وصية أبي حازم للزهري


 

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد:

 سبب اختيارنا لهذه الوصية أنها أثر ثمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومثال للأدب العالي الذي يتجاهله دارسو الأدب العربي في هذه الأيام، ونموذج فريد من (أدب الرسائل) بين العلماء يصلنا من وقت مبكر، من أوائل القرن الثاني الهجري، وكذلك فإن القوة في الألفاظ والمعاني مع السهولة والصدق الذي يميز هذه الوصية يجعلها بحق (أثراً ثمينا) يسرنا تقديمه لقرائنا الكرام.

 ولا يخطرنّ على البال أننا نريد أن نحطب بحبل الذين يتحاملون على الأئمة بمجرد عثورهم على مثل هذا النص، فهذا من نقد الأقران الذي لا يسقط العدالة.

 ولا يحط من قدر العالم أن ينتقد، كما لا يعتبر مجرد قرب العالم من السلطان جرحاً فيه، بل إن ابتعاد أو إبعاد طبقة العلماء عن الحكام فيه ضرر كبير وشر مستطير يلحق بالمجتمع، ويخلي الساحة للجهلة والمفسدين أن يتصرفوا بشؤون الناس كيفما يشاؤون، ومن راجع كتب الفقه في باب القضاء وحكم توليه وجد تفصيلاً شافياً يتعلق بهذه المسألة [1]، وإن مما تدل عليه هذه الرسالة الحرية الفكرية بين علماء السلف، فهذه الحرية هي التي تجعل واحداً مثل أبي حازم - وهو أصغر من الزهري ومن تلاميذه - ينصحه بهذه النصيحة القوية، ويبين له وجهة نظره بجلاء لا غموض فيه، وبعيداً عن المجاملات التي لا تنفع الأخوة الصادقة، وتكون الدعوة بعد ذلك من ضحاياها.

 لا نريد الإكثار من الكلام حول هذا النص، بل إن هذا القليل اضطررنا إليه اضطراراً، وكم وددنا لو أخلينا بين القارئ وبين هذه الرسالة دون توسٌّط.

 أبو حازم:

 سلمة بن دينار، الأعرج، مولى لقوم من بني ليث بن بكر، روى عن ابن عمر، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، وقيل إنه رأى أبا هريرة، وسمع من كبار التابعين كسعيد بن المسيب، وأبي سلمة، وعروة بن الزبير وغيرهم.

وهو ثقة عند عامة المحدثين.

توفي سنة 144 في خلافة المنصور.

 الزهري:

 أبو بكر، محمد بن مسلم بن عبيد بن عبد الله بن شهاب الزهري، تابعي سمع من أنس وسهل بن سعد والسائب بن يزيد وغيرهم من الصحابة.

ورأى ابن عمر وسمع من كبار التابعين وأئمتهم، قال فيه عمرو بن دينار: (ما رأيت أنصَّ للحديث من الزهري، وما رأيت أحداً الدينار والدرهم أهون عنده منه).

وقال فيه الليث بن سعد: (ما رأيت عالماً قط أجمع من ابن شهاب، ولا أكثر علماً منه).

 وقال أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه: (أصح الأسانيد مطلقاً: الزهري عن سالم عن أبيه).

وقال الشافعي: (لولا الزهري لذهبت السنن من المدينة).

قال النووي: (ومناقبه والثناء عليه أكثر من أن تحصر) وتوفي في شهر رمضان سنة 124 هـ وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.

 

النص:

 عافانا الله وإياك - أبا بكر - من الفتن، ورحمك من النار، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك منها، أصبحت شيخاً كبيراً قد أثقلتك نعم الله عليك، بما أصح من بدنك، وأطال من عمرك، وعلمت حُجج الله - تعالى -مما حملك من كتابه، وفقَّهك فيه من دينه، وفهمك من سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فرمى بك في كل نعمة أنعمها عليك، وكل حجة يحتج بها عليك.

وقد قال - تعالى -: (لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم ولَئِن كَفَرتُم إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).

 انظر...

أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله - عز وجل -، فسألك عن نعمة الله عليكº كيف رعيتها، وعن حججه عليك: كيف قضيتها، ولا تحسبَّن الله راضياً منك بالتعذير، ولا قابلاً منك التقصير، هيهات ليس كذلك!  أخذ على العلماء في كتابه إذ قال: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ولا تَكتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ ورَاءَ ظُهُورِهِم).

 إنك تقول إنك جدل، ماهر، عالم، قد جادلت الناس فجدلتهم [2]، وخاصمتهم فخصمتهم [3]، إدلالاً منك بفهمك، واقتداراً منك برأيكº فأين تذهب عن قول الله - عز وجل -: (هَا أَنتُم هَؤُلاءِ جَادَلتُم عَنهُم فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنهُم يَومَ القِيَامَةِ)؟ !  اعلم أن أدنى ما ارتكبت، وأعظم ما احتقبت [4]º أن آنست الظالم، وسهلت له طريق الغي بدنوك حين أدنيت، وإجابتك حين دعيت، فما أخلقك أن ينوه باسمك غداً مع الجرمة [5]، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم الظلمة.

 إنك أخذت ما ليس لمن أعطاك، ودنوت ممن لا يرد على أحد حقاً، ولا ترك باطلاً حين أدناك، وأجبت من أراد التدليس بدعائه إياك حين دعاك.

 جعلوك قطباً تدور رحى باطلهم عليك، وجسراً يعبرون بك إلى بلائهم، وسلماً إلى ضلالتهم، وداعياً إلى غيهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فلم يبلغ أخص وزرائهمº ولا أقوى أعوانهم لهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم.

واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك! وما أقل ما أعطوك بكثير ما أخذوا منك! فانظر لنفسكº فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول.

 وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً، وانظر كيف إعظامك.

 أمر من جعلك بدينه في الناس مبجلاً، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته مستتراً، وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تكون منه قريباً.

 ما لك لا تَتنَبَّهُ من نعستك، وتستقيلُ من عثرتك، فتقول: والله ما قمت لله - عز وجل - مقاماً واحداً أحي له فيه ديناً، ولا أميت له فيه باطلاً [6]! أين شكرك لمن استحملك كتابه، واستودعك علمه؟ !  ما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله - تعالى -فيهم: (فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ ورِثُوا الكِتَابَ يَأخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدنَى... )؟ !  إنك لست في دار مقام، قد أوذنت بالرحيل، ما بقاء المرء بعد أقرانه؟ طوبى لمن كان مع الدنيا على وجل، ويا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده!  إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، وليس أحد أهلاً أن تردفه على ظهرك.

ذهبت اللذة وبقيت التبعة، ما أشقى من سعد بكسبه غيره، احذر فقد أتيت، وتخلص فقد أدهيت! ! إنك تعامل من لا يجهل، والذي يحفظ عليك لا يغفل.

 تجهزº فقد دنا منك سفر بعيد، وداو دينك فقد دخله سقم شديد، ولا تحسبن أني أردت توبيخك وتعييرك وتعنيفك، ولكني أردت أن تنعش [7] ما فات من رأيك، وترد عليك ما عزب عنك من حلمك، وذكرت قوله - تعالى -: (وذَكِّر فَإنَّ الذِّكرَى تَنفَعُ المُؤمِنِينَ).

 أغفلت ذكر من مضى من أسلافك وأقرانك، وبقيت بعدهم كقرن أعضب [8]، فانظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به، أو دخلوا في مثل ما دخلت فيه؟ ! وهل تراه ادخر لك خيراً منعوه، أو علمك علما جهلوه، بل جهلت ما ابتليت به من حالك في صدور العامة، وكلفهم بك أن صاروا يقتدون برأيك ويعملون بأمرك، إن أحللت أحلوا. وإن حزمت حرموا.

وليس ذلك عندك، ولكن إكبابهم عليك، ورغبتهم فيما في يديك، ذهاب عملهم، وغلبة الجهل عليك وعليهم، وطلب حب الرياسة، وطلب الدنيا منك ومنهم.

 أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرة، وما الناس فيه من البلاء والفتنة؟ ! وابتليتهم بالشغل عن مكاسبهم، وفتنتهم بما رأوا من أثر العلم عليك، وتاقت أنفسهم إلى أن يدركوا بالعلم ما أدركت، ويبلغوا منه مثل الذي بلغت، فوقعوا بك في بحر لا يدرك قعره، وفي بلاء لا يقدر قدره، فالله لنا ولك ولهم المستعان.

 واعلم أن الجاه جاهان: جاه يجريه الله - تعالى -على يدي أوليائه لأوليائه، الخامل ذكرهم، الخافية شخوصهم، ولقد جاء نعتهم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة) [9].

 فهؤلاء أولياء الله الذين قال - تعالى -فيهم: (أُولَئِكَ حِزبُ اللَّهِ أَلا إنَّ حِزبَ اللَّهِ هُمُ المُفلِحُونَ).

 وجاه يجريه الله - تعالى -على يدي أعدائه لأوليائه، وَمِقة [10] يقذفها الله في قلوبهم لهم، فيعظمهم الناس بتعظيم أوشك لهم، ويرغب الناس فيما في أيديهم لرغبة أولئك فيه إليهم: (أُولَئِكَ حِزبُ الشَّيطَانِ أَلا إنَّ حِزبَ الشَّيطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ).

 وما أخوفني أن تكون ممن ينظر لمن عاش مستوراً عليه في دينه، مقتوراً عليه في رزقه، معزولة عنه البلايا، مصروفةً عنه الفتن في عنفوان شبابه وظهور جلده، وكمال شهوته.

فعني بذلك دهره، حتى إذا كبر سنه، ورق عظمه، وضعفت قوته، وانقطعت شهوته ولذتهº فتحت عليه الدنيا شر فتوحº فلزمته تبعتها وعلقته فتنتها، وأعشت عينيه زهرتها، وصفت لغيره منفعتها.

 فسبحان الله ما أبين هذا الغبن، وأخسر هذا الأمر، فهلا إذا عرضت لك فتنتها ذكرت أمير المؤمنين عمر رضي الله - تعالى -عنه في كتابه إلى سعد...

حين خاف عليه مثل الذي وقعت فيه عندما فتح الله على سعد:  (أما بعد، فأعرض عن زهرة ما أنت فيه حتى تلقى الماضين الذين دفنوا في أسمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، لم تفتنهم الدنيا ولم يفتنوا بها، رغبوا فطلبوا، فما لبثوا أن لحقوا).

 فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا في كبر سنك، ورسوخ علمك، وحضور أجلكº فمن يلوم الحدث في سنه، الجاهل في علمه، المأفون في رأيه، المدخول في عقله؟ (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ)! على من المعول، وعند من المستعتب؟ !  نحتسب عند الله مصيبتنا، وما نرى منك.

ونحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به.

 والسلام عليك ورحمة الله وبركاته..

 

___________________

(1) لمزيد معرفة بشخصية الإمام الزهري ومكانته يراجع ما كتبه لشيخ مصطفى السباعي - رحمه الله - في كتابه القيم: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص 206-226.

(2) غلبتهم في المجادلة.

(3) غلبتهم في المخاصمة.

(4) حملت في حقيبتك.

(5) الجرمة: ج جارم مثل: كاتب وكتبة، أي المذنبون.

(6) هذه مبالغة من أبي حازم اقتضتها الشدة في الموعظة، وإلا فإن حياة الزهري كانت في سبيل إحياء الدين وإماتة الباطل، كما تنبئ بذلك أقوال علماء الجرح والتعديل.

(7) تتدارك.

(8) القرن الأعضب: القرن في رأس الدابة انكسر أخوه وبقي منفرداً.

(9) جزء من حديث في الترغيب والترهيب 4/154 باب: الترغيب في الفقر وقلة ذات اليد قال المنذري رواه ابن ماجه والحاكم واللفظ له، وقال: صحيح ولا علة له ولم نجده في صحيح سنن ابن ماجه للالباني وفي صحيح مسلم ط عبد الباقي ص 2277 عن سعد ابن أبي وقاص أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(ان الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي) - التحرير -.

(10) مقة: محبّة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply