لينتهي زمن الطبيب العام


بسم الله الرحمن الرحيم

 

مما يشاهد في هذا العصر التنافس، والمسارعة، والتقدم في ميادين شتى، فكل واحد يريد أن يكون هو الأفضل والأحسنº إما على نطاق الأفراد، أو المجتمع، وبين الدول أجل وأظهر، فهذا يتقدم بعقله وتفكيره، وآخر بأخلاقه وسلوكه، ودول تتقدم عن طريق المجال العلمي والتقني، ودول أخر رأت أن أحسن ما تتقدم به الآخرين الانحطاط الأخلاقي والسلوكي، ودويلات استطاعت أن تدخل مضمار التنافس والتسابق، مع فقرها لعوامل وأسباب التنافس في هذا العصر لكنها غنية برأس المال الحقيقي.

ورأس المال الحقيقي الذي يُفتخر بهº عقل ناضج ووقاد يعرف الحكمة من إيجاده في هذا الكون، ويكره الضيم، وأن يكون عالة على الغير، وخلق وسلوك تجعل الغير يحترمه ويعزه، وعلم يرفعه مع انعدام الأعمدة، وتقدم تقني يستطيع من خلاله الاتصال بالغير، وأن يعرف حقيقة نفسه فلا يرفعها فيتعالى على الغير، ولا يَحط من قدرها فينحط ويبتذل.

وبما أن المرء ضعيف، والزمن قصير فيصعب عليه الإلمام بكل شيء، أو أن يسد الخلل الذي أتى من الغير فلا يستطيع أن يعرف ويلم بكل شيء عن كل شيء، ولكنه يستطيع أن يعرف أشياء عن شيء، وشيء عن أشياء، وهذا هو ما يسمى بالتخصص مع العلم بالمعارف الأخر، وهذا الذي أثبت نجاحه وجدارته في العصر الماضي والحاضر، وهو الأنفع والأنجع للأمة.

ولأهمية التخصص في فنون الحياة، والبعد عن الشتات حرصت عليه دول فقامت برعايته وتشجيعه، ومؤسسات قامت عليه فنجحت، وأفراد برزوا فيه فسدوا خلل وثغرات في الأمة، ومجتمع عانى من قلة المتخصصين في شؤون حياتهم فأصيب في حيرة من أمره وضياع مال، فلهذا لقي المتخصصين قبولاً وتشجيعاً ورواجاً.

 وأن الأحداث التي تمر بالأمة أثبت لنا أننا بحاجة إلى التخصص، فمن الخير لنا أن يكون هناك شخص يتقن فناً من الفنون ويلم به من كل جوانبه لاسيما ما تحتاجه الأمة فيبرز فيه ثم يقدمه للناسº فتأتي طروحاته وأفكاره في الوقت المناسب في المكان المناسب، وتجد صداً وقبولاً، وتجده يضع النقاط على الحروف.

أما من يريد أن يقوم بمهمة تشابه مهمة الطبيب العام، فيريد أن يعرف كل شيء عن كل شيء فمحال فإن أبى إلا المغامرة، فطروحات هزيلة، وأفكار فيها شيء من العُجاب، ومجانبة للصواب، وقد يزيد الأمر تعقيداً، ورأي يُنبئ عن ضحالة في التفكير، والتخبط شنأنه، وفتح باباً للذي يصطادون في الماء العكر على مصراعيه، ولهذا قيل \" من دخل في غير فنه أتى بالعجائب \".

 ولهذا شاهد الكل منا أن هناك من أراد أن يساهم ويدل بصوته في الأحداث التي داهمت الأمة فزاد الأمور تعقيداً، والطينة بلة.

وإن كان في هذا الموضوع عزاءً فلا عزاء إلا للدين وأهلهº فلكل واحد ممن عدم المعرفة والعلم الخوض فيما يتعلق في الدين حتى ولو كان في الأحكام والقضايا الشائكة: تقويماً ونقداً، وترجيحاً وإفتاءً، وتقديماً وتأخيراً، و....ولا نرى سوط الجلاد يمر إلا على ظهور المؤسسات الدينية وأفرادها.

فصار طريق للبروز، والإشارة بالبنان، فكم انصرفت أنظار إلى أناس بعد طروحات وأراء فأخرجتهم من ضمير الغيبة إلى ضمير الظاهر؟ ! فقد مرتهم السنون ولما يبرزوا، فسلكوا ذلك المنحى الخطير ليظهروا. ولقد قيل: \" إذا كنت خاملاً فتعلق بعظيم \"، ومن أمن الرقيب ساء الأدب!.

بينما نراء حساسية زائدة، ومراقبة صارمة تجاه من يقترب من بعض شؤون الحياة كطب الأبدان، وأمن الأوطان فضلاً عن الخوض والغوص فيه من غير المتخصصين فيه وأهله.

ولنكن منصفين وصرحاء مع أنفسناº أننا نجد وللأسف الشديد كثيراً من الرموز ممن تصدر للأمة يقوم بمهمة مثل مهمة الطبيب العام، ولم يستفد من السنين الماضية!.

فبعض من تولى توجيه الأمة تجده يدلي برأيه في كل قضية تنزل بالأمة بكل ثقة وارتياح سواء لها تعلق بالدين أم لا، فمرة تجده في عالم السياسة فمشاركة فعالة فيما يسمى بالنظام العلمي الجديد، ومرة أخرى تجد له تحليلات اقتصادية، فمن خلال مقال واحد أو كلمة لا تتجاوز الساعة فند الحجج التي تعتمد عليها \" التجارة الحرة \"، وذكر البدائل التي تغني الأمة عنها، وعند حديث الساعة ألا وهو المرأة وقضاياها لم يدخر في ذلك وسعاً، فأدلى بما تجود به نفسه، وعند الطروحات العسكرية ضرب بسهم، فأوقف الأمة على سرعة تهاوي النظام البعثي في بغداد عسكرياً.

وأما موضوع الشباب ومشاكلهم وقف على الداء وصرف الدواء في آن واحد، وليس لأحد عذر بعد الآن.

وعند البدء بما يسمى بالانتخابات البلدية طرح برنامجاً انتخابياً فمن سلكه كان الفوز حليفه، ومن زهد فيه فالفوز بعيد المنال منه.

وقل مثل ذلك في موضوع الإعلام، والبطالة، والعمالة ولا ننسى أن نذكر أن له دراسات تعالج مشاكل التعليم النظامي. وأن له تجربة مع الصحافة سيحتفظ بها التاريخ للأبناء والأحفاد.

وإن كان هذا المسلك لقي قبولاً ورواجاً في سنين مضت فالسائد في مصادر المعرفة، ومعرفة ما يدور في الساحة على المادة الصوتية، والأسلوب الخطابي، فالقليل من الناس تجده يطلع على المسطور. مع حصر السماع على نطاق ضيق. مع الاعتماد على الغير في المعرفة والرؤى والمواقف والعلاج.

أما في هذا الزمن فلا حدود لمصادر وقنوات المعرفة، وأحداث الساعة بداءً بالصحف السيارة، ومرواً بالقنوات الفضائية، وانتهاءً بالشبكة العنكبوتية.

والإحساس من قبل المرء بالوصول إلى درجة تؤهله أن يقف على الحقائق بنفسه، وأن يدلي بصوته ورأيه مثل غيره.

وفي العقد الماضي كان الارتياح والثقة باتجاه أفراد وطرحاتهم وإن كان ليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل لا سيما من يملك مقومات نجاح المادة الصوتية، وضد ذلك الكره والاتهام لأفراد آخرين فلا قبول لطرحاتهم وإن كانت من شنأنهم.

دعوة إلى الوقوف عند قوله - تعالى -: ((وَمَا أُوتِيتُم مِّن العِلمِ إِلاَّ قَلِيلاً)) (الإسراء: 85).

وأخذ العبر والدروس من حديث أبي بن كعب، أنه سمع رسول الله يقول: ((إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك)).

وتفهم قوله - عز وجل -: ((قَد عَلِمَ كُلٌّ أُنَاسٍ, مَّشرَبَهُم كُلُوا وَاشرَبُوا مِن رِّزقِ اللَّهِ)) (البقرة: 60).

ودعوة إلى الإلمام، والإتقان، والإبداع، والإنتاج، والتقدم في عالم المهارات. وقيمة كل امرئ ما يحسنه.

إذا غامَرت في شرف مرومِ *** فلا تقنع بما دونَ النجومِ

ودعوة عند دراستك لنازلة من النوازل، أو إبداء رأي في أمر ماº فمن خلال تخصصك، وفنك مدعوماً بالحجة والبرهان.

ودعوة إلى مجتمع يتقاسم المهام، ويتوزع الأدوار، فيزخر بالمهارات، والإبداعات، فيتحقق الإلمام بكل شيء.

والبعد عن إزعاج الآخرين بطروحات ورؤى تنبي عن ضحالة في التفكير والمعرفة، ومعلومات ضئيلة، والتقليل من شأن العلم الآخر، واستخفاف واستهتار بعقول آخرين.

وحذاري أن تكون تُكأة لاستعداء العِداء على الدين وأهله.

العمر قصير، والأماني طوال، والنفس توَّاقةٌ لمعرفة كل شيء، فمن المحال الإلمام بكل شيء، دون الاستحالة عن معرفة أشياء عن شيء، وشيء عن أشياء.

قال ابن خلدون: لا يفي عمر المتعلم بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها، وقال: إن المتعلم ولو قطع عمره في هذا كله، فلا يفي له بتحصيل علم العربية مثلاً الذي هو آلة من الآلات ووسيلةº فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة؟ و لكن الله يهدي من يشاء.

فهذه إشارات، والإشارات تغني اللبيب عن العبارات.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply