العربية بين الواقع والموقع


 

بسم الله الرحمن الرحيم

تمر اللغة العربية في هذه السنوات بمرحلة عصيبة تنسجم تماما مع مستوى ما يواجه الأمة العربية نفسها من تحديات خطيرة تمس جوهر وجودها ومقومات استمرارها. فاللغة العربية أضحت هي الأخرى هدفا يراد القضاء عليه في أفق التمكين للغة وحضارة الغالب.

في هذا السياق، واستشعارا لحجم التحديات التي تعترض اللغة العربية، كأهم جزء من مكونات الحضارة العربية والإسلامية لارتباطها مباشرة بالقرآن الكريم، طالما حذرت اليونسكو من اندثار عدد من اللغات بسبب رياح العولمة التي تجرف كل الخصوصيات الفكرية والثقافية وتسعى إلى تنميط العالم وفق ثقافة ونمط تفكير الدول الغالبة.

هذا التحذير يجد مصداقيته من هذا الواقع المتردي الذي يشهده واقع اللغة العربية في وطننا العربي على كل المستويات، فاللغة العربية أصبحت معاناتها مزدوجة، من جانب مستعمليها، نطقا وكتابة، الذين فضلوا النطق والكتابة بلغة غيرهم، ومن جانب أعدائها الذين يروا في استمرارها استمرارا للتمكين للإسلام. ولعل أبلغ خطر في هذا السياق هو أن اللغة من منظور العلماء تدخل دائرة خطر الانقراض حين يتوقف أكثر من ثلاثين في المائة من أبناء الجماعة الناطقة بها عن تعلمها. وأن كثيرا من البرامج التعليمية والمناهج التربوية الحديثة المندرجة في إطار إعادة هيكلة العملية التعليمية أصبحت تعطي الأولوية بشكل كبير لما تعتبره لغات حيةً على حساب اللغة العربية التي تصنف ضمن اللغات السامية. ففي رأي عالم اللغويات تشارلز كيفر \"أن موت اللغة يتحقق عندما يهتم المرء بأن يتحدث بلغة أخرى يجد أنها أكثر فائدة له اقتصاديا وفكريا، وهو ما يدفعه أيضاً لأن يحرص على أن يصبح إنساناً آخر، وأن يجد فرصة عيش أفضل، ومن هنا يكون من العبث الدفاع عن لغة وعن وضع إثني سوف يتحولان بمضي الوقت إلى فولكلور قديم الطراز\".

 

مظاهر شاذة لا تليق بلغة القرآن ولا بقومها

لم يسجل التاريخ يوما أن اللغة العربية كانت في حاجة إلى نصرة كما هي عليه اليوم، فهي تبث حزنها وتشكو هوانها لا من ضعف فيها، وإنما من ضعف وهوان الناطقين بها، فأصحاب العربية الذين نقلوا لغتهم خلال الفتوحات الإسلامية إلى مشارق الأرض ومغاربها وأصبحت اللسان الوحيد السائد بين هذه الشعوب أصبحوا اليوم يندبون حظها، ويتباكون عليها، لأنها لم تعد في الصدارة بين اللغات، ولا عند أهلها في سلم الأوليات. مع أنها تمثل كيانا دينيا وقوميا يمثل أغلى ممتلكات الأمة العربية والإسلامية، فهي قرين ذاتنا وهويتنا وثقافتنا وحضارتنا، وبالتالي فالمساس بها أو الإساءة إليها هي إساءة لنا، بل إساءة للإسلام نفسه.

ومن هذه المفارقات العجيبة التي لا تليق إطلاقا باللغة العربية ما كشفت عنه منظمة التربية والثقافة و العلوم (الألكسو) في تقرير لها عبرت فيه عن انشغالها لغياب اللغة العربية عما أسمته بـ \"العالم الفسيح الذي يمثله الانترنت\". واستنادا إلى هذا التقرير الذي صدر بمناسبة الاحتفال بـ \"اليوم العالمي للغة الأم\" فاللغة العربية لا تمثل سوى 4 بالمائة من مجموع اللغات الحاضرة على شبكة الإنترنت، مقابل 47 بالمائة للإنجليزية، و 9 بالمائة للصينية، و 8 بالمائة لليابانية، و 6 بالمائة للألمانية، و 4 بالمائة لكل من الإسبانية والفرنسية\".

ومن هذه المظاهر التي تدعو إلى الاستغراب أن اللغة العربية التي ظلت صامدة طوال عهود الاحتلال، وارتفعت نسبة متعلميها، وضوعفت معدلات المدارس والجامعات، لكنها هزمت بعدما رحل الاستعمار. ومرد هذا إلى فشل كل الجهود التي بذلتها الدول الاستعمارية لمحاربة الحرف العربي وليِّ ألسنة الجماهير في بلادنا ـ إبان الاحتلال ـ فظلت أمتنا تدافع عن حرفها الذي عد حينئذ رمزا للهوية وراية للانتماء. لكن لمّا يعد الأمر كذلك في مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر، ففي الوقت الحاضر استطاعت هذه الجهود، التي لم تتوقف أصلا، أن تعطي أكلها فصرفت العرب عن لغتهم إلى لغة غيرهم.

وتشير غالب الدراسات المنجزة حول مكانة اللغة العربية ضمن خارطة اللغات المنطوقة على الصعيد العالمي إلى أنها تحتل المركز الخامس بين اللغات العشرين التي تمثل القمة بالنسبة لعدد المتحدثين بها مسبوقة باللغة الصـينية, والإنجليزية, والأسـبانية, والهندية, ومتبوعة, باللغات البنغالية, والروسية, والبرتغالية, واليابانية, والألمانية, والفرنسية، بل من هذه الدراسات دراسات تضع اللغة العربية في الرتبة السابعة مسبوقة بالإنجليزية والصينية والهندية والإسبانية والروسية والفرنسية.

ويمكن القول في هذا الصدد إن مناوئي اللغة العربية في السابق كانوا من المتغربين والمعادين للانتماء العربي والإسلامي، غير أن أقصى تحركاتهم لم تكن سوى جهد ذاتي غير منظم لم يكتب لها النجاح. لكن الأمر في وقتنا الحاضر اختلف تماما وأصبح أكثر تأثيرا، ذلك أن إهانة اللغة العربية والإساءة إليها والتشكيك في قدرتها على مواكبة تطورات الحياة اليومية للناس أصبح سلوكا عاما في المجتمع العربي بل أضحى عند البعض من مقتضيات بناء مجتمع الحداثة، وكأن الحداثة واللغة العربية خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا، ناسين أو متناسين أن اللغة العربية يتوفر فيها ما لا يتوفر في غيرها.

إنه بمجرد التأمل والتدبر في واقعنا اللغوي المتردي يمكن أن نرصد عددا من الحقائق الصادمة لشعور العرب والمسلمين، فعلى قدر تفوق الغرب في تسويق حضارته، ومنها لغته كمدخل لهذه الحضارة، لما له من حسن تخطيط وبعد نظر وإمكانات مادية، فإن العرب يُخدعون بهذا البريق الكاذب فيهرولون إلى ضبط لغاته، وبقدر هرولتهم هذه بقدر ابتعادهم عن لغتهم الأم. وقد سخر الآخر لخدمة هذا الهدف عددا من المراكز الثقافية والفكرية التي تعنى بالدعوة إلى لغته واستغلالها لكل وسائل الإغراء المادية والمعنوية من داخل هذه الدول العربية ومن خارجها.

ليس الأمر مقتصرا على ذلك فحسب، بل إننا نرى اليوم إعادة إحياء لبعض الدعوات التبشيرية المتحاملة على العربية الفصحى، فمن رميها بالقصور والعجز عن مواكبة مستحدثات وتطورات العصر، إلى وصف قواعدها ونحوها بالصعوبة والتعقيد من أجل صرف الناس عنها إلى غيرها من اللغات الأخرى، إلى الدعوة إلى استعمال العامية سلاحا للقضاء على ما تبقى من اللسان العربي وإضعاف الوحدة العربية والإسلامية، إلى تشجيع الشباب على البحث في اللغات الأخرى وإنجاز أطروحاتهم الجامعية فيها مقابل منح دراسية ووعود بالتوظيف.

 

ما سر هذا الانهيار في استعمال الفصحى؟

هذا السؤال حاولت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) أن تجيب عليه فعقدت لذلك ندوة دولية بالرباط سنة 2002 بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية، قُدِّم فيه ما يفوق 28 بحثا في الموضوع، حاولت كلها الإجابة على هذا السؤال المزعج، فتمت المقاربة من أوجه متعددة، وأصدرت كل ذلك في كتاب سمته \"اللغة العربية إلى أين؟ \" وكان من جملة ذلك مقال مفيد جدا للأستاذ فهمي هويدي حاول أن يسرد فيه بعض الأسباب فذكر ما يلي:

1- تجتاح العالم العربي حالة من الهزيمة النفسية، استصحبت حطّا من شأن الذات وانبهارا بالعالم الغربي بكل ما فيه، من اللغة إلى نمط الحياة والسلوك. وهو ما سرب لدى الناس في بلادنا وهما مُفَاده أننا لكي نتقدم فسبيلنا إلى ذلك أن نتخلى عما عندنا ونلتحق بالآخرين، الأمر الذي يرتب تلقائيا إقبالا على \"الانخلاع\" من مقومات الخصوصية والانتماء، إذ إن الهزيمة حاصلة في المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية، لكن أخطر ما أسفر عنه ذلك الوضع هو تلك الهزيمة النفسية، التي أصابت الذات وضربت في الصميم جذور الانتماء. ولأن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب، كما ذكر ابن خلدون، فإن أمورا كثيرة تغيرت أو انقلبت في حياة العرب والمسلمين من جراء ذلك الوضع، وكانت لغتهم من بين ما لحقه التغيير والانقلاب.

 

2- ثمة واقع عربي يُعد التردي من أبرز سماته. ومن مظاهره انهيار النظام العربي، وغياب المشروع أو الحلم المشترك، وتراجع الحس والانتماء القوميين، وهو ما أدى إلى تكريس القطرية وتنامي المشاعر الإقليمية والعصبيات الجاهلية، ثم أسفر في نهاية المطاف عن تراجع فكرة الأمة في الإدراك العام. بل إننا قرأنا كتابات لنفر من المثقفين شككت في مبدأ وجود الأمة العربية، ناهيك عن الإسلامية، وعدَّتها شيئا تخيله نفر من الحالمين وراحوا يبشرون بها بين الناس.

وأرجو، يقول هويدي، ألا أكون مفرطا في التشاؤم إذا قلت إن الانتماء العربي في هذه الأيام لم يعد مصدراً للاعتزاز بين أعداد غير قليلة من المثقفين. وحين يحدث ذلك - وأرجو أن أكون مخطئا في التقدير- فلا غرابة في أن تتقطع وشائج الانتماء واحدة تلو الأخرى، وأن تنهزم الفصحى، وتزدهر العامية. وإذا ما صح ذلك، فهو يعني أننا في حقيقة الأمر بصدد أزمة أمة لا أزمة لغة، أعني أن الأحوال المتردية تفرز أصداء في مناح عدة، وما نحن بصدده هو بعض تلك الأصداء. وقد كان ابن حزم حصيفا وبليغا حين ذكر في كتابه (الأحكام)، أن اللغة يسقط أكثرها بسقوط همّة أهلها. يقول \"أي ابن حزم\": \"فإن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم. فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها(اهـ. وهو ما أراه منطبقاً بدقة على واقعنا العربي الراهن. ذلك أنك لا تستطيع أن تتصور اعتزازا باللغة القومية في أزمنة تراجع فيها الحس القومي، ويتعذر أن تجد تمسكا باللغة العربية في وقت يُظن فيه أن المستقبل للمتمكن من اللغة الإنجليزية، أو الفرنسية.

 

هل إلى خروج من سبيل؟

لا يمكن أن نخرج بلغتنا العربية من هذا الوهاد الذي وضعه فيها قومها إلا بالإدراك التام أننا بصدد معركة حقيقية بين أن نكون، شكلا ومضمونا، أو ألا نكون إلا حسب ما يرسمه الآخر لنا، هي معركة تأخذ أبعادا متعددة وترتدي رداءات كثيرة ومتغيرة بتغير الأهداف والاستراتيجيات. إننا لن نرتقي بلغتنا إلا إذا تمكنا من الإقلاع بأنفسنا من هذا الموت الحضاري وصار لنا نوع من الاعتزاز بحضارتنا وبلغتنا، وتجاوزنا عقدة النقص التي يحسها كثير من الناس، ومنهم مثقفون وأدباء وسياسيون.

وقديما قال أحد الحكماء \"إذا أردت أن تهدم حضارة قوم فابن على أنقاض لغتهم نحوا جديدا\"º وبالتالي علينا أن ندرك أن الآخر، الذي يكيد للعربية كيدا، يعترف، وإن لم يصرح علنا، بأن في اللغة العربية ما ليس في غيرها، وأنها أغنى من كل اللغات، كيف لا وهي اللغة التي بها أنزل الله القرآن هدى للناس ورحمة.

إنه لا سبيل في نظري لتخليص اللغة العربية من عداء أعدائها وظلم ذويها إلا بعد الإدراك بأن ما يخطط وما يدبر لها بالليل والنهار مرده إلى أنها هي لغة القرآن ولغة التعبد ولغة الحضارة والعلم والعالمية لعالمية الإسلام نفسه، ولغة التوحيد، ولغة الجمال والبيان ودقة التصوير...، فمتى أدركنا هذا كان نقطة البداية نحو التجاوز.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply