الراعي والشعر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله:

بينا أنا سائر على ظهر سيارتي أطوي المفاوز، وأنتعل المهامهº إذ بها تقف على حيد الطريق فجأة، فسكن بطرفة عين وانتباهها كل متحرك فيها، وإذ بي في قلب سبسب مقفرة، قد نصب الموت فيها خيامه، واستعد يستقبل ما أمامه.

فتعوذت بكلمات الله التامة من شر ما خلق، وترجلت وبدأت أتفقدها من ألفها إلى يائهاº فما وجدت شيئاً يعيبها، فقعدت أحدٌّ النظر في الطريق لعل قادماً ينقذني من الهلكة، فما رضي أن يقف أحد، ولا أن يمد يد العون مخلوق، فأسفت لانقطاع الخير بين الناس! حتى تيقنت أنني هالك لا محالة، ومودع الدنيا دون أدنى شك، همت على وجهي حتى لم أكد أرى الطريق، فلما بلغ بي الصدى مبلغه، وما بقي على الموت إلا شفىًº غشي علي فما انتبهت إلا وماء بارد نمير يتدفق على وجهي من وكاء أعرابي قد قلبته الصحراء على ظهرها فكأنه ابن من أبنائها، فقلت: اسقني فسقانيº فأومأت أن زد فزادني، وحين استطعت الكلام شكرت له صنيعه، وسألته إن كان له معرفة بعلل الدواب الحديدية، فقال: لسيدي ابن يدرس في المدينة فهو يخرج والشمس في خدر أمها على دابة كدابتك هذهº فلنذهب إليه لعلك أن تجد ما يشفي غليلك! فقلت على بركة الله، فسرت معه وكان راعياً قد لحقت غنمه بنا، فكنت لا أعرف أين أنا في بلاد الله، فكل شيء متشابه الحجر والنبات والحيوان، وكلها قد اعتادت هذا الجمر المتوقد، وكلها تحمل صفات هذه المهمة المهلكة من الجفاف والخشونة.

سرنا وبساط الحر قد فرش، ولا ظل إلا تحت النعل، والشمس قد قامت على هاماتنا فغلت رؤوسنا، وألجمنا العرق إلجاماً! وخفف وجدي أني لحظت على هذا الراعي تغنيه بشعر الصحابة الجزل كحسان شاعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وابن رواحة وكعب - رضي الله عنهما - وشيء غير قليل من شعر أهل المعلقات والأمويين والمحدثين، فاستنامت نفسي إليه لفصاحة لسانه، وحسن ترنيمه وإنشاده، فأحسست وكأني على زرابي وثيرة تحت شجرة أتفيء ظلالها، فلم أصبر فسألته: أتحفظ الشعر وتقرضه!!

فقال: نعم

فاستنشدته فأنشدني حتى طربت، فاستأذنته فقلت: معي بضاعة من القريض أستشرف منك أن تعجمها وتقومها، فغضب واحمرت أوداجه، وتمعر وجهه، وكاد يبطش بي، فحصر من الغضب والحرد، فقلت في عجبٍ,: ما أغضبك - رحمك الله -؟!

قال: أتظنني جاهلاً بقريضكم - واستغفر الله من تسميته قريضاً -، أتسمي هذيانكم شعراً، أو ما تعلم أنني سمعت منه ما أصم أذني، وأدمى قلبي، وآذاني وآلمني!! وصدق العلامة الطنطاوي - رحمه الله تعالى - حين قال: أن شعر الحداثة يشبه الحدث الأكبر، ولكن لا يطهره شيء، ولا الغسل سبعاً إحداهن بتراب المقبرة الذي تتمنون أن تدفنوا فيها (الشعر)! فقلت: لا يذهبن بك الغضب إلى ظلمي، فأنا لن أروي لك من فاحش الحداثة: أي شيء!! فاستشاط وقال: ستروي لي من شعر التفعيلة، ذلك الشعر فعل الله به وفعل!!، ذلك الشعر (كالسكر الذي لا حلاوة فيه)!! بل كل المر فيه! واأسفاه! (الشعر اليوم لبس البلى، وتعطل من الحلى)!! قلت: بل هو شعر بني على نهج أسلافنا، وهو مما يرضاه الخليل وسيبويه، سأروي لك شعراً خليليلاً موزونا مقفى، ما زالت - هديت - الحلي عليه، والحلاوة فيه!

وبعد لأي وجهد، ورفع وخفض، قال: هات!!، فتنفست الصعداء: فأنشدته لأبي أسامة حسان الصحوة، وأمير شعراء الإسلام: عبد الرحمن العشماوي من قصيدة التي يقول فيها على لسان أم مسيكنة شردتها الحرب:

مَن لي، ومَن لصغيـــرتي وصغيري    في زحمةِ الغاراتِ والتفجيرِ؟

مَن لي إذا هَجَم الظلامُ وليس لي    إلاَّ رُكـــــام المنزلِ المطمور

مَن لي إذا جُـــــنَّ الرَّصاص وأتقنت    لغةُ المَدافعِ لهجةَ التدميــر؟

فأطرق وبدأ وجهه يصفر، فسكتُº فأومأ لي أن أكمل، فأنشدته حتى وصلت لقوله:

لكن هَبُــــوني كسرةً من خبزةٍ,        نَسيت متى خرجت من التنٌّور

فأنا أَنــــام على الجنادلِ والثَّرى        وعلى رَصاص الغــــارةِ المنثور

هلاَّ استمعتَ إلى بكاءِ صغيرها        وإلى أَنينِ فؤادها المفطـــــورِ

هلاَّ نظرتَ إلى دمـــــوع عَفافها        وإلى جنـــــاحِ إبائها المكسور

فلم يتمالك نفسه فبكى، وكدت أبكي معه لكن حملتها على المكروه، وأنشدته حتى وصلت خاتمتها:

أختاه يا أُمَّ الصِّغار تعلَّقي    باللهِ إنَّ اللهَ خَيرُ نَصير

في لحظةِ اليأس العميقةِ حينما       نهفو إليه يجود بالتيسيــــــــــر

قولي معي أُختـــــاه قَولَة مؤمنٍ,       لا ينثني لوســـــــــائل التخدير

كم أُمةٍ, سكرت بكأسِ غرورهــــا       ذَهَبَ الإله بجيشها الأُسطوري

فقال وهو يكفكف دمعه: لقد أحسن الوصف، وأتم النعت، وبرع في الاستهلال، وتفوق في الختام، ولله هو! لو بثت هذه المسكينة شعراً لما كان إلا كما قال!، إلا إن قرضه للشعر ليس قرض عابث، أو لا عب أو طالب منصب، أو مريد شهرة بل هو قرض رجل غضبان، أسف متحرق على واقعنا، متألم لحالنا، ولقد غبّر قافيته والله في سبيل الله! ثم أنشدت على سمعه قصيدته التي خاطب فيها العالم المتعامي وفيها:

أيٌّهــــــا العالمُ ما هذا السكوتُ         أو ما يؤذيك هذا الجبروتُ؟

أو ما تُبصر في الشيشان ظلماً        أو ما تُبصر أطفـــالاً تموتُ؟

فقال: لقد أحسن كذا يخاطب كل من يصعر خده، ويدعي العمى وما هو بأعمى! ومنها:

إن يكن للروس آلات قتـــــالٍ,            فلنا في هجعة الليل القنوتُ

عجبا لأمرنا بأيدينا النجاة ونهلك، قال أحد الأدباء النجباء: \"لا يقرع باب السماء بمثل الدعاء خصوصاً إذا كان مُطرز الحاشية بالصلاح، ومُبرزاً عن ناحية الفلاح )، وقال: \"الدعاء من مقاليد النجاة، ومفاتيح النجاح\".

ثم ثنيت بأبي عبد الله ابن جوزي عصرنا عائض القرني، وتلوت عليه قصيدته التي حشيت حكمة وعظة:

سلا القلب عن غيـــد صفت وحسان وأهمل الذكر المنحنى وعمان

وما عاد يلهيـــــــــــــني الصبا بأريجه ولو فـــــــاح بالريحان والنفلان

وخط برأسي الشيب لوحة عاشق    يقول: احذروني أيها الثقلان

وفيها:

شربنا ليالي الصفو في كأس غفلة               ثلاثون عاماً توجت بثمان

فمرت كأحلام الربيــــــــــــع سريعة                فأيامها في ناظري ثــوان

فقال: صدق هذه الدنيا كشمس العصر على القصر، يتطاولها الإنسان إذا عدها، وما أعجلها إذا تتابعت! إلى أن قال:

وفي أربعيــــــن العمر وعظ وعبرة      ويكفيك علماً شاهد الرجفان

فلا تسمعني وعظ قس ولا تسق     علي مقامات من الهمــداني

فعندي من الأيــــــــام ابلغ عبــرة      على منبر تلقى بكل لســان

فقال الراعي: لا إله إلا الله خرجت هذه الحروف من قلب صادق، قد تقلب في هذه الدنيا، وأخذ منها العظة والعبرة، الله أكبر لقد أثارت في هذه الأبيات شجوناً أعجز عن وصفها! فقلت: وإليك فخره:

وما كنت مما يسلب اللهو قلبه        وكيف وفي الأعماق سبع مثان

وفي خلدي ذكر مــــــــــــــرتل          معــــــــــــاذ الله ليس فيه أغان

إلى أن قال:

لداتي لهم لهو ولغو وسهرة ولكن ديني عن هواي نهاني

فقال الراعي: كذا من أراد أن يفخر لا كمن يفخر بجهله وفسقه وفجوره، وما أجمل عزة المؤمن حين يتباهى أمام الناس بدينه وصلاحه، والحظيظ من قضى شبابه في طاعة الله ورسوله، والله وإن لذتها لا عدل لها، وذكرت له قصيدة محمد المقرن - وهذا الشاعر يحق للأواخر أن يباهوا به الأوائل فقد جاء بما لم يأتوا به، واقرأ إن شئت قصائده - ذكرت له أبياته التي تبكي كل غريب، وبها حن إلى موطنه \"قفي لأجمع في عينيك أشتاتي\"، ومنها:

شربت فيها زلال الماء في شرق      من الحنين إلى شوب بمسقاة

حتى قال:

كل بموطنه يزهــــــــــــو وما استويا               مصباح بهو ومصباح بمشكـــــــاة

والإبل تألف في الصحــــــراء غبرتهـا               وتأنف العيش في صفو الحضارات

ولفحة النار في أرض نشأت بهـــــــا              أحب للنفس من بعد بجنــــــــات

يموت أهل الهوى بالشوق إن ظعنوا              وإن أبيت فهم أنصــــــــاف أموات

فقال: في الغربة كربة، وقال العارفون: \"من كان غريباً فلا ينس نصيبه من الذل، والغربة قلة ونقص، وأهون بغربة الأوطان إن قيست بغربة الأديان، ما أعظم غربة الدين فهي التي تفري القلب، وتذيب المهج، رد الله غربتنا!\" فقطع مجلسنا وصولنا إلى سيده الذي أكرم مثواي، وقدم ما يقدمه الكريم لضيفه، فأزال ما أبقته الصحراء في جسمي من تعب ونصب، وأرسل بمن يصلح دابتي، ويأتي بها، وأمروني أن أتبعهم لئلا أضل أو أحيد عن الطريق، فودعتهم وكلي لسان شاكر.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply