حكم استنساخ النبات والغرس في الشريعة الإسلامية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أحدث التقدم التقني في مجال البيولوجيا ثورة هائلة، وخاصة بعد التعرف على المحتوى الجيني للكائنات، والدخول إلى مكونات الخلايا، وما يشفر له الجين داخلها، وقد كان لهذا التقدم أثره في نشوء عدة قضايا ثار الجدل وما زال يثور بشأنها حتى الآن، ولعل من أهمها قضية الاستنساخ التي شغلت بال كثير من الناس، وعقدت المؤتمرات والندوات منذ الربع الأخير من القرن الماضي وحتى الآن، لمناقشتها وبيان الوجه الأخلاقي والديني الذي تسفر عنه البحوث في هذا المجال، وأجتزئ من بين قضايا الاستنساخ قضية استنساخ الحيوان والنبات والغراس، لبيان موقف الشريعة الإسلامية منها.

والمصطلح البيولوجي للاستنساخ: هو التنسيل، الذي يعني باللغة الإنجليزية (cloning)، وباللغة الفرنسية (clonage).

 

أولاً: معنى الاستنساخ في اللغة:

الاستنساخ من النسخ، والألف والسين والتاء للطلب، ويطلق النسخ على معنيين، أحدهما: النقل: ومنه نسخ الكتاب: أي نقل صورته إلى كتاب آخر، قال - تعالى -: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} الجاثية: 29}، أي ننسخ ما تكتبه الحفظة، فيثبت عند الله - سبحانه -، والآخر: الإزالة، ومنه قول الله - تعالى -: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } البقرة: 106}، والمعنى الأول هو المراد من الاستنساخ في هذا البحث، وهو طلب الحصول على نسخة أخرى غير المنقول عنها (1)، وقد يطلق على هذه التقنية: النسخ، أو الاستنساخ الحيوي، أو العذري، أو اللاجنسي، أو البشري، أو نحو ذلك من إطلاقات تبعاً لنوع الاستنساخ.

 

ثانياً: معنى الاستنساخ في عرف العلماء:

اختلفت عبارات العلماء في بيان معنى الاستنساخ، وأكتفي منها بما عرفه به د. هاني رزق بأنه: \"تكون كائن حي كنسخة مطابقة تماماً، من حيث الخصائص الوراثية، والفيزيولوجية، والشكلية، لكائن حي آخر\"(2).

 

ثالثاً: حكم استنساخ النبات والغراس والحيوان:

تمكن الإنسان منذ آلاف السنين من استنساخ النبات والغراس بغية إكثاره، بالوسائل التي استطاع التوصل إليها والتي تمكنه من ذلك، والتي منها أخذ جزء من ساق النبات أو الغراس، وزراعته وتهيئة البيئة الصالحة لنموهº حتى يكون نسخة متطابقة مع الأصل الذي أخذ منه، وهذه الطريقة التي اتبعت قديماً، ما زالت تتبع حتى يومنا هذا، إلا أنه طرأ تقدم في تقنية استنساخ النبات والغراس، بحيث أمكن استنساخه بالخلايا أو الأنسجة، كما أمكن إنتاج نسخ من ذلك، عبارة عن سلالات متميزة، كثيرة الإنتاج، مقاومة للأمراض، تتحمل ظروف البيئة والطقس وندرة المياه، وغير ذلك.

كما تمكنت مراكز البحوث الحيوانية، من تطوير تقنية استنساخ الحيوانات، بحيث تعطي إنتاجاً وافراً من اللحم، واللبن، والصوف، أو الوبر، وتقاوم الأمراض، أو تنتج بروتينات علاجية تفرزها في لبنها، تعالج مرض السكر، وضعف النمو، وتعمل عمل المضاد لتخثر الدم، ومضاد التربسين، والترومبين، وغير ذلك، وإنتاج أضداد تعالج أنواعاً من السرطان، وقد تمكن العلماء من استنساخ النبات والغراس والحيوان بالفعل.

وإذا كانت الغاية من استنساخ ذلك نفع الإنسان، على نحو ما سبق، فليس هناك ما يمنع شرعاً من هذا الاستنساخ، وذلك لأن الله - سبحانه - خلق ما في السموات وما في الأرض من جماد وحيوان لنفع الإنسان، ليتمكن من إعمار الأرض التي استخلفه الله فيها، فقال - تعالى -: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا}البقرة: 29}، وقال - سبحانه -: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه} الجاثية: 13}، وقال - تبارك وتعالى -: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} لقمان: 20}، وقال - جل شأنه -: {الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم} إبراهيم: 32}، وقال - عز من قائل -: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون 5 ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون 6 وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم 7 والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون 8}: 5 - 8}، وقوله - تعالى -: {هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون 10 ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} النحل: 10، 11}، وقوله - سبحانه -: {وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون} النحل: 13}.

وهذه الآيات وكثير غيرها تدل على أن الله - سبحانه - خلق الحيوان والنبات والغراس لنفع الإنسان، فإذا تمكن الإنسان من استحداث تقنية لاستنساخ حيوانات تحقق له فائدة علاجية، أو غذائية، أو صناعية، أو اقتصادية، أو غيرها، فلا حرج عليه في أن يستخدمها، إذا لم يترتب عليها الإضرار بالحيوان المستنسخ، أو إتلافه، وخلت عملية الاستنساخ من العبث به، لنهي الشارع عن إيذاء الحيوان، فقد روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \"عذبت امرأة في هرة أوثقتها، فلم تطعمها ولم تسقها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض\"(3)، وروي عن أنس - رضي الله عنه -: \"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على قوم - وهم وقوف على دواب لهم ورواحل - فقال: اركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب ركوبة خير من راكبها، وأكثر ذكراً لله - تعالى - منه\"(4)، ونهيه كذلك عن إتلاف الحيوان لغير حاجة أكله: فقد روي عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"ما من إنسان يقتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها، إلا سأله الله - عز وجل - عنها، قيل: وما حقها؟، قال: يذبحها ويأكلها، ولا يقطع رأسها فيطرحها\"(5)، ولأن في إتلاف الحيوان لغير حاجة أكله إتلاف للمال، وإتلافه محرم، فقد روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: \"نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال\"(6).

وقد ذهب إلى جواز استنساخ النبات والغراس والحيوان بضوابطه كثير من العلماء، منهم: الشيخ محمد بن عثيمين، والدكاترة: محمود السرطاوي، وعجيل النشمي، وعبدالستار أبو غدة، ووهبه الزحيلي، وغيرهم، وهو ما انتهى إليه المجتمعون في الندوة الفقهية الطبية التاسعة المنعقدة بالدار البيضاء في الفترة من 14-17 - 1997/6م تحت عنوان \"رؤية إسلامية لبعض المشكلات الطبية\"، حيث ورد ضمن توصياتها\" لم تر الندوة حرجاً في الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجال النبات والحيوان، في حدود الضوابط المعتبرة\"، وهو ما انتهى إليه المؤتمرون في مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بجدة في الفترة من 6/28-1997/7/3م، حيث ورد في قرارات هذا المؤتمر ما نصه: \"يجوز شرعاً الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم، وسائر الأحياء الدقيقة، والنبات والحيوان، في حدود الضوابط الشرعية، بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد\"(7).

وممن أباح ذلك أيضاً أ. د. نصر فريد واصل، مفتي الديار المصرية سابقاً، ودلل على الإباحة بقوله: \"لقد أحلت كل النصوص الشرعية الاستنساخ في الحيوان والنبات، على اعتبار أن في ذلك تسخيراً لهذه الكائنات لمصلحة الإنسان، فنحن نربي الحيوانات لنذبحها ونضحي بها، ولكن ذلك لا يمكن أن يحدث في الإنسان،..فإكثار الكائنات الأخرى مثل الحيوان والنبات، ثم إتلافها من أجل صالح الإنسان مقبول لإعمار الكون\"(8).

ولي تعقيب على ما ذكره فضيلته: وهو أنه ليس في منطوق نصوص الشرع أو مفهومها ما يدل على إباحة الاستنساخ في الحيوان والنبات، وتسخير هذه الكائنات لمصلحة الإنسان ليس حكماً شرعياً، حتى تكون نصوص التسخير نصوصاً لإباحة الاستنساخ، وليست الفائدة التي يجنيها الإنسان من الحيوانات هي ذبحها والتضحية بها، وإن كانت التضحية ذبحاً أيضاً، فإن في صدر سورة النحل آيات عددت هذه الفوائد، كما أن العلة في إباحة الاستنساخ في الحيوان ليست مجرد ذبحه، حتى يقال بمنع الاستنساخ في الإنسان لعدم إمكان ذبحه.

وإذا كان هؤلاء العلماء قد أباحوا جميع أنواع الاستنساخ في الحيوان، فإن د. عمر الأشقر نازعهم في استنساخ الحيوان جينياً - أي بالطريقة التي تم بها استنساخ النعجة دوللي -، إذ قال بمنعه.

وقال في تعليل رأيه:

إن في الاستنساخ الجيني مخالفة للنمط الذي خلق الله عليه الحيوانات، وهو تغيير لسنة الله في خلقه، وعندما خالف البشر سنة الله في طعام البقر ظهر جنون البقر، لأنه ليس من سنة الله أن نطعم البقر آكل النبات لحماً ودماً، وقد يطال هذا المثال الميكروبات التي تسببت في مرض الإيدز وغيره، ومن ميزات الإسلام أن يعطينا رؤية سليمة للأشياء نحن لا نعرفها، وقد تتكشف لنا في مراحل أخرى بعد الدراسة والنظر، ونحن لا نستطيع أن نتبين الآن أنه لا توجد أضرار لهذا الإجراء، إلى أن يتكاثر هذا النوع من الخلق، وتظهر أضراره المحتملة، وأنا أخشى أن تظهر مفاسد وأضرار من هذا النوع من التنسيل، فالإنسان يستطيع أن يخالف سنن الله في خلقه ولكنه قد يدمر نفسه، ولأنا لو فتحنا هذا الباب في مجال الحيوان، فقد يفتح في مجال الإنسان، وإذا لم نمنعه في الحيوان فسيأتي من يقول باستعماله في الإنسان(9).

وقد اعترض على هذا التعليل بما يلي:

أ- إن الله - تعالى - سخر لنا هذه الحيوانات، لتكون لنا طعاماً نستسيغه، فإذا هدانا الله إلى سنة من سننه في الخلق، فإنه هو الخالق، ونحن إذا نظرنا إلى مقاصد الشريعة في التسخير، وإلى الاهتداء بخلق الله - سبحانه -، فيما وصل إليه علماء العلوم الحياتية، فلا نرى مانعاً شرعياً من أن نستفيد من استنساخ الحيوان بالطريقة الجينية.

ب - إن التكاثر عن طريق الإخصاب الطبيعي، سنة من سنن الله - تعالى - في الخلق، ولكنها ليست السنة الوحيدة، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ما يدل على أنه لا يصلح غيرها، وقد تكون هناك سنن أخرى غيرها لا نعلمها، وطريقة التكاثر الجيني هي طريقة ثانية، وهي لا تضاد سنن الله في الخلق.

ج - لو كان ما يقوم به العلماء من أبحاث على الحيوان في هذا المجال، مغايراً للسنن الطبيعية التي خلقها الله - تعالى - لما نجحت، إذ العلماء إنما يقلدون ما يحدث في الطبيعة، إذ يستفيدون من الظواهر الطبيعية الموجودة في الحياة، ويبتكورن الوسائل العلمية والتقنية لتقليدها، والعمل على غرارها.

د - إن قياس الإنسان على الحيوان قياس بعيد، وهو قياس مع الفارق، إذ الحيوان خلقه الله للإنسان للاستفادة منه في حياته، فكيف يقاس على الإنسان الذي حرمه الله - تعالى -، وأمر بالمحافظة على دمه وعرضه وحياته، وأيضاً فإن لهذا الاستنساخ تأثيراً على الإنسان في حياته من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، وليس ذلك في الحيوان، فكيف يقاس عليه(10).

ه - ولي على ما ذهب إليه د. عمر الأشقر اعتراض آخر، وهو أن الضرر متصور في غير هذا النوع من الاستنساخ تصوره فيه، فلم أبيح استنساخ الحيوان بغير هذه الطريقة ومنع بها؟!، ومع تصور الضرر في كل، فإنه ضرر لا يمكن مقارنته بوجوه النفع التي يجنيها الإنسان من هذا الاستنساخ، فهي كثيرة، وثمة قاعدة فقهية في هذا السبيل تبين أنه: \"إذا اجتمعت المصالح والمفاسد في عمل معين، ولم يمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد جميعاً، وكانت المصلحة أعظم من المفسدة التي تقابلها قدمت المصلحة\"(11)، ومقتضى العمل بهذه القاعدة أن لا يغلق باب الاستنساخ في الحيوان، ولو كان استنساخاً جينياً، تحصيلاً للمصلحة الراجحة في ذلك، وإن كانت هناك مفسدة في هذا العمل.

ومن ثم فإن الذي يرجح في ذلك هو ما انتهى إليه مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي في دورته العاشرة بجدة، وندوة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية التاسعة المنعقدة بالدار البيضاء، وقال به جمهور العلماء من حل الاستنساخ في النبات والغراس، وإباحة جميع أنواع الاستنساخ في الحيوان.

------------------------------------------

الهوامش:

1- ابن منظور: لسان العرب (61/3).

2- الاستنساخ جدل العلم والدين والأخلاق (229).

3- أخرجه مسلم في صحيحه (61/2).

4- أخرجه الحاكم في المستدرك وصحح إسناده، وأخرجه أحمد وأبو يعلى في مسنديهما، والطبراني في معجمه الكبير، ورمز له السيوطي بالحسن (الجامع الصغير 39/1).

5- أخرجه الشافعي في مسنده والحاكم في المستدرك وصحح إسناده، وأبو داود في سننه (ابن حجر: تلخيص الحبير 154/4).

6- أخرجه البخاري في صحيحه (125/4).

7- قضايا طبية معاصرة في ضوء الشريعة الإسلامية (86/2)، (119)، مجلة هدي الإسلام عدد (10) المجلد (41)، الاستنساخ (89)، مجلة المجتمع عدد (27/1244)، الاستنساخ جدل العلم والدين (123-124).

8- عن ندوة تلفزيونية بالقناة السادسة، فرغ محتواها في كتاب الاستنساخ بين العلم والدين (56-58).

9- قضايا طبية معاصرة (107/2).

10- المصدر السابق (114-115).

11- ابن عبد السلام:قواعد الأحكام (88/1، 97).

 

*أستاذ العلوم الشرعية بجامعتي الأزهر والإمارات والجامعة الأمريكية المفتوحة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply