم يجدوا منافساً لـ\"كريتش\" غير صاحب آيات شيطانية، سلمان رشدي الذي خسر في اللحظة الأخيرة، وكأنها جائزة أسوأ الأدباء أو أحسن الأسوأ.

 

وإذا كانت الجائزة العالمية ذات معايير غربية وميول كالتي رأيت فلا عجب أن ينالها نجيب صاحب المواقف المعروفة المشهورة منذ مناصرته لاتفاقية كامب ديفيد (1978م)، الأمر الذي لاقى استهجاناً حتى من اليساريين الذين كانت صلاته بهم عامرة واستمرت حتى قبيل وفاته- ولم يكن كامب ديفيد أول الشذوذ الفكري، بل قبلها لم تكن الضجة التي أحدثتها (أولاد حارتنا) قد سكنت بعد، وهي رواية رمزية يستنتج كل ساذج من مجرايتها أن (أد(هـ)م) هو (آدم)، و(إ(در)يس) هو (إبليس) الذي وسوس لأدهم حتى أخرجه الجبلاوي من العزبة بعد أن طرد إدريس بداء الحسد أولاً، فدرج إلى حارة انتشر فيها بنيه الذين قتل أحدهما الآخر، وهكذا تمضي القصة التي لم تذر أنبياء الديانات الثلاثة فرمزت لهم، وتستمر حتى تدخل في مجرياتها شخصية (عرفة) رمز العلم والمعرفة، والتي تقضي في النهاية على الجبلاوي رمز الخالق - تعالى -الله عما يقول الظالمون! ولما كانت الرمزية في غاية من الوضوح بحيث لايحتاج البليد إلى من يرشده إلى فهم الإيماءات، وجد الأزهر ضرورة منع الرواية موافقاً رأي الشيخين الذين قدما ورقة الاتهام وهما كلاً من الشيخ سيد سابق والأستاذ محمد الغزالي - رحمهما الله - وقد كان هذا الأخير صاحب المذكرة التي صودرت بسببها أولاد حارتنا ولا أظن أن عاقلاً يعرف الرجل يتهم فهمه أو معرفته بالأدب!

 

ثم جاء بعد هذا الحدث قبول نجيب لجائزة نوبل عام 88م وفي حيثيات استحقاقه لها أربعة روايات إحداها (أولاد حارتنا). وإبان ذلك ظهر الجدل حول الهراء الذي أخرجه سلمان رشدي بعنوان: (آيات شيطانية) وعقدت بينه وبين رواية نجيب مقارنات وأخشى أن يخرج لنا إسلامي يتحدث عن قيمة آيات شيطانية أو كاتبها الأدبية! - فكان رأي نجيب مديناً للمعترضين معترضاً على فتوى الخميني إذ ذاك المهدرة لدم الدجال ذي الأصل الهندي.

ومضت الأيام ثم جاءت محاولة الاغتيال التي نفذ منها نجيب عام 94م، وسألته ممرضة عن حالته الصحية فأجاب ساخراً: \"يبدو أن الجبلاوي راض عني\"، ونشرت الكلمة في صحيفة الأخبار بتاريخ 7 ديسمبر/1994م الأمر الذي حدا بأحد المحامين إلى رفع دعوى في الثاني عشر من الشهر نفسه ضد نجيب بتهمة الافتئات على حقوق الله - عز وجل - وتسميته بالجبلاوي.

وإلى قبل وفاته بعام يؤكد بعض الصحفيين الذين اجتمعوا به بقاء أواصر العلاقة قوية مع الكتاب اليساريين وكذا الليبراليين يخصص لهؤلاء جلسات ولهؤلاء جلسات أخرى خشية أن تنشب خلافات بين الفرقين.

 

فلا عجب إذاً إذا احتفل بنجيب بعض رفاق دربه أو أتباع أثره من المستغربين ولكن العجب أن يغتر بذلك كاتب إسلامي فيظن جائزة نوبل دليلاً على نجابة نجيب حتى قال بعض من لم أكن أخاله يتفوه بهذا: \"وتقديري الشخصي أنه قد نالها عن جدارة واستحقاق، فلا يوجد أديب عربي معاصر آخر يدانيه في عبقريته الفنية\"، يارجل! ومتى كانت جائزة نوبل تقدم للعباقرة أصلاً ولاسيما في الآداب والسلام! وهل الأدب العربي هو تلك القصص التي منح الجائزة بسببها؟ ضاع الأدب العربي وضاعت الهوية العربية إذاً!

ثم قال كاتبنا الإسلامي: \"ويحسب لمحفوظ أنه لم يكن يمارس لعبة العلاقات العامة من أجل أن \"يسوق\" نفسه في الدوائر الأجنبية، كما يفعل أدونيس مثلا\"، وللأسف هذا حديث من لم يعرف محفوظ بل من لم يعرف أدونيس ولا نجيب! فالأول حاصل على نحو عشرة جوائز دولية عربية وغربية مختلفة في الآداب، وأما محفوظ فليست له إلاّ نوبل على رواية هزيلة، سوق لها نفسه تسويقاً ترفع عنه أدونيس فهل طلب هذا الأخير من الجنرال \"الإسرائيلي\" الأديب ساسون سوميخ نقد أعماله أو ترجمتها ليزكيها عند الغرب كما فعل محفوظ؟

 

لقد اختار سوميخ حكايات أولاد حارتنا ليكون موضع نقد وتحليل في كتاب صدر عن جامعة تل أبيب بعنوان: المضارعة في أسلوب القصة العربية المعاصرة، ويقول الدكتور حبيب بولس: \"ساهم سوميخ بترجماته لقصص وروايات نجيب محفوظ في نشر الأدب العربي وكشفه أمام أنظار العالم الأوروبي\"، وتلك العناية من ساسون قابلها شكر حار من نجيب وقد نشر الإعلام بعض مراسلاته التي كان مما قال فيها: \"شكراً لك تقديرك لدوري في أدبنا وأرجو ألا تكون مغالياً فيه كثيراً، أرجو أن أشكرك بنفسي في يوم قريب إن شاء الله، ولندع اللهم معاً أن تكلل المساعي المبذولة اليوم بالنجاح، وأن يعود شعبانا إلى المعاشرة المثمرة كما كان الحال في ماضيهما الطويل، فما لا شك فيه أن تعاوناً مثمراً قام بين شعبينا على مدي الأعوام الطويلة في العصور القديمة والوسطى والحديثة، وأن أيام الخصام كانت قصير ة وقليلة، غير أننا ويا للأسف عنينا بتسجيل لحظات الخصام أكثر مائة مرة من تسجيل أجيال الصداقة والتعاون، وإني أحلم بيوم يحيل بفضل التعاون المشترك هذه المنطقة إلى مقام مضيء بمشاعل العلم مبارك بمبادئ السماء السماوية، وإلى اللقاء يا سيدي الأستاذ العزيز وأنت وأوطاننا على خير حال.

 

المخلص نجيب محفوظ\".

وقد كتب حينها الكاتب أسامة فوزي معلقاً على مخاطبات نجيب التي نشرت بعض الصحف \"الإسرائيلية\" صوراً منها بخط محفوظ قائلاً: \"ما نخشاه الآن أن يدخل الكتاب العرب في سباق ماراثون لنيل رضى النقاد الإسرائيليين الذين يمتلكون مفاتيح الجائزة، والذين يرهنوا على ذلك عملياً بمنحها لروائي عربي كان سيظل عظيماً لو لم يبدأ رحلة السقوط إلى الهاوية عام 1959 ليصل إلى القاع في صيف عام 1978\"، وقال: \"وفي يوم الأربعاء 6/6/1979 نشرت لي جريدة الفجر الظبيانية مقالة ضمن سلسلة مقالات عن الفكر السياسي للكتاب المصريين، تطرقت فيها إلى موقف نجيب محفوظ وطمعه بجائزة نوبل للآداب من خلال استعراض فضيحة مراسلاته مع الناقد الإسرائيلي: (ساسون سوميخ) وهو جنرال احتياط- والرسائل تلك كشفت عنها صحيفة (جيراوزاليم بوست) الإسرائيلية ونشرت صوراً زنكوغرافية عنها بخط نجيب محفوظ يعترف بها قبل أن تنشرها الصحف الإسرائيلية\" نحن لا نمدح علي أحمد سعيد (أدونيس) ولكن قل لي بربك أيهما كان الأجدر بالجائزة ـ إذا ما خيرنا بينهما فقط ـ ذاك الذي حاز عشرة جوائز ما بين إقليمية وغربية وعالمية أو هذا الرجل؟

 

ولك أن تعقد مقارنة بين نجيب محفوظ هذا وبين برنارد شو فقد أُعلن فائزاً بجائزة نوبل عام 1925 فذهب وقبض قيمة الجائزة البالغة سبعة آلاف إسترليني ثم قام بتوزيعها علي الأدباء السويديين المعوزين وكان لهذه البادرة الطيبة أثرها في النفوس.

وعلق علي ذلك ساخراً قائلاً: إنها ولا ريب شهادة شكر لأنني لم أنشر شيئاً طوال هذه السنة! إنني أرفض هذه الجائزة لأنها مثل عجلة المطاط التي تلقي للسابح الذي يكون قد بلغ الشاطئ.

وأما جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي فقد رفض جائزة نوبل وكانت قيمتها 19 ألف جنيه إسترليني.. وقال: إن موقفي إلي جانب حركة المقاومة في فنزويلا يجعلني أنا وحدي ملتزماً تجاهها، بينما إذا تعاطف سارتر الحائز علي جائزة نوبل مع هذه الحركة فأنه يجر خلفه جائزة نوبل التي تمثل الهيئة التي منحتها.

وهكذا رفضها سبوران كما رفض غيرهم من أصحاب المبادئ غيرها من الجوائز التي تهافت عليها من ضاعت قيمهم تحت أقدام الغربيين.

ثم تأمل عزيزي القارئ ردة فعل الاشتراكيين في الذود عن قيمهم يوم نالها بعضهم وقارنها بردة فعل بعض إسلاميينا يوم نالها محفوظ، عندما أعلنت اللجنة المختصة بأن المستحق لجائزة نوبل للآداب هو المتصهين الروسي المنسلخ عن الثقافة الشرقية إلى الغربية \"بوريس باسترناك\" وذلك في الثالث والعشرين من أكتوبر عام 1958م، رأى السوفيت أن في منح \"باسترناك\" الجائزة تشجيعاً له على تفلته من القيم الاشتراكية السوفيتية فصدر الرد الحاسم قاضياً: باعتبار اختيار \"باسترناك\" للجائزة عدواناً على الاتحاد السوفيتي، ثم توالت الردود العنيفة منتقدة مضمون الرواية التي من أجلها رشح \"باسترناك\"، كما شنت حملة شعواء على الكتاب السوفيت المنشقين الذين يعملون بالأكاديمية السويدية لجائزة نوبل والذين كانوا وراء اختيار \"باسترناك\". الأمر الذي أسفر عنه اعتذار \"باسترناك\" عن الجائزة على مضض.

ثم واصلت الصحافة السوفيتية هجماتها على الرواية وصاحبها وتجاوزت ذلك إلى الجائزة ومانحيها، الذين احتفوا على حد تعبير بعض المجلات الروسية بـ\"كاتب يخون بلاده، وبكتاب تافه\"، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فطرد عقبها \"باسترناك\" من اتحاد الكتاب، ثم أسقطت هويته وبعضهم نادى بتصفيته الأمر الذي استدعى تدخل الرئيس الهندي الأسبق \"نهرو\" شافعاً لدى \"خورشوف\" من أجل حماية \"باسترناك\".

 

أما نجيب محفوظ فلما حاز هذه الجائزة الانسلاخية وللأسف الشديد صفق لأدبه ورفع من شأنه بعض الإسلامين! وتحسف على فقده آخرون فقدموا أسمى آيات العزاء! فرحم الله ابن عقيل حيث يقول: \"وإذا أردت أن تعلم مكان الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعري عليهما لعائن الله- ينظمان وينثران، هذا يقول حديث خرافة، والمعري يقول:

تلوا باطلاً وجلوا صارماً وقالوا صدقنا فقلنا نعم!

يعني بالباطل كتاب الله عزوجل، عاشوا سنين وعُظّمت قبورهم، واشتُريت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة الدين في القلب\".

وهذا يقوله ابن عقيل في المعري على الرغم من التشكيك في نسبة بعض ما اتهم به إليه، وعلى الرغم من التشكيك الذي لا يخلو من وجه في مراده ببعض ما نسب إليه، بل على الرغم مما ينقل من توبته آخر عمره، بل على الرغم من ضربه في الأدب العربي بباع لا تضاهي طوله قامة نجيب كاملة.

 

ثم تأمل ما ذكره البخاري في كتاب الفتن من صحيحه قال: باب إذا بقي في حثالة من الناس؟ وذكر فيه حديث حذيفة قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، ثم ذكر الذي رأى شيئاً منه وهو ارتفاع الأمانة، وأشار إلى الذي ينتظره بقوله: وليأتين على الناس زمان يقال للرجل فيه: \"ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان\"!

أترانا اليوم على أعتاب باب البخاري؟

إنه لا يجتمع العقل والظرف والجلد المحمود في نحو هذا.

وكذلك لا يجتمع الأدب الرفيع الجدير بالتكريم والثناء في مثل روايات نجيب! الذي نحى في الأدب منحى غربياً لم يكن له رواج في عصور ازدهار الأدب الإسلامي إلاّ إبان الاختلاط بالأمم.

إنه لا إشكال في ضجيج المستغربين بوفاة نجيب، ولكن ما يثير الدهشة كتابة بعض الطيبين عن نجيب ورفع مقامه الأدبي على نحو أولئك المستغربين، بل ومحاولة الاعتذار عنه فيما لم يعتذر عنه خلال قرن إلاّ خمسة أعوام عاشها نجيب! ورحم الله الشيخ عبد الحميد كشك يوم أصدر: (كلمتي في الرد على نجيب محفوظ) فرآها البعض تحريضاً على قتل النجباء! وليت شعري لو رأى بعض إسلامي اليوم وهم يعظمون أدب الرجل فماذا كان يقول؟ لا أخالها إلاّ كلمة ابن عقيل.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply