الحداثة وأثرها في موضوعات الأدب الإسلامي ومصطلحاته


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 لقد طرح مؤتمر الهيئة العامة السادس المنعقد في القاهرة (6-9/6/1423هـ الموافق 15-18/8/2002م) لرابطة الأدب الإسلامي العالميّة موضوعات ومصطلحات متعددة. لو طُرِحت هذه الموضوعات والقضايا والمصطلحات قبل نصف قرن أو أكثر في ميدان \" الأدب العربي \" آنذاك، لوجدت استهجاناً وغرابة من كثير من الأدباء ورجال العربية وعلمائها وشيوخها، إلا أولئك الذين كانوا وما يزالون يعملون في شبه خفاء، أو متردّدين بين الخفاء والإعلان، لأجل الحداثة ومذاهبها، بإصرار وعزيمة وتحدٍّ,، لم يفطن له الكثيرون من الحريصين على اللغة العربيّة وعلى دين الله الحق ـ دين الإسلام.

 وامتدت السنون حتى أخذت تلك الموضوعات ـ موضوعات الحداثة ومصطلحاتها ـ تبرز شيئاً فشيئاً، كأنها ماضية على نهج مدروس وخطة واعية، دون ارتجال ولا عفويّة. وقد ارتبط هذا البروز ببروز شيء آخر أوسع وأشدّ خطراً، ألا وهي العلمانية بزخرفها الكاذب وزينتها الخادعة وحليِّها المزيّفة، تدفعها إلى العالم الإسلامي دول قويّة، وأجهزة فعّالة متخصصة، ورجال أعطوا جهدهم للباطل ونصرته، ولمحاربة الإِسلام ولغته وأهله. يتم ذلك والمسلمون في غفلة وسبات!

أخذت تنتشر تلك الموضوعات والمصطلحات، فقابلها بعضهم بنفور ارتجالي، ورفض عاطفي، وضجيج آنيّ. ومع إصرار أهل الحداثة والعلمانيّة، ومع وهن المسلمين وتهاونهم، بدؤوا، أو بدأ بعضهم يألف تلك الموضوعات والمصطلحات، ومع إصرار أصحابها تحّولت الألفة إلى قناعة، ثم تحولت القناعة إلى ممارسة واتباع، ثمّ إِلى تَبَنٍّ, ودفاع، ثم إِلى دعوة وصراع!

وكان هذا كله أول الأمر محصوراً برجال نفضوا أيديهم من الإسلام، ومن الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، فعُرفوا بالكفر والإلحاد الصريح، وسبّ الله ورسوله في صحفهم ومجلاتهم، في نثرهم وشعرهم. وانتقلوا إلى المجابهة الصريحة تدعمهم القوى الأجنبيّة تجود عليهم بالتكريم والجوائز و الأوسمة وأمثال ذلك، في دعمٍ, علنيّ جريء، خلاف الدعم الخفيّ! وتجود عليهم بالخطة والتوجيه والإعلام.

 ومع إصرار أهل العلمانية والحداثة ممن هم من أبنائنا وأهلينا، مع إصرار هؤلاء وامتداد الدعم لهم، وضعف المسلمين وغفلتهم، أصبح بعض من ينتمي إِلى الإسلام ينادون بتلك الموضوعات ومصطلحاتها، وأفكارها نثراً وشعراً، وانتقل الفكر والمصطلح إلى قلب المسلمين، إلى قلب مجتمعاتهم، وإلى قلب الحركة الإسلامية!

 وأصبحت ترى بعض تلك الأفكار والمصطلحات في الصحف الإسلامية ومجلاتها، وفي بعض الكتب الصادرة عن بعض أبناء الإسلام ودعاته، وأصبحت الفتاوى تنطلق بجرأة وعلانية لم تكن قبل ذلك ميسَّرة لأحد.

 وأصبح هؤلاء هم الذين ينالون الحظوة والرعاية، وتُفتح لهم الأبواب المغلقة، وتمتد الحفاوة، ويُسكت عن آثامهم. ولا يتردّدون في أن يحتموا بكل ما يمدهم بالعون، رجالاً وأفكاراً، ومذاهب شتى. يحتمون بكل ألوان العصبية الجاهلية، حيناً بالقبليّة وحيناً بالوطنية، وحيناً بالإقليمية، وحيناً بالقومية، وحيناً بالعائلية، ينفذون من خلال ذلك إِلى أَوساط المسلمين فيعملون فيها فتنةً وفساداً، وهم يجدون لهم أَعواناً وأَنصَاراً.

لم تنحصر فتنتهم بالشعر أو النثر أو الأدب كله، بل امتدّت إلى الفكر والتصور والعمل. امتدت إلى القيم والمبادئ والعلاقات والروابط. وهم يُلحّون بمبادئهم من علمانيّة وحداثة في جميع الأوساط بإصرار.

 أصبحت ترى من بين المسلمين أنفسهم من يدعو إلى \" العلمانيّة \" بوضوح وجرأة، ويقول إنها مساوية للإسلام بمقصودها. وأصبحت تجد من تفرَّغ للدعوة إلى الديمقراطية وهو داعية مسلم، ترك الدعوة إلى الإسلام وملأ الدنيا بدعوته إلى الديمقراطية. تغيّر مفهوم الحرّية إلى التفلّت من القيم، إلا تلك القيم التي تحمي المجرمين الظالمين. وأصبحت تجد من المسلمين من يدعو إلى مساواة المرأة بالرجل، أو الرجل بالمرأة، استرجلت بعض النساء، وتشبّه بعض الرجال بالنساء! وأصبحت تجد ممن ينتمون إلى التفكير الإسلامي من يدعو إلى تطوير الفقه تطويراً يحلَّ ما حرّم الله. وتوالت نماذج شتى من الانحرافات لا تكاد تقع تحت حصر أو تُحَدّ بحدود، وكأنما الزمام أفلت!

 لقد كان من أهم ما لجأ إليه أهل الحداثة والعلمانية الشعر، لمعرفتهم أنه الأوفر حظاً في اللغة العربية في الانتشار. فاستغلوه أسوأ استغلال وأقبحه، وأصابوا نجاحـاً غير قليل. استغلوا النغمة في الشعر ليشيعوا الفكر الذين يدعون إليه والفتنة والفساد، ثم استغلوها ليحوروها إلى نغمات مضطربة لا تقبلها أذن المسلم أولاً، لكنها تُرَدَّدُ وتُعاد حتى يُحسَبَ النشازُ نغماً حلواً، والتفلّت شعراً منضبطاً، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق. وكان هذا ابتلاءً من الله - سبحانه وتعالى - ليمحّص النفوس ويكشف الوهَن الخبيء والمراءاة المطويّة، وربما كشفت الوثنيّة والشرك والكفر!

 إنها سنّة الله - سبحانه وتعالى - أن جعل الحياة الدنيا دار تمحيص وابتلاء للناس كافة، حتى تقوم الحجَّة يوم القيامة عليهم أو تقوم لهم، على موازين قسط لا تظلم أحداً. كم من الناس لم تُعرَف حقيقتهم في الدنيا إلا من خلال ما سنّه الله من سنة الابتلاء والتمحيص، ومن خلال أحداث أو فواجع تكشف الموقف وما خبّأته الصدور.

 لقد حملت إلينا العلمانية والحداثة الفكر اليوناني والروماني، وما حمل من أساطير وخرافات ووثنيّة وشرك. لقد أنزلت أوربا ذلك الفكر منزلة التقديس، ونُقِـل إلينا بهذا التصوير والتهويل في واقعنا المعاصر، دون أن نكون بحاجة إليه، ودون أن يحمل لنا خيراً يرضي الله - سبحانه وتعالى -.

 لقد اتصل المسلمون بالشعوب كافة خلال تاريخ طويل. واتصلوا بفكرهم وأدبهم، اتصلوا بالفرس والهند والرومان واليونان، وقامت حركة ترجمة واسعة حين كان الإسلام هو القوي، وحين كان المسلمون هم الذين يحكمون. وكانوا يردّون كل ما يصل إليهم إلى ميزان حق في أغلب الأحيان، دون أن يمنع ذلك حدوث سقطات يدور حولها خلاف.

 لقد رفض المسلمون كلَّ فنٍّ, نابع من الوثنية مرتبط بها. رفضوا التماثيل والنحت والتصوير المنهيّ عنه، وأبدعوا في فنّ الزخرفة والبناء. وحافظوا على خصائص لغة الإسلام وخصائص الشعر وموسيقاه وفنّه دون أن يحرّفوه، ولكن طرقوا به أبواب الحياة وميادينها، وأبدعوا في فنون تلائم اللغة العربية، كالمقامات والرسائل وغيرها، وجعلوا من الشعر بأوزانه وقوافيه ميداناً ممتداً كالبحر، يطرق أبواب الحياة وآفاق الكون، دون أن يكون الوزن والقافية حاجزاً أو معيقاً. وإنما أخرجوا لنا فوائد وجواهر يعجز الشعر غير العربي عن بلوغها. عرف المسلمون ما يمكن أخذه والاستفادة منه، وأعادوا صياغته ليكون فنّاً إسلامياً صافياً. وأخذوا من العلوم التطبيقية، ثم أبدعوا فيها وأنشأوا علم الجبر واللوغاريثمات، وأبدعوا في الطب والفيزياء وعلوم أخرى.

أراد المسلمون أن يأخذوا ما يعينهم ليكونوا أمة قويّة عزيزة تحمل رسالة الله إلى الناس. أخذوا ما يزيدهم قوة ويعينهم على الدعوة والبلاغ والنفاذ إلى الشعوب كلها ليُقَدِّموا لها الخيرَ العظيم الذي يحملونه. لم يكن المسلمون أَتباعاً ولكنهم كانوا مبدعين يبنون حضارة إيمانيّة تحمل طهارة الإسلام ووجدان الإيمان والتوحيد، ويدركون حقيقة مسؤوليتهم في هذه الحياة ودورهم في الوفاء بالعهد والأمانة والعبادة والخلافة والعمارة. لذلك رفضوا أن يأخذوا ما يُفسِد إشراقة الطهارة ونقاوة الإيمان وعظمة الإحساس بذلك كله، الإحساس بعظمة رسالتهم التي جعلتهم خير أمة أُخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.

هذا الشعور والإحساس، وصدق العاطفة والوجدان، لا تجده عند أولئك الذين حملوا العلمانية والحداثة إلينا، ثم انقلبوا علينا يعيبون علينا ما نعتزّ به، ويهاجمون ما نتمسِّك به لقد خرج من بيننا اليوم من يدعو بدعواتهم كما ذكرنا، ولكنهم قاموا بدور آخر ألا وهو مهاجمة الحق الذي لدينا. يدعون إلى الباطل ويحاربون الحق!

 عابوا علينا الطهر الذي نعيشه، ورفضنا للرجس الذي غرقوا فيه. عابوا علينا التمسٌّك بعبقرية لغتنا وجمال شعرنا وتميّزه من النثر، عابوا علينا عبقرية النغمة في شعرنا، يصوغها إِبداع الوزن وحلاوة القافية، وشرف ذلك كله.

 وما كان لذلك من سبب إلا ما أصابنا من تفلّت عام وإقبال على الدنيا وشهواتها ولهوها ومتاعها، مما فتح للغرب ثغراتٍ, كثيرة ينفذون منها إلى قلب العالم الإسلامي وأطرافه ونواحيه عدواناً وظلماً واحتلالاً، بجيوش زاحفة وآلات مدمّرة، ونحن في سكرات اللهو. فتتابعت الهزائم والفواجع، ومواقف الإذلال والهوان، وتتابع مسلسل التنازلات في جميع الميادين: الفكرية والأدبية والثقافية والسياسية والاقتصادية. ذلك بما كسبت أيدينا وبما ظلمنا به أنفسنا، فكان قضاء الله وقدره حقّاً لا ظلم معه أبداً.

 ولم يقتصر الغزو على الغزو العسكري، وإنما رافقه أو سبقه أو لحق به غزو ثقافيُّ وفكريُّ واقتصاديُّ، غزو شامل تعمل من أجله أجهزة ومؤسسات ودوائر وطاقات متفرغة لذلك.

 أهـم سبب لذلك هو توقف الدعوة الإسلامية بمفهومها المحدّد في منهاج الله، توقّف الدعوة والبلاغ، وتبليغ رسالة الله ودينه إلى الناس كافّة كما أُنزِلت على محمد - صلى الله عليه وسلم - دون تحريف ولا تبديل. ولو نظرنا إلى التاريخ الإسلامي كله لوجدنا أنه كلما صدق المسلمون بحمل رسالة الله أعزّهم الله ونصرهم وحقق وعده لهم. وكلما تخلوا عن الدعوة وأمانتها أمةً واحدة، حقّق الله فيهم وعيده وأنزل فيهم عقابه.

لم يكن العدوان الغربي بجميع جيوشه وشعوبه على دار الإسلام هو السبب الأول لهواننا، ولكنّ السبب الأول كان هوانَ أنفسنا وإقبالنا على الدنيا و إدبارنا عن الآخرة، وغلبة الجهل على الملايين من المسلمين، الجهل بكتاب الله وسنة نبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم الجهل باللغة العربية، ثم غلبة الأهواء التي تسلّل من خلالها شياطين الإنس والجن. ثم استبدلت شعوب منتسبة إلى الإسلام لغات أخرى باللغة العربية، وضعفت اللغة العربية في الشعوب العربية نفسها وبين المثقَّفين، وحتى بين بعض الذين تخصصوا بدراسة اللغة العربية:

 

مَـالي أَلـومُ عَدوّي كلَّمـا نزلـت *** بيَ المصائـب أو أرميـه بـالتٌّهَـمِ

 

وأدّعي أبداً أنـي الـبـريء ومـا *** حملتُ في النفـس إلا سقطـة اللمم

 

أنا الملـوم! فعـهـد الله أحملـه *** و ليس يحملـه غـيري من الأُمـم

 

نعم ! نحن الملومون! نحن المنتسبين إلى الإسلام ملومون، لأن الهوان ابتدأ فينا، في أنفسنا، وبما كسبته أيدينا!

 وتوالت بعد ذلك هجمات الدول الغربية واشتد زحفها وزحف جيوشها وأجهزتها ومؤسساتها، وثقافتها وفكرها ولغاتها، حتى أصبحت تنال الفسحة الواسعة من إِعلامهم ومن إعلامنا، وضيّقت الفسحة على كلمة الإسلام ورجال الإسلام وأدب الإسلام.

 وبرزت غربة المسلم بروزاً قويّاً، حتى بين إخوانه المؤمنين وبين أهله وقومه. وبرزت غربة الأديب المسلم والشاعر المسلم تتقاذفه أعاصير الحزبية، وتُغرقه أمواج الفتن، وتصارع الأهواء. وبرزت غربة الكلمة المؤمنة الصادقة وهي تبحث لها عن منفذ، وبرزت غربة المصطلح الإيماني، المصطلح الإسلامي الذي حملته آلاف السنين!

 وتحوّلت بعض المفاهيم، ولبست بعض المصطلحات ثوباً جديداً لا يلائمها ولا يناسب جمالها! الكلمة، والمصطلح، والموضوع، وكذلك الإنسان، هذا كله أصبح غريباً. أصبحت الهزيمة ليست في ميدان القتال ولا ميدان السياسة وأمثالهما فحسب، وإنما أصبحت الهزيمة في داخل النفس، وفي الإحساس والفكر والآمال.

 و \" الأدب العربي \" لم يعد عربيّاً في جوهره. فلم تعد لغته اللغة العربية الصافية، بل غلبت العامية واللهجات المحليّة ودوّى بها الإعلام. ولم تعد صياغته هي الصياغة الأصلية ولكنها تفلّتت وتناثرت تحت مطارق شتى! وكلما حاولت الكلمة الأصلية الطيبة المرتبطة بجذورها الغنيّة النفاذ، وجدت نفسها في زحام شديد تتدافع فيه النماذج المتهالكة المتفلِّتة حتى لا تترك منفذاً لغيرها.

 وجاءت فكرة الأدب الإسلامي متأخرة كثيراً. جاءت لتزاحم أفكاراً وموضوعات ومصطلحات غربية تفرض نفسها بقوّة وعنف، أو تسلل في العروق والدم، فتختل الموازنة أحياناً، وتظهر الحيرة، ويبرز التناقض بين حملة الأدب الإسلامي نفسه.

يبدو أن أهل الحداثة تماسكوا في ما بينهم، وجمعوا صفوفهم، على كلمة واحدة، وعلى نهج وخطة مدروسة. وأمامهم المسلمون متفرّقين ممزّقين لا يحملون النهج الأصيل الحق الواعي، ولا الخطة الأمينة المدروسة. وأصبح تأثير أولئك أشدّ وأبعد، وتأثير المسلمين أضعف وأَوهى، والفرقة تتسع ولا تضيق. وأصبح الكثيرون ينظرون إلى الغرب نظرة العاجز إلى القوي، والمسود إلى السيّد، والجاهل إلى العالم. وأصبح عطاء هؤلاء هو التقليد الذي لا تجديد فيه، وهو التبعيّة العمياء التي لا عزّة فيها ولا وعي، وهو الانقياد إلى شعارات مدوّيّة تصكّ الأذان. انقطعوا عن جذورهم، وانفصلوا عن غِناهم، واعتزلوا أَمجادهم، وأخذوا يحطمونها تحطيماً.

أصبـح أدبنا المنشور الممتدّ أدباً مستوراً في أحرف عربيّة وزخارف أجنبيّة، ومعـانٍ, تائهة، وفكر متهالك، ونماذج ساقطة ضائعة. ولكنها تمتدٌّ وتتسع، وتضع بصمتها وآثارها، حتى في أجواء المسلمين. صار الانتماء إلى عصبيات جاهليّة زادت الفرقة والتمزّق، وزادت الغربة، غربة الفكر والكلمة والموضوع والمصطلح:

 

أنا الغريـب! وأرض الله واسعـة *** إذا نهضت وفاء الصـدق مِن ذِممي

  

تغصٌّ بالغُرباء الـدرب فـاختنقـت *** شعابُـه كُتَـلاً مقطـوعـةَ اللجُـم

 

أنّى تلـفَـتٌّ أصبحتُ الغريـب على *** أهلي وصحبي ومن أفديهِـمُ بدمـي

 

ما كنتُ أطلـب وصـلاً لا أُبـدّلـه *** إلا عُرا الـديـن حبـلاً غير منفصم

 

ولا رجـوت وداداً فـي مروءتـه *** إلا المـودّة في قربـى وفي رحـم

 

من كان يطلب أنساباً دفعـت لهـم *** أزكى وأطيب ما يُـرجى من اللٌّحَـم

 

مضمخـاً بدمٍ,! طيباً على عَـبَـق *** زهواً على شرف! مجداً على هِمَـمِ

 

تراه يضرب في التاريـخ أفـرُعَـه *** عزّاً ويمضي مع الأيـام في كَـرَمِ

 

وشيجـة الحـق والإيمـان وارفـة *** بِظِلّهـا ونـديٍّ, وافـر الـنـعـم

 

ليس الغريـبُ فتىً أَلقتـه صحبتُـه *** ولا الذي قطعتـه الأرض عن رحـم

 

ولا الذي غادر الأوطـان مـرتحـلاً *** ومـلء جنبيـه عـزمٌ غيرُ منهـزم

 

طـوبى لكل غريبٍ, صابـرٍ, شرفـاً *** مستمسـك بـالهـدى بالله مُعتصـم

 

أنا الغريـب إذا فـارقـت حـانيـة *** مـن الكتـابِ وآيـات من الحِـكَـمِ

 

وسنّـةً من رسـول الله مشـرقَـةً *** وصُحبَةً من صفـيِّ العهـد والـذّمم

 

أنا الغريب إذا جاوزتُ مَعـتـقَـدي *** ورحت أضربُ في وهـمٍ, وفي رُجُـم

 

أنا الغريبُ إذا استسلمتُ عبد هـوى *** وعربَدَت شَهَـوات العمـرِ ملءَ دمي

 

وغربَةُ النفس تُشقي كلما نَـزَعَـت *** نفسٌ إلى صنـمٍ, يهـوي إلى صَنَـم

 

وقسوةُ الذلِّ أن يرقـى الشعار على *** زخارف كذبت في الساح والأكـم(1)

 

ومن هذا الظلام خرج شعراء أعادوا الشعر إلى إشراقة أصالته، وجمال عبقريته، وضربوا بشعرهم موضوعات متجدِّدة في حلية بهية. وإن كان بعضهم لم يلتزم بالصفاء الإيماني والغناء الفكري. فتنقّل بعضهم بين التزام وتفلٌّت ليمثلوا مرحلة الحيرة والتردّد. وربما استفاد بعضهم من الغرب الزاحف، فاستطاع أن يطرق ميادين جديدة أَثرت الأدب.

 ولكن ذلك لم يرقَ إلى صفاء الأدب الملتزم بالإسلام في موضوعاته وبعض مصطلحاته، فقد ظهر في مرحلة امتدّ فيها الغزو الذي عرضناه قبل قليل واشتد أثره. فنجا من كثير منه ذلك الرعيل الذي أعاد للشعر غناه وأصالته.

 ولكن بعض النقَّاد الذين شدتهم زخارف الأدب الغربي ومصطلحاته، أرادوا أن يُخضِعوا الأدب العربيّ إلى تقسيمات الأدب الغربي من أدب كلاسيكي إلى رومانسي إلى واقعي إلى غيره من المصطلحات والتقسيمات خاضعين لتصوّرات لا يجدون لهم عليها برهاناً. وأخذت هذه المصطلحات تمتدّ وتنتشر على قدر عزيمة القوى التي تدفعها.

 لم يكن لدى النُقاد ميزان واحد ثابت يحتكمون إليه. فظهرت مدارس متعددة تفاوتت في مقدار أصالتها أو تجديدها المتفلّت. مدرسة الديوان احتفظت بالقدر الجيد من الاعتصام بالأصالة، ومدرسة أبولو وأتباعها أسرفوا في التقليد والتبعية في المصطلح والفكر. والذين جاءوا بعد ذلك غالوا في التقليد الأعمى والتبعية الذليلة والتحلّل والتبرٌّؤ من جذور أدب الأمة وعقيدتها.

 بلغ الانحراف ذروته حين تحول ولاء نفرٍ, منتسبين إلى أمتنا، من ولاء لأمتهم وموالاة لها إلى ولاء للسيّد الغريب الزاحف. فالشيوعي أصبح ولاؤه المعلن لموسكو، وتابِع الغرب أصبح ولاؤه لباريس أو لندن أو نيويورك وواشنطن، ولاء فكر وعاطفة، كلُّ يمجِّد أسياده في شعره ونثره، في انحرافه الممتد.

 دعوات كثيرة متصارعة نقلت ميدان صراعها إلى العالم الإسلامي، وتفجّـرت مع كلّ دعوة موضوعات ومصطلحات تتدفّق كأنها الطوفان: الماركسية، اللينينية، الشيوعية، الاشتراكية، الكلاسيكية، الرومانسية، الواقعية بأنواعها، الرمزية، الوجودية، الحداثية بمذاهبها، البنيوية، التفكيكية، الأسلوبيّة، إلى غير ذلك من الخليط العجيب الذي غزا أو زحف أو تسلل إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي.

 وتكرّرت ألفـاظ ومصطلحات عربيّة في موضوعات منحرفة فاسدة: الخمرة، الخطيئة، الإلـه، الشيطان، ومصطلحات نصرانية: الصليب، الأيقونة، القدّيسين، وغير ذلك.

 وجاءت اشتقاقات غربية: اللاحقيقة واللاواقع، الممرئيّة، التموضع الزمكاني، الرؤيوية، الخ...!

 وألفاظ ومصطلحات عائمة لا تحمل معنى محدّداً ولكن تجرّ الإنسان جرّاً إلى متاهة وضياع: العمل المغلق، اعتباطيّة الإشارة، الفحص الاستبدالي... !

 وفقدت بعض الكلمات العربيّة معناها وانحرفت مع المذاهب الجديدة إلى متاهاتها وضلالها، وإلى غموض وإبهام مقصودين.

 ودخل في الشعر أسماء رموز مستقاة من الوثنية بمختلف مذاهبها وأشكالها في التاريخ البشري: أبو لو، افرودايت، زيوس، سيزيف، أدونيس، بعل، جلجامش، عشتار، وغير ذلك مما يطول عرضه.

 ولقد كان من شدّة تأثير هذه التيارات والمصطلحات أن دخلت في نصوص بعض الشعراء المسلمين، ليس في مجال نقدها وانتقادها، ولكنها في مجال انسياب مُرضي، وتسلٌّلٍ, خفي، ينفذ من ثغراتِ خللٍ, في التصور الإيماني وصفاء التوحيد، وشدَّة التأثر بالغرب ومذاهبه. نظرة سريعة لتاريخ أوروبا الممتد حتى الحرب العالميّة الأولى والثانية وحتى اليوم، نجد الصراع بين الوثنيّة المستقرّة والنصرانية الوافدة، ثم الصراع بين مذاهب النصرانية التي انحرفت عن رسالة عيسى - عليه السلام -، ثم الصراع بين الكنيسة وبين الملوك والأباطرة والعلماء، هذا كله أثر أبعد التأثير في الفكر الأوربي وولّد فيه المذاهب المتعدّدة التي ذكرنا بعضها، المذاهب التي تدل بوضوح على الحيرة والتردّد والرغبة في التخلّص من الواقع المؤلم في أوروبا، حتـى أصدر مارينيتي سنة 1915م كتاباً أسماه: \" الحرب هي العلاج الوحيد للعالم \". وكانت الحرب العالمية الأولى التي حطمت نفسية الإنسان الأوربي تحطيماً كبيراً، فانفلت في متاهات واسعة، وجاءت الحرب العالميّة الثانية لتتابع مهمّة تحطيم النفسية والفكر. فجاءت المذاهب الأدبية المتصارعة المتفلتة ثمرة هذا الصراع الطويل والحروب المدمرة، لتُعبّر عن فقد الإنسان الغربي الأوربي أمله وثقته بالماضي والحاضر والمستقبل، بالدين، بالقيم، بالوطن، بالأخلاق! بكل شيء!.

 هذا اليأس والإحباط ولّد أدبه في موضوعاته ومصطلحاته، أدب الضياع! هذا الأدب الضائع هو الذي اتبعه بعضنا في موضوعاته ومصطلحاته، أَو في أكثرها. وكان الاتباع تقليداً أعمى لا إبداع فيه، تقليداً ترك الجوهر الثمين الذي هو لديه، وأخذ الزخرف الكاذب من هناك. ثم افترى أصحابه فرية كبيرة حين قالوا: هذا هو التجديد. وانساقت بعض الألسنة والصحف والمجلات وغيرها تـردّد شعـارات هذا التجديـد وتـدعو له، في مرحلة غفل فيها المسلمون غفلة واسعة.

 ولقد تمادى أتباع الغرب كثيراً، حين أرادوا أن يطبّقوا موضوعات الغرب ومصطلحاته على اللغة العربية وأدبها. يريدون أن يوجدوا في تاريخ أدبنا مرحلة الأدب الكلاسيكي ثم مرحلة الأدب الرومانسي، والأدب الكلاسيكي هو في أساسه تقليد لأدب اليونان وفكره الذي هو بدوره تقليد الطبيعة في صورة وثنيّة. فأين ذلك من تاريخنا وتاريخ أدبنا؟

 ويريدون أن يطبقوا قواعد النقد على أدب الإسلام ولغته العربية، وأنَّى يصحّ هذا؟! الأدب من منابعه الفكر والعقيدة واللغة! فلا جلال الإسلام ولا عظمة اللغة العربية يدانيهما الفكر العلماني ولغاته المتعدّدة. اللغة العربيّة متميّزة من جميع لغات العالم، والإسلام متميّز من جميع المبادئ والأفكار.

 وانطلقت العلمانية تحمل ذاك الأدب الضائع لتنشره في الأرض كلها، مع مفاسد العلمانية وفجورها وفتنتها. فما عاد يصلح قياس ولا مطابقة ولا اتباع لمن أراد أن يصون دينه ولغته، إيمانه وصدقه ووفاءه.

 الإسلام جاء ديناً من عند الله وحياً على محمد - صلى الله عليه وسلم - في رسالته الخاتمة، وحياً من عند الله باللغة العربية. فارتبطت اللغة العربية بالإسلام إِيماناً وتصديقاً، وأصبح فرضاً على كلِّ مسلم أن يعرف العربية ويتقنها حتى يتدبر منهاج الله. فإن لم يفعل فذلك إثم ارتكبه، وما أطاع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فللإسلام في ميزان الله ورسوله لغة واحدة هي اللغة العربية، وللأدب الإسلامي لغة واحدة هي اللغة العربية، فإنما نقبله تحت ضغط الواقع والضعف الذي يطغى والهوان الذي غلبنا. ولكننا نظلّ نذكر كل مسلم بوجوب دراسة اللغة العربية وإتقانها، فهي لغة الوحي والنبوة والكتاب والسنة، ولغة الشعائر و الطاعات والدعاء.

 أما باقي المبادئ والأفكار في العالم، فلم يفرض أربابها لغة واحدة يعبدهم بها أتباعهم. فكانت الاشتراكية والماركسية والديمقراطية والعلمانيّة والمذاهب الأدبية المختلفة تمضي بلغات مختلفة، كلٌّ طائفة من الأتباع لهم لغتهم. فجاء أدب هذه المبادئ بلغات مختلفة. ولكنّ هذا الحال لا يقاس عليه حال الأدب الإسلامي، حين جعل الله للإسلام لغة واحدة نزل بها القرآن الكريم.

إِن مهمّة الأدب الإسلامي اليوم أن تعيد للأدب أصالته وللشعر أصالته، ليُنَقَّى من لوثات الموضوعات التي فُرِضَت علينا اليوم، والمصطلحات التي انتشرت بيننا، وما أثارته تلك المصطلحات والموضوعات من بلبلة وحَيرَة واضطراب في تصوّرنا لأدبنا ولغتنا وشعرنا ومنزلة ذلك كله.

 التفعيلة والنثر في الشعر مصطلحات دخيلة، أثارت موضوعات من الغموض والإبهام. مفهوم الشعر ذاته اضطرب اضطراباً كبيراً على أثر تصورات الحداثة والبنيوية، وسوء مسالك الأسلوب والأسلوبية ومذاهبها المتناقضة وما طرحه ياكبسون من \"نظرية الاتصال\"! وما طرحه أدونيس من غيبوبة وسكرة وخمرة ومتاهة في \"اللامحدود واللانهائي واللاواقعي\".

مهمة الأدب الإسلامي مهمة كبيرة ومسؤوليّة عظيمة سيحاسب عليها الأدباء المسلمون في الدنيا والآخرة. إنها أمانة ورسالة، وإنها عهد مع الله وميثاق. إنها من أمانة الإسلام ورسالته، لا تنفصل عنه أبداً.

 لا بد من نفي الغموض والإِبهام والحَيرة والتيه من أدب الإسلام، حتى يساهم الأدب في حمل الرسالة الربانية التي تزيد الجلاء في بلاغها، والبيان في لغتها، والوصول إلى الناس كافة!

 لقد أصبح من المسلمين وممن ينتسبون إلى الأدب الإسلامي من يدعو إلى نفي \" الموعظة \" من الأدب الإسلامي، ساخرين بالموعظة على إطلاقها، جاهلين أو متجاهلين أن القرآن كله قد سمّاه الله موعظة، لتكون الموعظة شفاءً لما في الصدور، وهدى ورحمةً للمؤمنين. فالذين يدعون إلى ترك الموعظة على إطلاقها إنما يدعون إلى ترك الشفاء والهدى والرحمة:

(يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) [يونس: 57]

لقد أصبح من المسلمين ومن شعرائهم من يدعو إلى إمكانيّة التنازل عن القافية والوزن في الشعر الإسلامي، وإلى ما يسمٌّونه بقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، يتنازلون عن الـوزن والقافية في الشعر الإٍ,سلامي، وإلى التزام ما يسمٌّونه بقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، يتنازلون عن الوزن والقافية وهما أساس الشعر في اللغة العربية كما تلقّيناه، وكما عرّفته المعاجم، وكما التزمه الشعراء العرب والمسلمون قروناً ممتدّة حتى يومنا هذا، وكما عرّفه الأدباء والفقهاء والعلماء خلال هذه القرون الطويلة، يتنازلون عنها، وفي الوقت نفسه لا يتنازلون عن التصوّر الوثني للملحمة، ويرفضون التصوّر الإيماني النابع من الكتاب والسنّة واللغة العربية وحاجة واقعنا اليوم، مع الحجّة والبيان والبيّنة، ثاروا وغضبوا وأبوا أن تُمَسَّ \" قدسيّة \" التصور الوثني بطوله وحجمه وفنّه، قدسيّته التي تبنَّتها أوروبا باختلاف مذاهبها الفكريّة والأدبية، حتى الحداثيّة التي تنكر القديم كله إلا أساطير اليونان!

تناقض عجيب! لا يمكن تفسيره إلا بأن سلطان الحداثة وسلطان القوى الدولية التي تدعمها أصبحت أقوى من سلطان الدين الإسلامي وسلطان اللغة العربية في بعض النفوس!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply