المقامة الأدبية العثيمية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

حكى أبو الشبل بن الهمام قال: \"مذ بلغ شعبان الفطام، وأهل شهر الصيام أثير في قلبي الغرام، وهام بي شوق إلى البلد الحرام، فذهبت أطوي الصحارى والقفار، يؤخرني جار ويسبقني جار، حتى انتظمت مع الطائفين واصطففت مع القائمين، في موضع يصقل فيه الخاطر، وينشط فيه الفاتر، ويربح فيه الخاسر، بفضل الأول والآخر.

قد يهون العمر إلا ساعةً ***وتهون الأرض إلا موضعا

 

وبعد أن تمت الصلاة، ورجونا من الله عظيم الصلات، سمعنا ألفاظاً كالتباشير مسموعة، وأزاهير الرياض مجموعة، في قوالب حسان، وأنفاس تعبق بالراح والريحان، كلام كما تنفس السحر عن نسيمه، وتبسم الدر عن نظيمه، ألفاظ تأنق الخاطر في تذهيبها، ومعان عني الطبع بتهذيبها، الصوت يوحي بتأثير السنين، وعلم مكين ودر ثمين، فعلمت أنه شيخنا ابن عثيمين، فرجوت له الحطه وازددت به غبطة. فكل من سمع قام يحفظ عنه ولا يتحفظ منه ويميل إليه ولا يميل عنه، فسمعنا فوائد علمنا منها عجائب الاتفاق، فأخلدناها بطون الأوراق حتى تبلغ بإذن الله الآفاق.

 

حتى إذا كان آخر أيام الوئام بسماعه في آخر أيام الصيام قال: أيها الناس، ومَن خلال الديار جاس، عل اللقاء ألاّ يتجدد أو هذا الوعظ ألاّ يتردد وختم اللقاء بعد أن سدد.

فقام من قرأ سورة النصر وعلم الهلال والبدر في خده دمع يُجيب، وفي قلبه وله يُذيب، في شفقة المحب على الحبيب قد انفصل بكبد مرضوضة ودموع مفضوضة.

وما إن برز الناس للتعييد، بعد لبس الجديد، حتى توالت الأخبار بما يعز على الآثار مسمعه، ويؤثّر في القلب موقعه، بنبأ اشتداد قبضة مرَضَه، وعَركة، وعكه فكنا ندعو الله بأن يفك من المرض أسره، وأن يجعل له بعد عسره يسره وأن يطلقه من عقاله، ويخرجه خروج السيف من صقاله، عله أن يرجع فيذكر اللاهي، ويرشد الساهي، ويدعو الغافل، إلى ترك المغافل، ويدل من يجهل أوصاف الإنصاف ويرضع أخلاف الخلاف فيعجل معالجة دائه وينتصر على نفسه التي هي ألد أعدائه.

ولعله بصدع وعظه الذي يشفي الصدور، ويلين الصخور، يحرك قلوب الغافلين، ويلقح أفهام الجاهلين، ولكن الحكمة والأسرار، وما شاء الله لا ما شاءت الأقدار، قضى بأن ينهد الطور المنيع، ويزول الجبل الراسي الرفيع، فترامت به علته إلى انقضاء نَحبه، ولقاء ربه، فتحرقت حينئذ وحوقلت، وتخلقت بخلق من ابتلي فصبر وتجلت له العبر فاعتبر.

وما الحيلة وقد حل القضاء وفُرض العزاء، ونزل البلاء الجسيم وكُتب الرضاء والتسليم، فلا نسخط لقدر الله وهو عدل، ولا نكره قضائه وهو فصل، فإنا لله وإنا إليه راجعون تسليماً لما أمضاه، ورضيً بما قضاه، فالموت كل شارب بكاسه، ومكتس من لباسه، وإنما تَقَدَّمُ أيام وتَأَخَّرُ اعوام.

ثم ذهبت لتوي أحكم تدبيري، لأعرف قبيلي من دبيري، فأجمعت الذهاب وشد الرحال إلى البلد الحرام، لقول النبي - عليه الصلاة والسلام -: \"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام...\" فترافقنا صحباً قد شقوا عصا الشقاق، وارتضعوا أفاويق الوفاق، كأسنان المشط في الاستواء، وكالنفس الواحدة في التئام الأهواء، وأثرنا الذهاب إلى الحطيم وترك الحطام، وترك المقام والصلاة وراء المقام، حتى أدتنا خاتمة المطاف بعد تيسير الله لنا والإلطاف، إلى المسجد الحرام، فرأينا الجموع يعلوها الوجوم، ومن لا يعرف لا يدري ما تروم، ثم أقيمت صلاة العصر، وصلى الناس بعد أن عزموا عزائم الصبر، فقام مناديهم، وداعي ناديهم، فقال: إن الصلاة، واجبة الآن على الأموات، فقاموا في المكان الرحيب ولهم زحام ونحيب، ما بين عين تدمع، وقلب يخشع، وهم وارد، وانس شارد، في مأتم واحد، ثم دعاني الفضول، إلى محبة الدخول، فولجت حتى شهدت الحطمة، والنظَّارة المزدحمة، ثم توغلت حتى وجدت حلقة ملتحمة، في قلبها نعش رفت فوقه العظمة، يَضِن من حمله به وانما يُضن بالضنين، وينافس في الثمين، فغفر الله لك يا ابن عثيمين.

ومن سمع الوجيب، والمتنفس تنفس الحريب، والمنتحب يخشى أن يفضحه النحيب، والداعي له والمجيب، قال هذا شي عجيب.

ومن زاد قلبه في الصفاء، وعلم الجلحاء من القرناء، قال هذا يوم فصل وإمضاء، وحكم وقضاء، بأن الغلبة لأهل هذا الدين، ولأصحاب الفقه المكين، والحق المبين، والسبيل المستبين.

وأما المبتدع الجائر، ذو الفكر الثائر، فحين رأى المآثر، واجتماع الأوائل والأواخر، تمادى في غيه وأصر، وعبس واكفهرّ، وطلسم وطرسم، وهَمهم وغَمّغم والتفت يمنة وشامه، وتململ كآبة وندامة وقال هذا يوم عصيب، هذا يوم نصاب فيه ولا نصيب، لأن قطع المفاوز لأجل الاجتماع الفائز، يذكره القديم الجائز بيننا وبين أهل البدع يوم الجنائز، حتى إذا وقفنا على أهل القبور، وليس منا من يدعو بالثبور، ولا في قوله يجور، انتهى الشيخ إلى رمسه قبل أفول شمسه.

تباركت، إن الموت فرض على الفتى *** ولو أنه بعض النجوم التي تسري

ورب امرئ كالنسر في العز والعلا *** هوى بسنان مثل قادمة النسر

وهون ما نلقى من البؤس أننا *** بنو سفر أو عابرون على جسر

وما تمنع الآداب والملك سيداً *** كقابوس في أيامه وفنا خسر

فلله دره ما أعظمه مفقودا، وما أكرمه ملحوداً، واسأل الله أن يربط على القلوب بالتماسك، ويؤمنها من التهالك، ولا مصيبة مع الإيمان، ولا معزي كالقرآن، وكفى بكتاب الله معزيا، وبعموم الموت مسلياً.

إن الذي يخفف ثقل النوائب، ويحدث السلو عند المصائب، تذكر حكم الله في سيد المرسلين، وخاتم النبيين، محمد صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، وكل مصيبة وإن عظمت فصغيرة في جنب ثواب الله عليها، ونعم الله قبلها وبعدها.

فنسأل الله أن يرفع درجته في المهديين، وأن يخلفه في عقبه في الغابرين، ونقول ما قاله النبي والعباد الصالحون، إنا لله وإنا إليه راجعون وإن القلب ليحزن والعين لتدمع وإنا على فراقك يا شيخنا لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وهو مولانا وحسبنا.

كم من كاتب وناظر، وساطر، إذا أنشا وشّى، وإذا عبّر حبّر، وإذا أسهب أذهب، وإذا أوجز أعجز، وإن بَدَه شَدَه، ولكن كلامه المحبوك، ودره المسبوك، لم يكتب له القبول، فيلج للعقول ليفهم المقول.

وأما أنت يا ابن صالح ففائز وفالح، قد أخضعت قلبك لخالقه وبارئه، فملا فمك بلآلئه، فكانت لك العبارات المهذبة، والاستعارات المستعذبة، والرسائل الموشحة، والأساجيع المستملحة، من سمعك قال الحسن في وعظه ولفظه، والشعبي في علمه وحفظه، والخليل في عروضه ونحوه، وقساً في فصاحته وخطابته، وأبا عمرو في قراءته وإعرابه.

كم غبي خازر بطرفه، وشامخ بأنفه، استطال واستنال حتى سمع فن مقالك، وصفو آرائك، فدان بالصمت ومشى بالسمت.

ولا عجب في ذلك فمن الحرمين نجارك، وفي المسجدين وجارك، وما بلغت ما بلغت، إلا ورأيك يشفى، وهلالك يضي، وآلاؤك تغنى، وأعداؤك تثني وحسامك يفني، وسؤددك يقني، ودُرٌّك يفيض، وردك يغيض، واطرؤك يُجتذب، وملامك يُجتنب، فكيف لا نَضِنٌّ بحياتك، ولا نخاف من مصيبة مماتك.

لقد زدت على العلماء زيادة الشمس على البدر، والبحر على القطر، فأنت صدرهم وبدرهم، ومن عليه بعد الله يدور أمرهم، هم فلك أنت قطبه، وجسد أنت قلبه، وأنت درة التاج ونقش الفص.

وبعد:

فهذه رسالة أنشأتها بعد الارتحال، أودعتها شرحاً للحال كتبتها والأحشاء محترقة، والأجفان بمائها غرقة.

وفي الختام، أجتزء الكلام، وأكثر الملام، فاسمع منى أخي ما غداً يسّرك، ودع عنك ما يغّرك، وأعلم بأن الحياة إلى الله مراحل، فأوقر لها الزوامل، واتخذ لها المحامل، واعَن بما يَعنيك، ودع عنك ما يُعنّيك، ولا تَضرى بما يضّرك، ولا تلهج بما يُطغيك، ويبُهجك من يُطريك.

إلى متى وأنت لا تقتنع، ومن الحرام لا تمتنع، ولا للعظات تستمع، ولا بالوعيد ترتدع، تتقلب مع الأهواء، وتخبط خبط العشواء، تركن من الدنيا إلى غير ركين، وتستعصم منها بغير مكين، وتُذبح من حبها بغير سكين، أتظن أن ستنفعك حالك، إذا آن ارتحالك؟ أو ينقذك مالك، حين توبقك أعمالك؟ أو يغنى عنك ندمك، إذا زلت قدمك؟ أو يعطف عليك معشرك، إذا ضمك محشرك؟ أم تحسب أن الموت يقبل الرُشى، أو يميز بين الأسد والَرشا؟ إذا كان الحِمام ميعادك، فما إعدادك؟ وفي اللحد مقيلك، فما قِيلكُ؟ وإلى الله مصيرك، فمن نصيرك؟

طالما أيقظك الدهر فتناعست، وجذبك الوعظ فتقاعست، وتجلت لك العبر فتعاميت، وحصحص لك الحق فتماريت، لماذا تداعب الأقران، ولا تأنس بتلاوة القرآن، وتأمر بالعُرف وتنتهك حماه، وتحمى عن النكر ولا تتحاماه، وتزحزح عن الظلم ثم تغشاه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه.

والله لن يدفع المنون، مالٌ ولا بنون، ولا ينفع أهل القبور، سوى العمل المبرور. فطوبى لك أن كنت ممن سمع ووعى، ونهى النفس عن الهوى.

وإنّ قُصارى منزل الحي حفرة *** سينزلها مستنزَلاً عن قبابه

فواها لعبد ساءه سوء فعله *** وأبدى التلافي قبل إغلاق بابه

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply