من الجنوب إلى الشمال


 

بسم الله الرحمن الرحيم

*هناك...!!

هناك.. في حومة القهر، طفل ينام على جرح وثير، ويحلم بالسيف، والرمح، والميتة الباهرة.

 

هذا الفتى يرفل بالأمنيات، وعيناه مثقلتان بالحزن، والانتظار، ذات ذلّ، (فار دَمَهُ)، حين شعر بحمّى المهانة تسري بأوصاله، تأبط موتاً، وحلماً جميلاً، وسار إلى حتفه فرحاً، يقفز كالفراشة، وعيناه ترنو إلى عبق الزيزفون.

 

*صوت وصورة

يختلط صوت الآذان بأنين الجرحى، وأزيز الرصاص بعويل النسوة، ونحيب الأطفال بصفارات الإنذار، وسيارات الإسعاف.

 

تختلط الأشلاء بحطام الأبنية المنهارة، ودماء الجرحى بمياه الصرف الصحي.

 

يختلط الفارس، والخائن، والمسكين.

 

يختلط الباطل بالحق، والأمل بأحلام اليقظة.

 

يختلط الحابل بالنابل...

 

ويبقى الموت نقياً كالنبع حتى آخر قطرة.

 

*رحيل

لو كان يدري أن طفلته الصغيرة التي لم تكمل عامها الأول، ستبكي عليه بهذه الحرقة البريئة، لأنه تأخر عليها بقطعة الحلوى! أو كان يدري بأنه لن يرى وجه أمه بعد اليوم، لقبلّ كل مساماتها حين ودّعها عصر البارحة!

 

ولو كان يدري بأن زوجه تشتهي الموت بهذا الجنون بعد فراقه، لأهداها قصيدة حب من أشعار نزار:

 

لو كان يدري بأن للموت طعم الحياة، وطعم الحياة كالدفلى.. لماذا فكّر كثيراً لو كان يعرف كل هذه التفاصيل... لرحل منذ زمن طويل.

 

*صفقة

لأن صمتك يحمل ألف سؤال، وحديثي لا يحمل أي جواب!

 

ولأنك مثل النبع، وأنا مثل الشلال!

 

وأنك مشدودة إلى الأرض، وأنا معلّق في السماء!

 

ولأنك تبكين أمام التلفاز، إذا ما سقط الأطفال بنيران الجلادين

 

وأنا ألتهم طبقي بشراهة، غير مبالٍ, بالأمر!

 

*حكمة

قال الذي أحببته من كل قلبي قف يا صديقي لحظة واحدة، لأهديك تذكاراً قبل أن نفترق.

 

بسطت يديّ لآخذ ما عنده، فاقترب مني كثيراً، وهمس في أذني:

 

(باطن الأرض خير من ظاهرها)، وتلاشى من أمامي مثل سحابة غبار، وبعد سنين.. كادت الحكمة تفرّ من ذاكرتي كدمعة طفل، حتى راودتني فكرة طارئة كرصاصة الرحمة، قلت: أنبش الأرض لأرى ما فيها!.. نبشتها.. وجعلت (عاليها سافلها)، فلم أجد سوى الحجارة، وحصى صغيرة، نبشت أكثر فأكثر، فوجدت ماءً عذباً فراتاً، ولكنني لم أفهم ماذا أراد صاحبي أن يقول لي في هديته!..

 

*بين الأمس.. واليوم..

حين ضغط جارنا الشاب على كفي بقوة، وهو يصافحني بعد طول غياب، خلتُ أنه يتحداني بحيويته، فقبلت التحدّي، أزّ في رأسي هدير نفاث أقلع بي إلى زمن بعيد، وحطّ بي في مدرستي الثانوية.

 

وجدت ساحتها كما تركتها، وأنا في وسط الساحة مزروعاً كالنخلة.

 

جسدي مشدود لا يثنيه التعب، ولا تحرّكه الريح.

 

لم أكن وحدي كذلك، كان أقراني مثلي أو أشدّ ثباتاً في حضرة العلم، وكان النشيد يخرج من حناجرنا هادراً... مجلجلاً، كأن مصر وتطوان على الجانب الآخر من قاسيون.. ـ لماذا لم يعد لدينا اليوم ما نحتفي به، ونشدّ قاماتنا فخراً لأجله؟..

 

تساقط على وجهي ضوء ناصع كالثلج، أيقظني من شرودي، فتطلعّت حولي أبحث عن جارنا الشاب، فلم أجده، فقررّت أن أقتفي أثر البارحة بخطى واثقة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply