امرأة وحيدة في مجرة التبانة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

1- اللهم اجعله خيراً

ثلاث دقات بالمقبض الحديدي على الباب فتحت فوهة الجحيم، أجفل القلب المسكون بالترقب، أي تبديل طرأ على ناموس الكون هذه الليلة! أتستديم استدارة الأرض؟ وهذه النجوم النصف نائمة والنصف ساهرة متى تركن للتقاعد؟ وفي المبتدأ سادت الديناصورات العالم حتى طردت من الخدمة لبطئها الشديد، ولم تصرف مكافأة نهاية الخدمة، لو أكل نيوتن التفاحة بدلاً من التحديق فيها لجنب الكلبة \"لايكا\" مصيرها الأليم، للدهشة فصول للتفاحة؟

- المهندس طارق الصاوي؟

- نعم.

- شقيق السيدة حنان الصاوي؟

- هه! نعم. ماذا؟

- من فضلك وقع هنا، طلب حضور إلى قسم شرطة.. لمقابلة السيد معاون المباحث.

للكوابيس ألوان زاهية. يستدعي كوابيسه السابقة. مررت بهذه الحالة من قبل. خيمتك بالكتيبة 47 مشاة، ظلام سيناء المقبض نسمع عواء الذئاب مختلطاً بدمدمة الجماجم. ربما تنتسب إلى أزمنة الفراعين أو العثمانيين، ربما كان جدك الأكبر واحداً منهم، ابن عم لأمك سقط في هجوم الغدر الثلاثي في 56، فلتحترم رقدته، وجارك عادل الأبيض راح في مذبحة 67. كيف أميز أرواح الشهداء من عفاريت البغاة؟

تترك شمعة مضيئة في الخيمة، نخفي أطرافنا بمهارة تحت غطاء البطاطين. للدفء شهوته الطاغية، فمن يستحضره لرقدتنا.

كثيراً ما استيقظت في الليل يشطرني الخوف والبرد، طابور من الجرذان يطأ جسدك، ويناهز الواحد منها حجم قطة متوسطة، أتأكد من إحكام الغطاء حولي، رفيقي السمين يمد كفه بضربة مباغته تدك أقربها إلى يده، تهرب بقيتها مؤقتاً قبل أن تعاود هجماتها، يخلد رفيقي إلى استنامته اللذيدة يؤشرها شخيره المنتظم الثقيل، هل تشم الفئران رائحة خوفك؟

 

2- ولله في خلقه شئون:

عالمي كنت: النهر والضفتين، الخشية والرجفة فالدعة والسكون. تستحضر ردود أفعاله: انقباض عضلات وجهه حاجباه المرفوعان الأقرنان الكثيفان لازمته عندما يتشكك فيما يسمعه.

كفه تمسح خصلة شعره المنزلقة على جبينه في حركة آلية، كتفاه المنحنيان من تأثير جلوسه الطويل فوق المكتب، أصابعه ترسم حروفاً وأشكالاً وهمية في الهواء الطلق عند انفعاله، أنسى يوم ارتميت في صدرك يوم طلاقي، يهبني الحضن إحساساً مركباً من الدهشة والرفض والتحنان، يمتص الجدول البارد سعير نحيبك وتداعيك، وتتكفل كفك الرابتة علي بأن تهبني اطمئناناً حقيقياً وسلوى مستديمة.

قادم في الطريق إلى قسم الشرطة لتنفجر فضيحتي في وجهه، بتحنانه وألمه الممزوج بالدهشة، فبأي وجه أطالع إشراقته؟ سنواتك السبع التي تكبرني بها سدّي وسندي.

عندما نجحت في الإعدادية كنت في الصف الثاني الابتدائي، وعندما أنجزت مشروع تخرجك بكلية الهندسة كنت أتعثر في امتحان الثانوية العامة، وعندما أنهيت معهدي ذا العامين كنت قد أنهيت مدة تجنيدك، عند تخرجي بكت أمنا واحتضنتني وطارت بي في الهواء وسط ضحكاتنا الصاخبة علامات محفورة في ذاكرتي: تسلمك خطاب القوى العاملة، فرحة أول مرتب، بهجة سفرك في مهمة تدريب إلى فرنسا، نزهاتنا وأحاديثنا وأحلامنا... ويوم تسلمت بطاقة معايدتك الأولى من باريس كتبت لي:

 

أختاه، عالمي ضيق بدونك، فمتى يعود لعالمي اتساعه وتمدده؟

 

3- الملك لله... الملك لله

تعرف ما بين الوريد والوريد من عشق قطرة الدم وقطرة الدم من صلة قربى، وما بين الزفرة والزفرة من تواد، وما بين المرفق والساعد، والعين والحاجب، والرقبة والرأس، والشفة والشفة، والكاحل والساق.

لزمن الأكاذيب قدرة عجيبة على التخفي والمراوغة، وللوجوه لمعة مريبة أخاذة، للتصريحات نعومة الأفاعي وملمس المياه تنطلي على السذج رحم الله أمي يخزني دعاؤها المفضل \"ربنا يسعد أوقاتكم\" وقبل وفاتها الخاطفة أوصتني بك \"خيتك يا طارق، دمك ولحمك، فليس لها رجل سواك\"

توصيك بي بإلحاح: \"في أيامنا العصيبة يا ضناي يندر وجود الرجال، أخوك الحائط والسد، فلوذي به\".

عندما أوصلتك إلى منزل عريسك، وعدت وحيداً تنازعني شعور أن الوحدة والراحة عيناك في رنوهما الأخير نشدت الصفح، وكأنك تعتذرين عن انفراط عقدنا.

يوم وارينا أبانا مثواه الأخير عدنا ثلاثتنا منكسرين لائذين ببعضنا البعض، وعندما رقدت أمنا في دار الحق، أعسرتني المسؤولية وشاقني أمرك، وعدنا وحيدين منفردين بفجيعتنا، وبعد وداعك عدت وحيداً إلى وطننا، الشقة الخاوية إلا مني.

الملك لك، الملك لك، استقبلنا الحياة بالصرخة ونودعها بالشهقة فطوبى للمحزونين. وما بين المنبع والمصب يمضي نهر العمر طاوياً أسراره في جوفه.

 

4- والله يفعل ما يريد

تقاسمنا اللقمة والثوب والفرح، لا يمل أبونا من ترديد عبارته المفضلة عندما يضيق به الحال \"استرها يا كريم\".

في أيام مراهقتك كنت أسمعه يتلو عليك وصيته، التي لا أعي معناها جيداً \"يا بني، إذا أردت أن يحبك الله فخفه وأطعه، وإذا أردت أن يحبك المخلوقون، فأحسن إليهم، وأرفض ما في أيديهم، وإذا أردت أن يثرى مالك فزكه، وإذا أردت أن يطيل الله عمرك فصل ذوي أرحامك\" يضغط أبونا على العبارة الأخيرة وكأنه يستودعك سره وأمانته وهمه.

عندما كبرت فهمت التعويذة التي يلقنك أبي إياها باستمرار، أما أنت فكنت تردد في أوقات ضيقك أو ضيقي عبارتك المميزة الساخرة\" فليدم الله علينا الفقر والجدعنة\" وتسرع أمي تكمل في جزع \"والستر يا بني\".

لو نطقت يمينك لقالتا: كنت كريماً معي، ولو نطقت عيناك قالت: كنت تؤثرني على نفسك.

يوم سفرك إلى فرنسا أودعتك خصلة من شعري، وعند عودتك ابتعت لي أجمل فستان ارتديته في حياتي: فستان فرحي.

تخونك عيناك عندما تسمع أغنية عبد المطلب \"ودع هواك\" يبثها المذياع. ترمق صورة أبينا بانكسار، تعرف كم كان يحبها ويرددها عندما يكون مزاجه رائقاً، وعندما أنسى وأشعل عود بخور، تسح عيناك، فقد كانت تلك عادة أمي كلما كانت هادئة، فتملأ المنزل برائحة البخور.

زوجي كان يغير منك، تصارحني بشكوكك نحوه فأكذبك ولكني واجهته بالحقيقة في مشاجرة بيننا \"أظافر أخي برقبتك\" يشتعل وتمتد يده نحوي في وحشية.

غداة زفافي أنذرته ضاحكاً \"وأنت تزورنا في الصباحية\":

- سأمزقك إذا مسستها بسوء.

وعندما فاض بي ذات مرة، وبحت لك بعذاباتي، وطالعت آثار عدوانه فوق وجهي وذراعي كدت تفتك به، وقد استحلت عدوانياً لا عقال لك. جاء كلامي في النهاية مرفأ خلاصي الوحيد من نذالته: البخل والوحشية ولتكن خيبتي حملاً آخر ينوء به كاهلك.

 

5- والعافين عن الناس

اخترت طريقك يا بنت أبي هذا نيري وقدري، فلا تعاتب يا ابن أمي، قيل لي يا غريبة عني: لو أهلناك لهذا، لما أحرقناك بهذا، من أذن لك بفض ما طويناه ومن أباحك الإطلاع على ما خبأناه، أهذا فراق بيني وبينك يا رجلي الوحيد في المجرة، أحببتك فلا تبتغض، أخلصت فأقلعت، وسألتك فسافرت، وأبطأت فتعثرت، وغبت فجبنت ووقعت، من يقاسمني وحدتي وخيبتي، ثلاثة رجال في طريقي: الغادر والقادر والمأخوذ، قال الأولان! إنني رائعة في الفراش، وتركني الثالث لأواجه المدينة وحدي، فهل تقاسمني فضيحتي يا أعز الناس، لو يقع زلزال، تطيح بنا سيارة، أو يقضي الله أمره، من يقطع هذا الصمت الممرور- الذي يلفنا؟

أعجز عن الاستدارة نحوك، وأن أحدثك، كيف سيضمنا منزل واحد، ومن يمد يده فيستعيد عصر البراءة والعذوبة، سأريحك من عاري، قسم الله أن نفترق ويمضي كل منا في طريق، ما طعم السقوط يا بنت أبي؟ هل أستسيغ طعم الصفح لو صفحت يا ابن أمي؟

من..؟ هل..؟

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply