والفعل دون الشامخات ركام!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على حبيبنا وقدوتنا وعزنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبتُ إليه بعدَ السلامِِ عليهِ رسالة كان منها:

ما رأيكم بقولِ الشاعرِ البليغِ محمد المقرن في مليكة الطهر:

نبني من الأقوال قصراً شامخاً                      والفعل دون الشامخات ركامُ

فكان الجواب:

أخي الفاضل حماك الله من قول وتر لم يشفع بعمل، وجنبك فتنة القول والهذر، وقلة الفعل والعمل، والشاعر يقول في بيته الذي كملت فيه البلاغة: بعض المسلمين - هداهم الله - تطاولوا في القول وبنيانه، فأقوالهم قصور منيفة، وخمائل لا يطير غرابها، وأفعالهم أنقاض وقيعان، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وهي صفة ذميمة ((يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون))، وقد ناصرنا إخواننا المسلمين المهانين في أرجاء البسيطة بالثرثرة والتباكي باللسان، وأفعالنا تعين الكفار على إخواننا، فارفع بصرك في القنوات الطافحات بالمجون من شاشات وشبكات ومجلات، وسرح نظرك قي عماد الأمة الشباب وتشبههم بأعدائهم الذين هتكوا أعراض إخواتهم، ومزقوا كرامة بناتهم، ترى ما يذيب القلب من كمد، فلا حول ولا قوة إلا بالله! وما أذمّها وأقبحها من صفة حين تكون من معلم لطلابه، ومن والد لأولاده، وفي ذاكرتي الجامعية مدرس متعالم جاهل كان يحثنا أن نجعل دروسنا ممتعة، جاذبة للطلاب، ودروسه مملة منفرة! وحين كنت طفلاً في الابتدائية نصحنا مدرس عن شرب الدخان، فأرهب نفوسنا بسياط موعظته، وألهب قلوبنا بشواظ كلمته، فتأثرت النفوس، وتغيرت القلوب: غربت فأبقت كالشِّواظِ عَقِيبها              شَفَقًا بحاشيةِ السماءِ طويلاً

فلما خرجنا ولما تذهب من نفوسنا حرارة خطبته نظرت إليه فإذا هو يخفي علبة الدخان في ثيابه!!، وانتشر بيننا أن مدرسنا الواعظ يدخن!! فأحسسنا أنه يسب نفسه، ويستهزئ بنا، وحدثني أحد الشباب: أن معلماً في مدرستهم كان سيئ السيرة، شرساً شَكِساً، فتحدث يوماً في إذاعة المدرسة عن فضل حسن الخلق، واللين في المعاملة!! فيقول هذا الشاب: والله إن بي صمماً مما يقول! ولم يستطع الاستماع إليه!

التناقض والاضطراب بين القول والفعل لا يثمر إلا الحنظل، وقد قال ابن المقفع - المقدوح في عقيدته -: من علامات اللئيم المخادع أن يكون حسن القول، سيئ الفعل، وجاء في كتاب (هكذا حدثنا الزمان) لابن جوزي عصرنا الشيخ عائض القرني: \"يقولون أن من علمته بلسانك فإنه لا يتعلم أبداً، إذ لا بد من الفعل مع القول\"، قال العلامة محمد البشير الإبراهيمي - رحمه الله تعالى - في وصيته للمعلمين: \"ثم احرصوا على أن يكون ما تلقونه لتلاميذكم من الأقوال منطبق على ما يرونه ويشاهدونه منكم من الأعمال، فإن الناشئ الصغير مرهف الحس، طُلعة إلى مثل هذه الدقائق التي تغفلون عنها، ولا ينالها اهتمامكم، واعلموا أن كل شيء تنقشونه في نفوس تلاميذكم من غير أن يكون منقوشاً في نفوسكم هو زائل، وأن كل صبغ تنفضونه على أرواحكم من قبل أن يكون متغلغلاً في أرواحكم فهو لا محالة ناصل حائل، وأن كل سحر تنفثونه لاستنزالهم غير الصدق فهو باطل\"(الهمة العالية للشيخ الحمد ص142 - 143).

فالقول بلا عمل رذيلة، والكلام لا يفيد ما لم يتوج بفعال، قال الإمام ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - في صيد خاطره:

\"لقيت مشايخ أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان انفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه، والأدباء والشعراء هم أكثر الناس وقوعاً في هذه الرذيلة، وهم أرباب التناقض، فهم يقولون ما لا يفعلون - إلا من رحم ربك، وقليل ما هم! -، فإن قلبت ديوان أحدهم تجده قد خلط اللؤلؤ بالحصى، والدر بالبعر، والذهب بالبهرج، فهو حكيم بشعره ونثره، سفيه بفعله وسلوكه، فهم ((كمثل الحمار يحمل أسفاراً))، قد أوهنهم علمهم، وأذهلهم حلمهم، وأعمتهم حكمتهم، وحيرتهم بصيرتهم، قال فيلسوف: \"من يصف الحكمة بلسانه ولم يتحل بها في سره وجهره فهو في المثل كرجل رزق ثوباً، فأخذ بطرفه فلم يلبسه\"، وفي لطائف اللطف: \"أن أحد الأدباء دخل يوماً على نصر وفي يده دفتر - وكان ممن يسئون آدابهم - فقال: ما هذا؟! قال كتاب أدب النفس، قال: فلم لا تقول به؟\"، ولتتنبه أخي القارئ أني لا أقصد أهل الحداثة والغثاثة، والنجاسة والرجاسة، حمير الكتابة ولقطاء الأدب، المستهزئين بالله - تعالى الله وتقدس - وبأنبيائه - صلى الله عليهم وسلم -، وملائكته وكتبه ودينه، الملوثين للعقول والأعراض، المفسدين للغة والأدب! فهم ليسوا من أهل الأدب والشعر فهذيانهم أقرب إلى هذيان الكهان، فهو يستعجم ويستعسر على الباقعة في اللغة، المتضلع بها! وقد جاء في (نزيف الفضائح مستمر) للكاتب الكبير فتى الأدغال - حفظه الله من كل سوء - أن: \"الدكتور محمد العلي - متعه الله بالعافية - جمع طلابه في القاعة في جامعة الإمام، وطلب من كل واحد منهم أن يكتب كلمة في ورقة معدة سلفاً، ثم يدفعها لمن يليه، وهكذا حتى تجمعت له في الورقة مصفوفة من الكلمات لا يجمعها رابط أو معنى، ثم بعد ذلك بعث بالورقة إلى جريدة عكاظ على أنها قصيدة حداثية، فردت عليه الجريدة بالتقريظ والثناء والمدح!!\".

فسبحان من يهب لمن يشاء عقولاً!! واعلم هديت أن من خساسة النفس وفسالتها قلة الرعة والإخلاص، وهو سبب التكاسل عن العمل بالعلم، وعلة اضطراب الأقوال والأفعال، فكثير ممن يأمر بالبر وينسى نفسه، ويخالف إلى ما ينهى عنه، إن ألقيت عليه الإخلاص وجدته كالزبد يذهب جفاء، قد خيط بجوفه الرياء، واحتواه النفاق، فهو كالعروضي له بحر بلا ماء، قال الإمام ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - في صيد خاطره: \"فالله الله في العلم بالعمل، فإنه الأصل الأكبر، والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا، وخيرات الآخرة، فقدم مفلساً على قوة الحجة عليه، ويا ليت شعري! متى نعمل بكلام ربنا - عز وجل -، وكلام نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي في صدورنا؟!\".

قال الراوي: وقال في ختام جوابه: من قل كلامه حمد عقله، وراحة اللسان في قلة الكلام، ولك ولشاعرنا المقرن، تحية وسلام!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply