أثر الالتزام الإسلامي على الأديب، والأدب، والمجتمع


 

بسم الله الرحمن الرحيم

يُعرّف الالتزام في اللغة بأنه من: لزم الشيء لزوماً، وملازمة، فالتزمه. ولزم الشيء: لا يفارقه. [1]

وهو التعلّق بالشيء، والمداومة عليه، وعدم مفارقته. [2]

ويعرِّف النقاد الالتزام مع وصفه بالإسلامية بأن (يصدر الشاعر المسلم في فنون الأدب من خلال نظرة الإسلام للخالق ومخلوقاته) [3].

وللالتزام الإسلامي آثار بينة جلية على الأديب الملتزم، وأدبه، والمجتمع المتلقي له.

وهي على الأديب:

المسلم عامة ملتزم بأن يحاسب نفسه قبل أن يتكلمº خوفاً من وعيد قول النبيe: \"إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم\". هذا المسلم العاديº فكيف بالأديب الذي سينشر أدبه، ويقرأه العامة كباراً وصغاراً؟

 

فمن يقرأ من الأدباء هذا المفهوم والتعريف الحادّ والموضِّح للالتزام في الأدب، ثم تباعاً لذلك يقوم بتنقيح أدبه أيّـاً كان جنسه، بجعله ملتزماً مما يؤثر -بلا شك- على صاحبه بعدة آثار، سأحاول حصرها في:

- اتضاح الهدف أمام عينيه، فعندما يمسك قلمه قاصداً الإبداع، فإنه يعرف ما سيكتب، وفيم، وما هي حدوده الواضحةº ليكن واضحاً مع نفسه ومع قراءه، سامياً من سمو الهدف الذي ارتضاه لأدبهº مؤكداً الغاية الرفيعة منهº بينما في المقابل نجد الضياع عند من لا حدود تحدّه، ولا دين يردّه، كإيليا أبو ماضي حينما يقول:

جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت *** ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت

 

بينما الملتزم عرف طريقه، وما له وما عليه:

 

لقد أشربت نفسي تعاليم هديها إباءٍ, وإحساناً على الأرض ضافياً

 

أمجّـد ربي في صلاتي سـاجداً ويقـرع أبواب السمـاء دعائيا

 

كذلك يبغيني الإلـه، ولـم أزل علـى كل حالٍ, أحمل الحق داعيا

 

- ومع وضوح الهدف لدى الأديب الملتزم، ومعرفته لحدودهº فإنه بذلك يكتسب من هذا الالتزام قوة تدعمه، مصدرها هداية الله - عز وجل -: \"والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا\". وفي حسّان بن ثابت قدوة للأدباء الملتزمينº إذ أورثه الله قوة مدعومة بروح القدس كما قال رسول الله e. فهاهو أحدهم يقول مخاطباً الدنيا، مفاخرا بدينه الإسلامي: [4]

 

أعرفـتِ من هـذا الذي أنجبته  فتجـاوزت دنيـاه كل دناكِ

 

لا تعجليº فإذا الخلائق في الضحى سألتك: من هذا الذي ناجاك؟

 

فتبخـتـري دِلاًّ وقولـي: مسلـمٌ وكفاك فخرا ما سمعت كفاك

 

- وأيضاً إذا اتضح الهدف أمام عيني الأديب، وبانت ملامحهº فإنه يصبح متماسكاً عالماً ماذا يكتب، وفيم يبحر قلمه، ولا يكون ضحية للضياع، وتشتت الأفكارº فالالتزام قد كفل له الوحدة في الفكرة والمضمون، وهذا ما نلحظه لدى أغلب الملتزمينº مقارنة بمن هام في كل واد. ومن يقرأ لغثاء هؤلاء وهو للأسف منتشر كغثاء السيل- عرف أن ما يحدث لهم هو ابتعادهم لا عن الالتزام الحقيقي فقطº بل عن الإسلام الحقيقي.

 

وهذا بعض من تذبذبهم، يجسده نزار قباني: [5]

إن التناقض في دمي وأنا أحب

تناقضاتي

ماذا سأفعل يا صديقة

هكذا رُسمت حياتي

..منذ الخليقة..هكذا رُسمت حياتي

- وعندما يلتزم الأديب هذا الطريق الخيّر، وتتضح له الأهداف، والغايات السامية، ويعرف ما يطلب الإسلام تقديمه في قوالب الأدبº فهو قطعاً سيتأثر بهذا السمو الأخلاقي، والترفّع عن مهاوي الردىº فتجده في حياته العامة متحلياً بالخلق الإسلامي، طيب العشرة، وله في أسلافه خير قدوة ممن تبع ركب الهدىº فالالتزام يعصم الأديب من الهيام في كل واد، وإذا أُشرب قلبه وعقله به، فإن ذلك يجعله مرشحاً لما يريد الكتابة عنه، وهاهو ذا حسان بن ثابت، ولبيد بن ربيعة بنظرتهم الإسلامية للكون والحياة تركا ما كانا عليه في الماضي من الجاهلية، وفتحا أبواباً جديدة لا يزال صداها يتردد إلى الآن. [6]

 

بينما من يرتاد الرذائل، و يعيش في مستنقعات الفساد ويدعو إليهاº يفتخر بهذه الحياة الوضيعة! وبصدق انطباقها على شعره [7]

 

- وبذلك يكتسب الأديب على ما يقوم به من التزام في نفسه قبل أدبه أجراً عظيماًº فقد تمسّك بالخير ولم يرتض له بديلا، ولم يكتف بذلك، وإنما سعى وبذل في نشره، لينال بإذن المولى الأجر العظيم.

 

على الأدب:

- إذا التزم الأديب التزاماً إسلامياًº فإن ذلك سيؤثر عليه بإيجابيات عدة ذكرتها آنفاً، والأدب الملتزم تباعاً لذلك سيكون بدوره متأثراً بعدة محاسن تحسب له بلا شك-º فقد قال قدامة: (ليس هنالك موضوعات جيدة وموضوعات رديئة في الشعر، إنما هنالك شاعر جيد أو شاعر رديء). فمن هذه الآثار:

 

- إن الأدب عندما يكون ملتزماً إسلامياً، فإنه يحمل قيماً أخلاقية تثير المشاعر الصحيحة، وتنمّي المواهب الدافعة للخير، وبذلك يكون أدباً سليماً من الانحرافات، والفواحش، ودواعي الرذيلة.

 

هل قرأ أحدكم أدباً ملتزما بالإسلام، وكان يلمح ولو بطرف خفي إلى سوء؟ أبداً بل نجد الطهر والنقاء، والدعوة الدائمة لكل ما فيه خير، يقول الشاعر: [8]

 

أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه كأن به عن كل فاحشـة وقرا

 

سليم دواعي الصدر لا باسطا يدا  ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً حجرا

 

بينما هذا الذي لا يعرف إلا الدعوة إلى الفاحشة يقول: [9]

أحبيني.. وقوليها

 

لأرفض أن تحبيني بلا صوت

 

وأرفض أن أواري الحب

 

في قبر من الصمت

 

أحبيني

 

بعيداً عن بلاد القهر والكبت

 

هنا أتساءل.. هل ثمّة تشابه بين الأدب السامق الذي يحمل هذه المعاني السامية، وبين أدب رخيص يعيش لحظات ثم يموت بلا أثر؟!

 

- يعدّ الأدب الملتزم أداة من أدوات الدعوة إلى الله، والعقيدة، والخير عامةº وإن اختلف عن الأسلوب المباشر كما هو عند الوعّاظ والخطباءº فما دام أدباً ملتزماً سليماً من الخطأ، فهو يدعو دائما لما يلتزم به.

 

فرسالة الأدب في المجتمع المسلم تقوم على إصلاح النفس الإنسانية، وليس على مجاراة أهوائها، وإنما الترويح بالحق، والإمتاع في حدود الأخلاق الكريمة، لما لذلك من أثر في المجتمع سألمح إليه لاحقاً في موضعه. [10]

 

- وإذا كان هذا الأدب الملتزم يحمل مضامين إسلامية، ومعاني محافظة فإن لها أثر عليهº إذ تكسبه القوة في التعبير تشترك مع قوة المضمون، لنرى الجزالة في اللفظ ورصانته، تقلّ تدريجياً عند أصحاب الهوى من شعراء يتاجرون بالأخلاق، فمن خروجهم عن الوزن والقافية إلى رفعهم المنصوب ونصبهم المجرور، مروراً بضعف وتهافت العبارات.

 

- حينما يحمل الأدب الملتزم هماً على عاتقه، وهو حمله للقيم الأخلاقية يجعل النفس القارئة تميل لهذا الخير، بعكس القصائد الإباحية التي تزين للنفس الفواحش، وتسهلها في نظرها، حتى تخف آثار التقوى والورع، كما نجد من هذا الزخم المسمى بسلاسل الروايات الرومانسية للمراهقين، التي تشجع الغر على تطبيق ما فيها.

 

على المجتمع:

 

بعد أن رأينا ما للالتزام من أثر على الأديب، أثّر بدوره على أدبهº فإن لهذا للالتزام أثراً ملموساً وواضحاً على المجتمع:

 

- إذا كان الأدب الملتزم داعياً إلى الخير والفضيلةº فإنه سينقل هذا الأثر إلى المجتمع المتلقّي لهذا الأدب النظيف جاعلاً منه بيئة نظيفة محافظة، بعيدة عن الرذائل والمعاصي.

 

- أفراده متماسكون متآخون من أخوة وجيران، وأصحاب تلفهم الفضائل، وتسبغ عليهم الأخلاق الحميدة ظلالها الوارفة.

 

- وحينما نرى كمثال- العصور الإسلامية الأولى، نجد الالتزام فيها سيد الموقف. يقول مسكين الدارمي: [11]

 

ناري ونـار الجـار واحدة  وإليه قبلي تنـزل القـدر

 

ما ضرّ جـاري إذ أجـاوره ألاّّ يكـون لبـيتـه ستـر

 

أعمى إذا ما جارتي خرجت  حتى يواري جارتي الخدر

 

- وكما يدعو الأدب إلى نشر الفضيلة في المجتمع، فهو ينهى دائماً عن الرذائل والمنكر، لينشيء لنا مجتمعاً نظيفاً خالياً من شوائب الفساد، ومواقع الرذيلة، ومن شاء التيقن، ليلقي نظرة على مجتمعنا ولله الحمد-، وليقارنه بمجتمعات من يغلب على أدبائهم عدم الالتزام، وليلحظ التحرر، والإباحية في الأخلاق، كما يتمنى أحدهم: [12]

 

وأظل أكتب عن شؤون حبيبتي

 

حتى أذوّب شعرها الذهبي في ذهب المساء

 

وأنا وأرجو أن أظل كما أنا-

 

طفلاً يخربش فوق حيطان النجوم كما يشاء

 

حتى يصير الحبٌّ في وطني بمرتبة الهواء

 

وأصير قاموساً لطلاب الهوى

 

وأصير فوق شفاههم

 

ألِفاً وباء...

 

- سيوحّد الالتزام في الأدب أفكار المجتمع، ويجعلها متساوقة معه، فقد دعا لهذا الالتزام القرآن الكريم والحديث النبوي قبل الأدب الملتزم. ولكن هذا لا يوجد في الزمن الحالي، وإنما نجد اختلاف المشارب والأهواء والتوجهات، ومنها المسيطر على فساده كذلكº بينما تنظيم الأخلاق يمنحنا تنظيماً في الأعمال وترتيباً لها، هي والتوجهات.

 

أخيراً

 

فإن الالتزام أصبح في عصرنا ضرورة إسلامية ملحةº فهاهو ذا سلطان الدعاية والإعلام يسيطر على عقول المجتمع. أضف إلى ذلك أن أغلب الممسكين بزمامه هم من يحملون توجهات لا تخدم الالتزام لا من قريب و لا من بعيد، ومن يريد التأكد فأمامه المشهد الثقافي العربي، بل وحتى السعودي بوجه خاص.. حينها سيقول: - رحمها الله -.. فقد كانت محقّة؟

 

---------------------------------------

[1] انظر: لسان العرب: 12/245. مادة (لزم)- نسخة إلكترونية/ التراث للبرمجيات.

[2] انظر: نحو مذهب أدب إسلامي، د. عبد الرحمن الباشا/ دار الأدب الإسلامي-القاهرة ط41418هـ: 149.

[3] الالتزام الإسلامي في الشعر، د. ناصر الخنين/ دار الأصالة-الرياض ط1 1418هـ: 185.

[4] أجمل مائة قصيدة أحمد الجدع/ دار الضياء-الأردن: 1/205.

[5] http://www.alanan.net/index.htm

[6] انظر: الالتزام في الأدب الإسلامي، د. محمد مصطفى هدّارة/ بحوث ندوة الأدب الإسلامي في الرياض د. ط 1409هـ: 28

[7] كما افتخرت هدباء ابنة نزار قبّاني بأن أباها لا يمثّل دور الخليل في قصائده إنما هذا هو واقعه!

[8] نقلا من كتاب: الخصائص الفنية في الأدب النبوي، د. محمد سعد الدبل/ مكتبة العبيكان: 93.

[9] نزار قباني في قصيدته (القصيدة المتوحشة): نزار قباني بعيداً عن أعين القانون، ياسر عبد النبي/دار الحسام-القاهرة ط1 1998م: 32.

[10] انظر: الخصائص الفنية في الأدب النبوي: 93.

[11] الالتزام الإسلامي في الشعر: 283.

[12] الأعمال السياسية الكاملة لنزار قباني/ منشورات نزار قباني-بيروت ط5 1993م: 3/12.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply