أوبرا الياسمينة وملكة الليل


 

بسم الله الرحمن الرحيم

((كثيرون هم أولئك الذين يسعون لتحطيم كل المعاني الجميلة..إنهم أتباع الشياطين))

بعد جلسة استرخاء على ضفاف نهر الدانوب تناول العبهول كوباً ناصعاً مثل نصاعة قلبه من الشاهي المغربي المعتق (أتاي)، وارتشف منه رشفة بقصد تعديل مزاجه ليكون رائقاً هادئاً على النحو الذي يتيح له عزف ألحانه المحببة إلى نفسه، وتناول بيديه إثر الرشفة ريشته الذهبية وأحكم الإمساك بها وبدأ يعزف لحناً حزيناً اخترق جدار الصمت كما اخترق سمع كل مخلوق فيه حياة من حوله وسطر حاكياً:

يُحكى أن الأقدار جمعت بين الياسمينة وملكة الليل في حديقة مثمرة مزهرة، تفوح بالعبير المنعش كل حين، فتجذب أعين الناظرين، وتأسر لب العاشقين، وأنهما تجاورتا ردحاً من الزمان، تتبادلان التحية كل صبح ومساء، وتفوحان بالعبير في جوف الليل وإذا حلَّ الضياء، فتُسمِع كل واحدة أختها أشجى ألحانها، وتعزف أجمل أنغامها، كانت الحساسين والبلابل تشدو في رياضها وعلى فروعها، بهدوء وراحة، دون خوف أو وجل، ودون كدر أو نَصَب، فغدت الحديقة عرساً راقصاً غناء، وغدا رواد الحديقة في قمة الفرحة والسرور والابتهاج، وفي أمسية ربيعية منعشة، والنسيم العليل يداعب خد الياسمينة، ويلاعب تاج الملكة، ويغازل الأوراق الخضراء بكل أدب وحشمة، ويهز الفروع المثقلة بالزهور بكل رقة ووقار، فتتمايل طرباً وتهتز نشوة، فتملأ المكان بالشذى والعبير، والياسمينة الشامخة يفوح عبيرها بهمس ليطرق كل باب في أزقة المدينة، ويدخل خلسة كل مجلس من مجالس السمر في تلك الأحياء التي تضم ثلة من أصحاب القلوب النقية، والنفوس البريئة، وهم يعيشون أجمل الأوقات، وأسعدها فيتبادلون الهمسات حباً وهياماً، ويستمعون ترانيم العشق ولعاً وغراماً، ويحكون قصص العشاق إعجاباً وانبهاراً، يعيدون الذكريات، ويرسمون للغد المشرق البرامج الممتعة واللقاءات المفرحة، فترتسم الابتسامات على الوجوه، في الوقت نفسه كانت ملكة الليل تعزف عزفاً منفرداً، فتسمع كل غادٍ, وراح أجمل الألحان دون كلل أو ملل، والجميع يبدون إعجابهم بعزفها وإيقاعاتها وترانيمها، وهي في غاية الأنس والراحة والسعادة حين ترى الفرحة تدخل القلوب، والسعادة تُرسَمُ على الوجوه، فكانت الأمسية بحق أمسية فريدة نقشت على القلوب أجمل لوحة.

 

والعشاق والمحبون، وأهل الود والمتحابون، يسهرون ويتسامرون، ويقضون أجمل الأوقات وأحلى الأزمنة، وقلوبهم الصافية ونفوسهم البريئة تتجول بين الورود والزهور برقة وتحنان ترتشف من رحيقها رشفاً، وتمز ماء الحياة مزاً، معتقدة أن عبير الياسمينة وعزف ملكة الليل كفيلان أن يجعلا كل عاشق ولهان ينطق بالشكر للمنعم الخالق على أفضاله ومننه، فهذا يقول سبحان الذي أوجد وصنع.. وذاك يردد سبحان من أنبت وأودع.. والآخر يغرد قائلاً سبحان من خلق وأبدع..

 

غير أن للوسواس الخناس جولات، ولأتباعه من شياطين الإنس والجن صولات، لا يهدأ لهم بال، ولا يقر لهم حال، فهم دائماً عن الخير معرضون، وللسعادة كارهون، همهم إفساد الأجواء، ووضع العقبات أمام السعداء، لينقلوهم إلى درجات الأشقياء، بعض هؤلاء ومن غير سابق إنذار مدَّ يده القذرة بالصارم البتار، ومن دون رحمة ومن غير شفقة بتر الأفاك اللعين فروع الياسمينة الفواحة، وحطَّم تاج الملكة الشامخة، وهتك قدسية الأرض المنبتة.. والحديقة الغناء، فتقطعت الياسمينة وتكسرت وتبعثرت أزهارها، وما عادت تقوى أن تبث للسمار عبيرها وحديثها، وانخدش كبرياء الملكة فما عادت تعزف حلو ألحانها، ولا عادت تملأ الأجواء بنفحات عطرها، وانقلب الحال، وتغيرت الأحوال، وساد صمت مزعج لا لون له ولا طعم، وافتقدت المجالس همسات الحب، وترانيم الغرام، وساد سكون مرعب، فبدت الوجوه شاحبة، وغدت الابتسامات غائبة، وتبدل الشكر للمنعم ببث الشكوى للقوي الجبار بقصد تبديل الحال إلى ما كان قبل الزوال.

 

تضمخت الياسمينة بعبيرها، وتخضبت بنقائها، وتلطخت برحيقها، وترنحت تحت ثقل فروعها، وافترشت التربة الطاهرة بصفائها، وتلحفت عباءة الملكة المحتشمة، ووضعت خدها الناعم بجوار بقايا الدرر التي تبعثرت من تاج الملكة، وتبادلتا تحية الوداع بهمس العاشقين، ورقة العذارى المتيمين، حتى امتزجت ألوان الطيف كلها في صورتهما الصافية، وتساقطت اللآلئ، وانهمرت الدرر من هامة الملكة وتناثرت في أرجاء الحديقة الغناء، فأعادت التربة النقية مخزونها من العبير الذي أودعته تلك الياسمينة، ومن الماء الزلال الذي روت به جذور الملكة، ولأن الأمل لا يغادر النفوس المطمئنة، لكونها راضية مرضية لا تعرف القنوط، ولا تستسلم لليأس، ولأن حب الحياة لا يغادر نفوس العاشقين الذين لا يعرفون الكراهية ولا البغضاء، فقد انبثق نور ساطع وأمل مشرق، فما هي إلا لحظات من عمر الزمان، حتى سمع الجميع لحناً أصيلاً، فقد تشققت التربة الطاهرة الندية تفوح عبيراً وتعزف هديلاً، لتخرج نبتة طرية بلون الربيع، وبشدو الطيور، وبمذاق الشهد، ولتعد بغد مشرق، وصباح مبتسم، ومساء مبتهج، بهديل راقص، وشهد مصفى، ولتعيد الأمل إلى النفوس المنكسرة، وإلى القلوب المكلومة، ولتعزف للجميع ومن جديد لحن الخلود، ولتحثهم على شكر المنعم الذي لا ينقطع عطاؤه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply